الجميلي أحمد يكتب: ديوان لا تجرح الماء للشاعر أحمد قران الزهراني بين إشكاليات الفكر وتجليات قصيدة التفعيلة
تتحمل الميديا الإعلامية السياسية والثقافية وزر كثير من المفاهيم والأفكار المغلوطة والتي تتحول بكثرة ترديدها إلي ما يشبه الحقائق وهي أبعد ما تكون عن ذلك ومن تلك الأفكار مثلا ما تروج له تلك الميديا عن ثقافة وإبداع المجتمع السعودي العربي الذي تم اختزاله وتقليصه في خيمة هنا أو ناقة هناك….! وفي قصيدة مدح الأمير أو غزلية تقليدية لمحبوبة إلي آخر ما استقر في بعض الأذهان ومما راج وانتشر في كثير من الأوساط الثقافية أن قصيدة التفعيلة لم تعد قادرة علي التعبير عن الشوق الإنساني المعاصر وأنها صارت أختا شقيقة لقصيدة الخليل العمودية بشطريها الرتيبين
…..! ويجئ ديوان لا تجرح الماء للشاعر السعودي أحمد قران الزهراني ليمثل حاله شعرية وثقافيه تنقض كل تلك الدعاوي والأوهام بما يطرحه من تجليات وظواهر فنيه متعددة يشتبك بعضها مع كثير من تلك الأفكار والمفاهيم السائدة لينقضها ويؤكد عكسها فضلا عن اشتباكه أيضا مع قضايا الفكر والنقد في مجتمعاتنا العربية وقد حفل الديوان بنصوص شعرية حقيقية كان للصورة والمجاز فيها السبق فضلا عن قدرة وتمكن وبراعة الشاعر في الاتكاء علي اليومي والعابر والهامشي دون تصنع أو تكلف ليخلق قضاء شعريا يقل نظيره عند كثيرين من كتاب قصيدة التفعيلة ليجمع بين موسيقي العرض وبين أجواء ومناخات التشكيل الحداثي المعاصر دون أن يستشعر القارئ شيئا من خلل أو قلق:
وجه المدينة غارق في التيه
ليس لساكنيه
وقد تمارس في شوارعه الخرافة
قد يغيب عن الحياة
وقد يلوك المخبرين
يخاتل السكري وشاية الغربة
………….
أخذتك أغنية الجريدة من حروف قصيدة .
………….
لربما أخذتك صورة نسوة في لوحة الإعلان
………….
ربما نختار من شعرائنا من يقرأ الدستور
………….
نسيت تقرير الإجازة عن غيابي ليلة الحمي .
………….
والمكواة مطفأة لعل الوقت لا يمضي بعيدا.
………….
لم يعوا من وصفه
إلا رصيف المخبر البلدي
………….
كل ما يعنيهم خبر الصباح وكوب شاى
إن بنعناع وإن
جسد
………….
وتصحو تحدق في شاشة العرض
وتكره بعض المذيعات
………….
كي أعبر الحزن من شارع
………….
ومن يقرؤون كتاب الأمير صباحا بلا أسئلة
. ………….
وثمة عشرات الصور والتعبيرات الأخرى التي جاء نسقها البياني علي هذه الوتيرة العذبة الجميلة من تضفير المفردة اليومية العابرة مع النسق العروضي ليؤكد الشاعر أن قصيدة التفعيلة لا تزال قادرة علي العطاء وليرد بذلك علي أنصار قصيدة النثر الذين لا يرون الشعر إلا في نسق واحد فقط لكننا نؤكد ان الشاعر في ديوانه هذا لم يقصد فالشاعر ليس معنيا بقضية النثر فهو شاعر فحسب يكتب الشعر نثرا وموسيقي وقد أصدر من قبل ديوانا ضم عددا كبيرا من النصوص النثرية لكننا نتحدث عن الشعرية المفقودة والضائعة والتي يؤكد الشاعر هنا في لا تجرح الماء أنها غير مرتبطة بشكل او قالب ما دامت أدوات الشاعر مكتملة وما دام قادرا علي التوظيف الفني الجيد
ولعل من أخطر تطرحه النصوص لا تجرح الماء في مجملها حقيقة العملية الإبداعية في المجتمع السعودي الذي يتصور الكثيرون ـ خطأ وغواية ـ أنه مجتمع محافظ تقليدي لا يزال أسير لقصيده الطلل او المديح فالنصوص تكشف عن ثقافة شعرية تنويرية حقيقة وعن تمرد لا يليق إلا بالشعراء الحقيقيين فنحن أمام نصوص قلقة ومتمردة لا ينهل صاحبها من ثقافة الخيمة والإبل ولا ينحت من الصحراء والقيظ إنه يتعامل مع ثقافات العالم المختلفة ويصادق رموز الفكر والثقافة مقتربا من الأشواق الإنسانية العامة شأنه في ذلك شأن شعراء العالم الذين يقبضون علي جمرة الشعر.. ويمكننا تلمس ذلك فيما ورد في نصوص الديوان عن(فان جوخ ـ موزارت ـ هوليوود فينوس ـ كتاب الأمير) وما ألي ذلك من إشارات حملت دلالات فنية شعرية عالية دون أن تقتصر فقط علي مجرد الاستدعاء. وقد كانت مهارة الشاعر فائقة وهو يحرص علب الموازنة التامة والكاملة بين ثقافته العربية الموروثة وثقافته الإنسانية المعاصرة فهناك (هارون الرشيد ـ السيد البدوي ـ سيدنا الحسين ـ يوسف) بل إن تلك النصوص اتكأت علي موروثها الحضاري والثقافي التوراتي والإنجيلي بشكل ملحوظ وكان لاستدعائه للبلاغة القرآنية الحظ الأوفر :
لم يقم مذ كنت في المهد صبيا
………….
