خديجة مسروق يكتب الجندر والمعايير المجتمعية
قراءة في رواية العبور على طائرة من ورق لزينب السّعود

بأسلوب لغوي محكم و سردية باذخة تدعونا الروائية زينب السّعود للتعرف على عائلة روايتها العبور على طائرة من ورق , وهي الجزء الثاني من روايتها السابقة الحرب التي أحرقت تولستوي .أبطالها مجموعة من الطلبة لم تمهلهم الحرب الروسية على أوكرانيا إنهاء دراستهم بالجامعة الأوكرانية . بعد الظروف الصعبة التي عاشوها داخل الملاجئ ,قامت طائرة الإجلاء بنقلهم إلى بلدانهم . وعادوا إلى أهلهم بدون شهادات .
تستحضر السعود مجموعة من المتناقضات باعتبار أن المعاني تكتمل بالأضداد.الحب و الكره , الحنان و القسوة , التضحية و الأنانية . طائرة حقيقية تقل مجموعة من الطلبة تكسرت أحلامهم بسبب الحرب وتعود بهم إلى بلدانهم خائبين , وطائرة من ورق يعلقون عليها أحلامهم المتكسرة على أرض الواقع لترتفع بهم إلى فضاء نقي لا توجد فيه حروب و لا صراعات .
أفكار مكثفة عالجتها السّعود بجرأة , الفوارق الاجتماعية , الاختلاف الجنسي و نظرة المجتمع للمرأة و الرجل بما يتميز كلّ منهما عن الآخر .الجندر من الموضوعات المثيرة في الرواية العربية الحديثة .الروائية زينب السعود تتعمق في سرديتها دائما و لاتقف عند الموضوعات العامة و السطحية , فكان موضوع الجندر و الهوية الجنسية حاضرا في روايتها .
اختارت شخصية أمجاد , الاسم الذي لا توجد فيه تاء التأنيث . تارة تذكره بضمير المذكر و تارة بضمير المؤنث .أمجاد ذكر في ثوب أنثى , عاشت حياة بائسة ومضطربة . كانت هي و أختها قد تركتهما و الدتهما ,التي تزوجت بعد وفاة والدهما .و تخلت أميرة عن خطيبها و تنازلت عن حلم الأمومة , لتتفرغ لتربية ابنتي أخيها أمجاد و هديل . لما صارت أمجاد في سن الخامسة عشر عرضتها عمتها أميرة على أخصائية نسائية , التي صارحتهما بالحقيقة الصادمة, وهي أن أمجاد لا تملك رحما , بل لديها أعضاء تناسلية ذكرية ضامرة , تتطلب عملية جراحية تحدد هوية أمجاد الجنسية .
المآسي التي ألمت بشخصية أمجاد زادتها قوة و إصرارا على مواصلة دراستها بالخارج . عازمة في الوقت نفسه على إثبات هويتها الجنسية , وكانت أول خطوة تبادر بها للتحرر من جسدها الأنثوي هو تخليها عن الحجاب .لأن الطبيعة الداخلية لشخصيتها ترفض حياة الازدواجية . أمجاد كانت تبحث عن ذاتها غير آبهة بما سيقوله الناس عنها .
من المقربين للطالبة هتاف ابنة الدكتور عبد السلام أمجاد , كانت هتاف تجدها أهلا للوفاء والإخلاص , غير أن عبد السلام المثقف حين عرف بسرّ أمجاد عمل على إبعادها عن ابنته , حيث تدخل بالاعتماد على معارفه حتى يحول هذا الولد المتأنث إلى جامعة أخرى . و حين عودتهما إلى بلادهم بعد نشوب الحرب على أوكرانيا, ظل مصرا على إبعاد أمجاد عن ابنته . فقرر هذه المرة إرسال أمجاد في بعثة إلى تركيا لإكمال الدراسات العليا بحجة أن تخصص الهندسة مطلوب بكثرة هناك يمكنها من الحصول على وظيفة بسهولة . أمجاد تجهل سبب إبعاد عبد السلام لها عن ابنته , لأنها لم تكن تدري أن عمتها أميرة أخبرته بما كانت تراه سرّا يخصها وحدها .
أمجاد عاشت محرومة من حنان الأم التي تركتها وهي طفلة وتولت عمتها تربيتها .هذه العمة التي غمرتها بالحب والرعاية ومع ذلك ظلت تشعر بفقد كبير .ما حدث لها في طفولتها زرع بذور القسوة و قتل كل إحساس جميل بداخلها . وسبب لها جروحا نفسية تعمقت حين أخبرتها الطبية بأنها ذكر في ثوب أنثى .التهمة التي ستلاحقها مدى الحياة .
هتاف الشخصية المقابلة لشخصية أمجاد . أمجاد وهتاف شخصيتان مختلفتان في الطبيعة و النشأة .
أما الأخيرة فقد شملها والداها بحب كبير إلى درجة الإفراط . و بالغ والدها في الاهتمام بها ,لم يمنحها الفرصة لتواجه مصيرها بنفسها .اختار لها تخصص الطب , وهي التي تعشق الأدب جدا , تحب الشّعر وتدمن على قراءة الروايات.عادت من جامعة أوكرانيا بعد ثلاث سنوات من الدراسة .ربما منحتها الحرب الفرصة في التراجع عن دراسة تخصص لا ترغب فيه . فهي ليست أهلا لدراسة الطب , تملك حسا مرهفا و كأنها خلقت للأدب وفقط . هتاف التي درست ثلاث سنوات في الطب لكنها لم تتفطن لابن أختها الذي كان مصابا بمرض عصابي , كما عجزت عن إسعاف أمجاد حين سقطت مغميا عليها .
والد هتاف كان قد كلف أحد الطلبة بأن يراقبها في رحلتها الدراسية في أوكرانيا ,و ينقل له أخبارها باستمرار . إحاطتها بالاهتمام الزائد و كأنها في حصار جعلها إنسانة هشة من الداخل , تفتقد لذاتها و لشخصيتها , لأنها نشأت في أسرة تعاملها معاملة طفلة لا يُسمح لها بأن تكبر .
أمجاد فقدت الحبّ الأبوي و الحنان الأمومي منذ الصغر,وهتاف مُنحت كل الرعاية و الحبّ من طرف والديها إلى درجة الإفراط .كلاهما فقد شيئا مهما منذ الطفولة . أمجاد وهتاف يعيشان صراعا نفسيا رهيبا بسبب الظروف المحاطة بهما .
فهل سيرحم المجتمع أمجاد إذا خضعت للعملية الجراحية و تحولت جنسيا ؟ هل سيلتمس لها المحيطون بها العذر بأنها كانت تريد فقط استرداد هويتها الجنسية و لا ينعتونها بالشذوذ؟
ماذا لوترك الدكتور عبد السلام الرجل المثقف ابنته هتاف قريبة من أمجاد , هل ستؤثر عليها وهي المضطربة نفسيا قبل أن تتعرف على أمجاد ؟ ما سبب خوف هذا الأب على ابنته إلى هذه الدرجة ؟
وسط هذه الظروف المتشابكة ,تحاول شخصيات السعود العبور على طائرة من ورق تحلق في الهواء تحمل آلامهم و أحلامهم إلى أعلى ارتفاع , ليتخلصوا من جحيم الواقع و لو للحظات ..