دراسات ومقالات

أيمن حماد يكتب : “مصنع الأصنام”.. السرد الروائي من أحادية التاريخ إلى رحابة التخييل

القراءة النقدية الأولى في سلسلة دراسات د. أيمن ..

أيمن حماد يكتب : “مصنع الأصنام”.. السرد الروائي من أحادية التاريخ إلى رحابة التخييل

من جديد، يعود الروائي المبدع محمد جراح إلى التاريخ، مستلهمًا – ببراعة فنية – أحداث حقب مهمة من تاريخ مصر الفرعوني، هذا التاريخ الذي يعد استلهامه سمة مائزة في روايات جراح، بداية من رواية «تي.. الملكة المشرقة» الصادرة في العام 2009، مرورًا برواية «باتا…. سيف الحق» الصادرة في العام 2015م، ورواية «رب البداوة» الصادرة في العام 2017م، وانتهاء برواية «مصنع الأصنام» الصادرة عن مركز الحضارة العربية بمصر في العام ٢٠٢٠.
من هنا، يلحظ الدارس لهذه الروايات سالفة الذكر، قصدية المؤلف المتجلية في الاتكاء على التاريخ الفرعوني، بحقبه المختلفة، متخذًا منه مادة خام لصوغ روائي تخييلي، باعثًا من خلاله دماء جديدة في شرايين هذا التاريخ، عبر الفن الروائي المعاصر، ومعبرًا من خلاله عن أحداث العصر وما يمور فيه من صراعات وطموحات وآمال وآلام الإنسان.
وعلى الرغم من اتكاء الرواية العربية منذ بداياتها على التاريخ، فإن الرواية الحديثة، بعد تطورها على يد كتاب كثيرين، اتخذت من التاريخ وسيلة، وليست غاية كما سبق، في تحبيك الكتابة الروائية، منطلقين من حرية الإبداع لتوسيع بنيات التاريخ وإشباعها اجتماعيًا، وتتبع الأحداث بطريقة فنية متاحة للمبدع وعصّية على المؤرخ. فسلط الروائي ضوءه على مكونات الشخوص وافترض حديثًا لأحاسيسها ودواخلها، واجتهد في فهم الدوافع الحاسمة وراء خياراتها، مستلهمًا من السوسيولوجيا ومن علم النفس ومن العلوم الإنسانية المعاصرة ما يمنحه الثقة والجرأة على تعميم المشترك الإنساني روائيًا – على حد قول أحد الدارسين. (انظر عبد السلام أقلمون: الرواية والتاريخ. سلطان الحكاية وحكاية السلطان، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، ٢٠١٠، ص ١١٤)
من هذا المنطلق، فإن محمد جراح قد حقق هدفين من استلهام التاريخ في رواياته، الأول: قراءة الحاضر من خلال الماضي، إدراكًا لوجوه الشبه بينهما في الأحداث والوقائع، والثاني: الإفادة مما يمنحه التاريخ من وسائل فنية في إغناء العمل الأدبي وإثرائه، من خلال إسقاط أحداثه وشخوصه على الواقع المعاصر، وهنا تتكامل حلقات الدائرة الفكرية والفنية، التي يتيحها امتزاج الرواية بالتاريخ، “وقد وفر التحام الرواية بالتاريخ فرصة للإمساك بالواقع المظلم المرير وتشريحه أفقيًا وعموديًا، جوانيًا وبرانيًا.. وجعله يقف أمام المرآة بتؤدة كبيرة، ليفتح عينيه على المخازي والمقابح متكررة ومتجذرة في خطابين متآزرين: الرواية والتاريخ”. (أقلمون: السابق، ص ١١٦)
ولعل كل ذلك ما ينطبق على رواية «مصنع الأصنام»، التي استلهم من خلالها جراح أهم حقبة في تاريخ مصر الفرعوني، وهي فترة حكم الأسرة التاسعة عشرة، التي تلت عهد إخناتون وأخلافه الضعفاء من الملوك، الذين كادت مصر تفقد قوتها ويضيع مجدها لولا مجيء قائد الجيش حور محب، الذي خلصها من كهنة المعابد وصراعاتهم الدينية، وعلى رأسهم الكاهن «أي»، وبالتالي أعاد حور محب المجد لمصر وخلصها من أعداء الداخل والخارج، وتفرغت للبناء وعاشت أزهى عصورها مع ملوك الأسرة التاسعة عشرة، ولقد تضح ذلك جليا إبان تولي الملك الطفل «توت عنخ آمون»، الذي تشير المصادر التاريخية إلى أنه «تولى أمر بلاده في بداية العقد الثاني من عمره، وتُوفي ولما يبلغ ختام هذا العقد، وهو غير مسئول بداهة عن الأعمال التي تمت في مستهل حكمه؛ إذ كان قاصرًا، ولم يكن له من الأمر شيء، بل كان في الواقع لعبة يتقاذفها الكاهن «آي» والقائد «حور محب»، يتلقفها هذا مرة وذاك أخرى، واستكانت اللعبة أخيرًا في يد القائد «حور محب» الذي سيطر على شئون الدولة، وهيمن على كل مرفق داخل البلاد وخارجها، فهذان اللاعبان اللذان تناوبا أمور البلاد في هذه الفترة هما المسئولان عما جرى فيها، ولقد كان من سوء طالع التاريخ أو من سوء طالع أمير البلاد الصغير أن القدر لم يمهله حينما قارب النضوج، وأخذ يدب فيه روح الرجولة، فاختفى فجاءة من مسرح الحياة دون أن يترك لنا كلمة عن حياته ونشأته، ومراميه التي كان يهدف إلى تحقيقها، وهو على سرير الملك، ولكنه ترك لنا في الصور التي أمر بنقشها على أثاثه الجنازي ما يكاد يغني عن الكتب المخطوطة، والوثائق المسطورة، فعرفنا منها ميوله وأخلاقه، وكثيرًا عن حياته الخاصة إذا كان فعلًا يقصد ما صوَّره».( سليم حسن: موسوعة مصر القديمة، الجزء الخامس، مؤسسة هنداوي، ٢٠١٩، ص ٤٠١)
وهنا يبدو ذكاء المبدع محمد جراح، في هذا الإسقاط على تلك الفترة، التي أراها شبيهة بتلك الفترة التي عاشتها مصر بعد عام ٢٠١١ حينما جاءت جماعة الإخوان إلى الحكم وعاشت مصر سنة من الصراع والجدال والإرهاب المقيت على يدي جماعات الإسلام السياسي، إلى أن قامت ثورة الثلاثين من يونيو، التي كانت نهاية لتلك الحقبة السوداء، واندحر جحيم الإرهاب وأنصاره من سدة الحكم.