ثيابهم ورق من الشجر .
………….
ما علمته السنين العجاف
………….
ضمي تراب يدي إلي راحتيك
………….
فتية ٱمنوا بالغوايات
………….
غاية في نفس يعقوب
. ………….
من كانت تراود رغبتي
وتقد من نزق قميصا لا يوراي سوأة
………….
نحن إذن أمام شاعر يقرأ التاريخ والفلسفة ينتمي لثقافة عربية لكنه معني في الأساس ب الإنسان الكوني وهو شاعر حداثي بكل تحمله الكلمة من معني وقد حملت الواحد وعشرون قصيدة التي تضمنها الديوان روح شاعر وثقافته الحداثية المعاصرة التي تدفع عن مجتمعه كثيرا من تلك الأفكار المعلبة والجاهزة التي نجحت الميديا العالمية في تصديرها والترويج لها
وربما كان ملمح القصيدة/ الأنثى هو الملمح الرئيسي ولهم المسيطر علي وجدان الشاعر في قصائده يبدو ذلك واضحا من اختياره للقصيدة الأولي نفسها لتكون تصديرا لديوانه فهي ذاتها بعنوان القصيدة
القصيدة نافذة الروح
قول الحقيقة في موطن الشك
صوت الملائك في غسق البحر
………….
القصيدة أنثي تراقص مرآتها
القصيدة ذنب حلال
دعاء مجاب
ويقول في وشاية الغربة :
صوره الأنثى الخطيئة
………….
عزفوا علي وجع القصيدة
………….
وفي قصيدة جسد
تأتي علي جسد القصيدة .
………….
ربما أنثي تعير الشمس نزوتها .
………….
رغبة أنثي إذا ما استسلمت
في خلوة محمومة
………….
أنثي تداعب بعضها نزقا وتهذي
………….
وإذا تتعبنا قصائد الديوان فلن قصيدة من ملمح القصيدة/الأنثي
كي ترسم الٱن شكل القصائد
وحدي قرين القصائد
ولا مشرك في القصائد
كي نكتب البدء والمنتهي للقصائد
حد اقتراف القصائد
معي في تفاصيل القصائد
مثل كل قصائد
كل هذا في قصيدة واحدة فصول
………….
لكنها مثل تجيد الغوايات
………….
قولا حكيما يراود أنثي لا تجرح الماء
………….
وانحناء الحرة الأنثى سفر البدء سفر الانتهاء
وهكذا إلي أخر الديوان يزاوج الشاعر بين الأنثى والقصيدة متخذا من الحب والشوق لكل منهما متكئا فنيا ليوظف جدله معهما وحنينه إليهما طارحا في نفس الوقت عددا من القضايا الإنسانية كالجوع والفقر والحرية وقلق الإنسان وعلاقته بالكون والإله والمصير بشاعرية مرهفة ورقيقة لا يقدر عليها الكثيرون وتكمن الصعوبة في أن تلك الأفكار أقرب للكتابة السردية العادية لا الشاعرية. والحق أن الشاعر يقطع خطوة مهمة في مشروعه الشعري حيث يشكل لا تجرح الماء إضافة حقيقة لمنجزه السابق الذي بدأه عام 1998بديوان ماء الثلج ثم بنصوصه النثرية إمرأة حلم عام 2000 ثم بياض عام 2003لبياغتنا هنا بتجربته الجديدة والمدهشة لا تجرح الماء والصادر 2009 عن دار رياض الريس للكتب والنشر.
دام رصدك النقدي الثري شاعرنا الجميل الجميلي احمد