عاطف الشاذلي : يكتب العبقري الفنان الإنسان
عاطف الشاذلي : يكتب
العبقري الفنان الإنسان
تراودني بين الحين والآخر نوبة اشتياق حثيث على الخوض في تاريخ قريتي العمار التي لاتنفصل أبداً عن كل تفاصيل حياتي ، فأجدني مشدودا دائما بين شريحة واسعة من الشباب والأصدقاء إضافة إلى مخضرمي السياسة والفكر والأدب والفنون .
وفي كل جولاتي بين تلك الطوائف المختلفة في القرية نستحضر الكثير من تاريخ قريتنا فأجد ثوابت وعلامات هامة من الشخصيات التي مرت على العمار ثم رسخت لقيمة لم تمحها كل تغيرات الزمن ، منها تلك الشخصية التي لازلنا نستلهم حضورها في كل معترك ثقافي أو أدبي أوفني .. إنه المبدع المثقف الناقد الفنان المخرج الكبير عبدالمنعم عثمان صلاح ..
ورغم أني لم ألتق به سوى مرات معدودة أغلبها في سنوات الصبا ومرحلة الجامعة لكن تكونت لدي سيرة طيبة من بعض رفقائه ممن عاصروه وشهدوا على عبقريته الواسعة وإسهاماته الممتدة في كل إنحاء مصر ..
ولد عبد المنعم عثمان في قرية العمار الكبرى بتاريخ 9 يناير عام 1939 وحصل على ليسانس الآداب قسم صحافة عام ١٩٦١، وتم تعيينه بوزارة التجارة وتدرج فى المناصب حتى وصل إلى مراقب عام مراسم الضيافة والإستقبال بالوزارة، وأثناء عمله بالوزرة التحق بالمعهد العالي للسينما.
وبعد حصوله على المؤهل الجديد تخصص فى الإخراج للأفلام التسجيلية، وبصفته شابا من شباب العمار المستنير فقد ساهم في حركة شباب العمار في ستينات وسبعينات القرن الماضي مع نخبة من أبناء جيله من العمار وخارجها ، وآمن بالدور المحوري للثقافه كمفرد حيوي من مفردات الحياة في العمار ، واستطاع هو ورفاقه من الشباب الحر أن يقوموا بحركة شبابية يعتبرها الكثيرون ثورة ثقافية هائلة غير مسبوقة في كل ربوع مصر، حيث استطاعوا بعد جهد كبير بتفعيل الأنشطة الثقافية في القرية، وأصبح مركز شباب العمار من المراكز الشبابية المتطورة، ومن بين هذه الأنشطة أدخل النشاط المسرحي من خلال إنشاء فرقة مسرحية ضمت عناصر موهوبة، واستطاعوا بحكم صداقته لهم أن يقدموا عدة مسرحيات في زمن لايعرف أحد من الأهالي من العمار والقرى المجاورة ماهي كلمة مسرح ، وذلك في حقبة الستينات منها مسرحيات (الغريب) و(البريمة) و(لصوص بره القفص) و(جمهورية فرحات) وغيرها ..
وبحكم تواجده في القاهرة واندماجه في الحركة الثقافية بها استطاع أن يتعرف على أشهر المثقفين في ذلك الوقت منهم الشعراء عبدالرحمن الأبنودي وسيد حجاب وفؤاد قاعود وعزت عامر وغيرهم بالإضافة إلى الكثير من المثقفين والمبدعين ، كانوا يحضرون إلى العمار ليقدموا إسهاماتهم الفنية والأدبية والتثقيفية، وبحكم دراسته للسينما فقد قام بإخراج عدة أفلام منها فيلم عن محصول المشمش وفيلم العمار بقريته مسقط رأسه وفيلم المعدية بقرية ميت عفيف مسقط رأس زوجته ..
وقد حصل على جائزة الفكر والإخراج عن هذه الأفلام، كما حصل على جائزة الدولة التقديرية كأحد أهم مخرجي الأفلام التسجيلية.
وإذ تحدثنا عن نشاطه في العمار تحديداً فقد ساهم بشكل كبير من خلال الحركة الشبابية هو ورفاقه في الإرتقاء بمستوى الثقافة والفكر في القرية حتى أصبحت العمار منارة للفكر والثقافة يتوافد إليها المبدعون من كل أنحاء مصر.
وقد تم ترشحه في انتخابات المؤتمر القومي فى عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ومنافسة أعتى أساطير الإنتخابات فى ذلك الوقت مثل احمد زكي، وفاز بعضوية المؤتمر القومي (الذي أصبح مسماه مجلس الشعب فيما بعد)، وألقى كلمة أمام الرئيس عبد الناصر ، ورغم بساطه نشأته إلا أن روح التحدي بين شباب العمار الذين آزروه والتحموا معه في هذه المعركة التي فاز بها بجدارة حتى وصل إلى مكانة مرموقة.
كما حصل على جائزة الدولة التقديرية للقصة القصيرة عن قصته (الجميزة) لتعبر عن شخصية عبقرية متعددة المواهب .
ومن إسهاماته في مجال الأفلام التسجيلية أنه سافر الى المملكة العربية السعودية بدعوة من الملك خالد لعمل فيلم تسجيلي عن الأضاحى وكيفية الإستفادة منها لصالح فقراء دول العالم الثالث حيث اتخذت المملكة بسبب هذا الفيلم قراراً بتغليف هذه اللحوم وإرسالها إلى فقراء العالم الثالث ، وقد تم تكريمه من المملكة عن هذا الفيلم التسجيلي الرائع ..
وعن إنسانيته أكد جميع المقربين منه ممن عاصروه أنه كان يتمتع بشخصية رقيقة مرحة ومتواضعة مع ثقافة هائلة وإجادة تامة للغة الإنجليزية ، وحين تجلس معه لا تجد غربة في حواره رغم أنه يعد قيمة وقامة كبيرة لم يصل أحد من العماريين إليها للآن لكنه لم ينس أهل قريته ومخاطبتهم كل على قدر ثقافته، وكان الكل يجالسه يستمتع معه ويقدرونه حق التقدير واستمر على وفائه لكل ماهو عماري حتى وافته المنية يوم 24 أكتوبر عام 2000 ..
رحم الله هذا العبقري الفريد وأسكنه فسيح جناته وجزاه الله خير الجزاء عما قدمه لقريتنا طوال حياته الممتدة فيها ..
(شكراً للأساتذة أنس المصري ومسعد عبدالسلام اسماعيل ومحسن شوقي الذين أمدوني بمعلومات وافية عن تلك الشخصية العظيمة) ..