تعدد الأصوات
تنتمي رواية «مصنع الأصنام» إلى الروايات المتعدة الأصوات Polyphonic novels فالرواة متعددون، كل واحد فيهم يروي حكايته من منظوره الخاص، وتلك سمة هذا النوع من الروايات التي نبذت ما أطلق عليه «ديكتاتورية السارد الأوحد»، بحيث ترك لها المؤلف الحرية في الحكي والبوح، من دون تدخل منه، الذي اتهم قبلًا بأنه هو البطل أو هو المحرك للشخوص في حالة السرد غير المتعدد، فهنا جاءت النقلة من «ديكتاتورية السرد» إلى ديموقراطية السرد.
وذلك ما أشار إليه بلماحية الناقد والمنظّر جراهام ألين Graham Allen في مؤلفه البديع عن «التناص»، بقوله: «في الرواية متعددة الأصوات لا نجد صوتًا موضوعيًا للمؤلف يقدم العلاقات والحوارات بين الشخصيات، ولكن عالمًا تمتلك فيه كل الشخصيات – وحتى الراوي نفسه – وعيها الخطابي الخاص بها. تقدم الرواية متعددة الأصوات عالمًا لا يمكن أن يقف فيه الخطاب الفردي أعلى من زي خطاب آخر، كل الخطابات هي تفسيرات للعالم، واستجابة لخطابات أخرى». (جراهام ألين: التناص، ترجمة محمد الجندي، المركز القومي للترجمة، ٢٠١٦ م، ص ٣٢)

يتكون المتن السردي للرواية من خمسة فصول، يتوزع الحكي على لسان إخناتون، الذي يحكي عن تآمر الكهنة وسيطرتهم على شئون المملكة وضعف أبيه ومجونه واستحواذ الأم على كل شيء، كما يحكي عن دعوته رلى التوحيد ومجابهته فساد عقيدة الناس وآلهتهم المتعددة، ثم محاربة الكهنة له، وهروبه وتنازله عن العرش، يقول:« تصدعت أركان بيتي وغادروني جميعًا ولم يمكث معي غيرها؛ مثلما تصدعت أركان العقيدة في كل أركان المدينة ولم يتبق لي سوى الكاتب الذي بدا جزعًا وهو حائر بين وفاء لمليكه السابق؛ وجزعه من مستجدات الأمور؛ فلم أتركه حتى صرفته بسلام؛ وقفنا وحيدين نصلي ونبتهل؛ لكن الأيادي الممتدة بالخير اختفت؛ والنافذة المشرعة أوصدت؛ والأبواب المفتوحة أغلقت؛ وتهاوى الدرج الصاعد مثلما تبخر القبس الهابط فساد ظلام؛ قررت الهجرة معها إلى حيث لا أعلم؛ وأنا على يقين بأنني إن لم أعد في غد مظفرًا فلسوف تعاود السماء ويعاود «آتون» فتح النوافذ والأبواب ومد الأيادي وتشييد الدرج، لم أشك للحظة أن الرب عائد؛ وأن كلمته سوف تعلو؛ وأن شريعته سوف تسود؛ وسيعلو دينه فلا يكون في الكون إلا هو». (الرواية: ص ٣٣)
أما الصوت السردي الثاني فيتمثل في «غنخس إن آمون» ابنة إخناتون ونفرتيتي وزوج الملك الطفل «توت عنخ آمون» المغدور، وهي تروي في منولوج طويل مأساتها بعد زواجها من هذا الملك، الذي لم ينضج بعد، تآمر كل من في القصر عيها حتى تمت هذه الزيجة من طفل مثلها، وحينما بلغ سن النضوج غدروا به، وزاد من عذابها ويأسها أيضًا زواجها من كبير الكهنة «آي»، بعد إلحاح أم الملك المغدور عليها بحجة الحفاظ على العرش، وأنه عند إنجابها من هذا الكاهن سينسب الابن إلى «توت عنخ آمون»، تقول: «وجدت نفسي منذ وعيت وحيدة في قصر منيف تتدفق المشاكل بين جدرانه تدفق الماء في اليم القريب؛ وتنهشه كل المنغصات نهش “ابن آوى” لجثث الفقراء المدفونة في العراء؛ فلا يخلو يوم من جدل وصراعات وفناء أرواح!؛وكنت كثيًرا ما أستيقظ من نومي المتقطع على زعيق وصراخ؛ ولا أفيق منتبهة إلا على نحيب وعويل! ». (الرواية: ص٣٤، ٣٥)
أما الصوت السدي الثالث، فهو الكاهن «أي» ويحكي عن قصة صعوده العرش وتوليه الملك، وحقد قادة الجيش، وخاصة القائد حور محب، وكذلك حقد كهنة المعبد عليه، وفشله في زيجته من أرملة الملك «توت» المغدور، لكن المفاجأة هنا أننا نجد أمرًا قاطعًا بقتل «توت عنخ آمون» على يديه، مع أن المصادر التاريخية لم تقطع بذلك، ويلاحظ أيضًا تدخل المؤلف بالإرشادات المسرحية وكذلك بالسرد عن «أي» بأسلوب الراوي العليم؛ فلم يدعه يسترسل في حكيه ومنولوجاته المنفردة، التي جاء أغلبها بضمير المتكلم، واستعان المؤلف أيضًا بمعلومات وأدعية من المصادر التاريخية وكتب العهد القديم، وعلى الرغم من كثرتها، وكان بإمكانه الحد من هذه الكثرة، فإن أغلبها جاء متضافرًا مع السرد، وأبان عن دخائل الشخصية ودوافعها لارتكاب كل فعل أقدمت عليه، ومتخذة من كل تلك الأدعية والمعلومات التاريخية تكئة لتبرير أفعالها، وذلك رغم غلبة الطابع المونولوجي على السرد الروائي.
من هنا، فإن الحوارية، كما يشير جراهام ألين بحق، لا تتعلق ببساطة بالاشتباك بين مختلف الخطابات التي محورها الشخصية، فالحوارية هي أيضًا سمة أساسية للخطاب الفردي لكل شخصية. وكما يذكر باختين: العلاقات الحارية يمكنها أن تتخلل النطق، وحتى داخل الكلمة الفردية، ما دام اصطدم اثنان من الأصوات داخلها حواريًا. هذا ما يعنيه بمصطلح الخطاب المزدوج double Voice discourse. (ألين: السابق ص٣٣)
أما الصوت السردي الرابع، فيتمثل في الملكة «تي» زوجة الملك «أمنحوتب» الثالث، التي تروي قصة زواجها منه وإهماله شئون الملك وتسلط الكاهن «آي» وخضوع القصر للمعبد وكهنته، وما قاسته على يد «آي»، بعد زواجه منها ووفاة ابنها «توت»، الذي كان وصيًا عليه، فتقول:
«كان «توت» طفلًا وصار ملكًا؛ واضطررت حتى استرضي الكهنة والغاضبين للقبول بآي وصيًا عليه حتى يبلغ الملك سن رشده؛ يومها كان “حور” قائد الجيش حاضرًا؛ ولكن هكان مشوًشا؛ وبدا مشغوًلا بأمر لم يفصح عنه؛ وتلكأ لسانه كثيًرا حتى نطق بالموافقة على ما ارتأيناه؛ وليلتها أطال النظر في وجهي كما لو كان يعاتبني على اختياري لآي دونه؛ هل كان بالفعل يريد الوصاية على العرش؛ أم أنني أنا من قرأت ذلك وفسرته بطريقتي؟؛ ومثلما أطال النظر في وجهي كذلك فعل مع «عنخس»؛ ولما أنتبه لنظرات «آي» رفع وجهه في وجهه وهو يرمقه بعصبية واضحة حتى بدا كمن يتوعده!؛ أطال النظر غيظًا في وجه الكاهن حتى خفض «آي» وجهه وصرف عنه نظره؛ ولم أقرأ ساعتها في عيني “حور” إلا احتقارًا لآي وزمرته؛ وبدا يتعجل المغادرة؛ وما إن انتهينا من ترتيب الأمر حتى طلب الإذن بالانصراف؛ وهرول خارجًا؛ وخرج في إثره «رعمسو»؛ وفرد ملاحوه أشرعتهم وأقلعوا باتجاه الشمال حيث مقر العسكرية في مدينة “من نفر” ليعيد تنظيم وتأهيل فرق وألوية الجيش.» (الرواية: ص ٨٠)،
وفي الفصل يروي القائد «حور محب» قصة ضعف «تي» زوجة أمنحوتب وتسلط الكاهن «آي» زميله في الجيش الذي انتقل إلى المعبد وصار كبير كهنته، وأنه شخص مخادع، ظاهره المتدين مخالف لباطنه، حيث يرتكب كل الحماقات للوصول إلى أطماعه التي تجلت في خداع «تي» وتعيينه وصيًا على «توت عنخ آمون»، ثم غدره بها وخبسها في إحدى بنايات المدينة النائية، ويلاحظ أن السرد في هذا الفصل يغلب عليه الطابع التاريخي (السرد التاريخي)، إلا في المواطن التي يروي فيها الأحداث بنفسه (ضمير المتكلم والمناجاة)، وفي تقديري، أن ذلك الصنيع أفقد هذا الجزء من الرواية كثيرًا من التشويق للقارئ، ولو جعل السرد بضمير المتكلم، دون تدخل من السارد العليم، لكان أفضل، ولكان الإيجاز أفضل من هذا الاسترسال الزائد في السرد.
ولعل أهم ما في هذه السرود المتعددة من جانب هذه الشخصيات، هي إضفاء الطابع الإنساني عليها وخروجها من دائرة التاريخ الضيقة بسردها الجاف إلى رحابة الفن الروائي التخييلي، الذي أضفى عليها واقعية وصدقًا وأبان عن دخائل الشخوص التي كشف حكيها عن جوانب من قريناتها من الشخوص الأخرى، بالإضافة إلى بوحها بما يعتمل داخلها، فأضحت في حوارية مع العالم كله، عالمها الداخلي، والخارجي في آن، وهذا ما يعنيه باختين بـ«المبدأ الحواري»، وربما هذا ما حدا بناقد مثل إم .فورستر إلى القول بأن «الأدب أصدق من التاريخ؛ ذلك أن الأديب عندما يتناول حدثًا أو شخصية تاريخية يجد الحرية الكاملة في الانطلاق وراء خفايا الحدث ودوافعه، أو وراء التجربة الخصوصية للشخصية، بينما يقف المؤرخ جامدا إزاء هذا؛ ذلك أنه ملتزم برواية الحدث كما هو. وحتى في محاولته إعمال فكره فهو لا يستطيع أن يلجأ إلى التصورات الفكرية، وإنما هو ملتزم بالمنطق العلمي، أو بطريقة أخرى فإن مجال الخيال مفتوح أمام الكاتب، بينما هو مغلق أمام المؤرخ». (حلمي بدير: دراسات في القصة والرواية، عن أقلمون، مرجع سابق، ص ١١٥)
لكن ما الأمر الجدير بالملاحظة في هذه الرواية، هو انتقالها من السرد المتعدد الأصوات، في فصولها الأربع الأولى، إلى السرد أحادي الصوت في فصلها الخامس، الأخير، الذي غلب عليها السرد الواحد والوصف المسترسل الذي لم نجده في الفصول السابقة، ولعل هذا ما أدى إلى اتساع مساحة الفصل الأخير في فضاء هذا النص، حيث استغرق ما يقرب من مائة صفحة، تخللتها حوارات بين الشخوص ووصف لبعض المدن والقرى المصرية القديمة ووصف لبعض الأشخاص، وكل ذلك مقرون بإعادة سرد لبعض الأحداث التي رويت في الفصول الأولى، لكنها هنا عن طريق الحوار بين الشخوص كالقائد حور محب، وبعض مساعديه والملكة «تي» والكاهن «آي» وغيرهم.

كتب: أيمن حماد

https://operamisr.com/2023/01/

https://www.youtube.com/watch?v=H5b-RY60YIY&t=106s

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى