أخبار عاجلةالرئيسيةدراسات ومقالات

عماد خالد رحمة يكتب الشِّعرُ بين إيقاع التفعيلة وحرية المعنى

في الدفاع الجمالي عن الشعر الحرّ عند نازك الملائكة

منذ تشكّلت القصيدة في الوعي الإنساني، ظلَّ السؤال حول تعريف الشعر متأرجحاً بين قطبي الإيقاع والتحرر، بين ضوابط الشكل وتجليات المعنى، بين القالب الوزني المتوارث، والانفلات التأويلي الذي يمنح اللغة طاقتها الكونية. وقد كان هذا السؤال، على كثرة ما طُرح، يؤكد أن الشعر ليس مجرّد “كلام موزون مقفّى”، كما صاغه العرب، ولا هو فقط “انفعال جمالي” يتخطى الأوزان كما أراده الرومنسيون، بل هو كينونة لغوية تتأرجح بين النَظْم والنَفَس.
_ الشعر الحرّ بين القيد والإبداع
في منتصف القرن العشرين، لم تكن ولادة الشعر الحرّ مجرد تمرّد جمالي على القصيدة العمودية، بل كانت استجابةً لتحولات الإنسان العربي، وهمومه، وحاجته إلى شكلٍ تعبيري أكثر انسياباً، وأقلَّ تكلفاً. ووسط هذا الحراك الشعري، ظهرت نازك الملائكة لا كشاعرةٍ مجرّدة، بل كمنظّرة أسست لفكرة أن الشعر الجديد يحتاج إلى شرعية عروضية، كي لا يتحوّل إلى نثرٍ مكسوٍّ بالرؤى.


في كتابها المرجعي “قضايا الشعر المعاصر”، عرّفت نازك الشعر الحرّ بقولها:
“هو شعر ذو شطر واحد ليس له طول ثابت، وإنما يصح أن يتغير عدد التفعيلات من شطر إلى شطر، ويكون هذا التغيير وفق قانون عروضي يتحكم فيه.”
بهذا التعريف الدقيق، تؤكّد نازك أن “الحرية” في الشعر الحرّ ليست فوضى، بل انسيابٌ ضمن ضوابط. إنّها حرية منضبطة، تمارس التجريب ضمن إيقاع داخلي لا يخرج عن قواعد البحور العربية، لكنها تُعفي القصيدة من عبء البيت التقليدي ذي الشطرين المتقابلين.
_ التفعيلة كوحدة إيقاعية
ترى نازك أن وحدة الشعر الحرّ ليست البيت، بل التفعيلة، تلك الوحدة الصوتية التي تتكرّر موسيقياً في البحر الشعري. فعلى سبيل المثال، حين يختار الشاعر بحر الرمل (فاعلاتن)، يمكنه أن يُنظّم أشطره على الشكل التالي:

فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
فاعلاتن فاعلاتن
فاعلاتن
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن

يظهر من هذا النموذج أن الشاعر حرٌّ في عدد التفعيلات، لكنه ملتزم بنوع التفعيلة، وهذا ما يجعل قصيدته تنتمي إلى الشعر الحر، لا إلى الشعر المنثور، ولا إلى النثر الفني الذي افتقد الموسيقى الداخلية.
_ بين نازك والسيّاب: اختلاف التأسيس واتحاد الهدف.
كثيراً ما يُنسب “الريادة” في الشعر الحرّ إلى الشاعر العراقي بدر شاكر السياب، غير أن الفرق بينه وبين نازك أن السياب قدّم قصائد تجريبية حملت روح الشعر الحر، بينما نازك شرّعت له باب التنظير والعقلنة. كانت نازك تكتب وفي ذهنها سؤال العروض والوزن، أما السياب فكان يكتب وفي قلبه همّ الصورة والمعنى. وكلاهما أسّس لتجربة شعرية جديدة حملت همّ التحديث دون قطع الصلة مع الجذور.
_ من الشعر الموزون إلى شعر التفعيلة: تحولات المفهوم.
لم يكن ما قامت به نازك مجرّد “تعريف”، بل هو تأسيسٌ لرؤية جمالية تحترم التراث دون الارتهان له. فهي لا ترى في الوزن قيداً خانقاً، بل نغمةً داخلية تشكّل بُنية الإحساس. تقول:
“الحرية في تنويع عدد التفعيلات أو أطوال الأشطر تشترط بدءًا أن تكون التفعيلات في الأسطر متشابهة تمام التشابه.”

أي أن “التنويع” لا يعني الفوضى، بل يعني مرونة ضمن انتظام، وتغييراً من داخل البنية لا خارجها. وهو ما يؤكد أن الشعر الحرّ، في نظرها، ليس لحظة انشقاق عن القديم، بل لحظة تجديد له، وفق إيقاعات العصر.
_ الشعر الحرّ ومأزق “النثرية”.
يُعيب بعض النقّاد على الشعر الحرّ أنه يفتح الباب للنثر المقنّع. إلا أن نازك الملائكة ردّت على ذلك بدقة، حين وضعت حداً فاصلاً بين الشعر الحرّ والشعر المنثور. فالشعر المنثور، بحسب رأيها، يفتقد الوزن كلياً، ولا ينضبط على تفعيلة، بينما الشعر الحرّ يظل مشدوداً إلى إيقاع داخلي تفرضه التفعيلة المتكررة، وإن اختلف شكلها وعددها.
وقد شاركها هذا الرأي كبار النقّاد، منهم محمد غنيمي هلال وإحسان عباس، الذين أكدوا أن الشعرية لا تتحقق في النثر مهما رقّت لغته، إن لم يكن له _ موسيقى داخلية تُشعَر ولا تُحصى.
_ شعر التفعيلة: استجابة لقلق العصر.
يرى الشاعر والمفكر أدونيس أن القصيدة الحديثة هي “إعادة اختراع للغة”، وأن الشاعر الحقيقي هو الذي “يكتب انطلاقاً من قلق المعنى لا من انتظام الوزن”. ومع أن أدونيس اقترب في بعض نصوصه من الشعر المنثور، إلا أنه ظل مشدوداً إلى الإيقاع، باعتباره بُعداً داخلياً لا يُختصر في التفعيلة فقط، بل في الطاقة الموسيقية الكامنة في الكلمة وتركيب الجملة.
إنّ هذا التصور يقودنا إلى إعادة التفكير في الشعر الحرّ لا كشكلٍ عابر، بل كتحوّلٍ استراتيجي في مفهوم الشعرية العربية. فهو، بحسب نازك، تحرير من الشكل لا من الجوهر، ومحاولةٌ لإبقاء الشعر حيّاً، دون أن يُسحق تحت ركام الوزن، أو يتلاشى في ضباب اللغة.
_ خاتمة: الشعر الحرّ… صوتٌ يتّسع للعصر
لقد قدّمت نازك الملائكة عبر تعريفها المتماسك للشعر الحرّ مشروعاً شعرياً متوازناً، يُنقذ القصيدة من الثبات، ويمنحها الانسياب دون فوضى. أرادت للحرية أن تكون انضباطًا ذكيًا، لا هروبًا من الوزن، وللشاعر أن يكون واعيًا لموسيقاه، لا تابعًا لرغبة كسر القيد فحسب.
وهكذا، فإن الشعر الحرّ، كما تراه نازك، هو لحظة وعي شعريّ وجماليّ، تحتفي بالوزن دون أن تُستعبد له، وتُعلي من حرية التعبير دون أن تسقط في فخ النثر.
الشعر، في نهاية المطاف، ليس ما يُقال، بل ما يُشعر به عبر صمت اللغة وموسيقاها الخفية…
هو ذلك الارتجاف العميق الذي يحدث حين تلامس الكلمة إيقاع الروح.

 

عماد خالد رحمة – برلين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى