ساحة الإبداع

على مر الزمن قصة عزة عز الدين

 

 

ذات صباح استلقت على مقعد فى شرفتها وكانت غفوتها هذه المرة بعيدة حيث استرجعت يوما بائساً دامياً, وضعت فيه ابنتيها أمامها على طاولة الطعام وقبل البدء شعرت برجه عنيفة تحت قدميها الأرض تهتز والجدران والسقف والنجف أدركت أن انهياراً سيحدث فى الحال فحملت ابنتيها وركضت بأقصي سرعتها نحو باب الشقة, غادرت وقفزت على الدرج الذى تزاحم عليه الجيران فى دهشة بالغة وصراخ وفزع, لم يستغرق الأمر أكثر من دقائق غابت تماما ً بعدها عن الوعى لأيام , أفاقت لتجد نفسها ممددة على أحد الأسرة وقد التف حولها زوجها وبعض الأقارب يتحدثون فى ألم وحسرة عن الزلزال والأموات والخسائر, ولحظات قاسية سبقت انهيارات وتصدعات وأزمات.

تذكرت ما حدث وصرخت تسأل عن ابنتيها ضمها زوجها وهو يبكى وربًت على كتفيها لتصرخ “اوعى تقول كدا ” .. ضمها أكثر وأخبرها أنه جاء على أول طائرة فى اليوم التالى مباشرة للزلزال, أمام بيتهم وجد حطاماً يوحى بأنه لم ينجٌ أحد, ثُم أخبره صاحب البقالة القريبة عن جارتهم الوحيدة الناجية وقد تركت له رقمها  للاتصال, ذهب إليها فوجد ابنته الأكبر بسمة فى رعايتها أما نسمة التى تصغرها بعام فقد فارقت الحياة تحت الانقاض لم يبقى منها سوى أشلاء ودفنت مع باقى الضحايا ولم يستخرج لها فى هذه الظروف الدامية شهادة وفاه.

أما زوجته فقد نجت وحملتها سيارة الاسعاف الى المستشفى القريبة, أعطته ابنته وهى تقص عليه هذه الأهوال وعن هذا الأكثم الناجى بعد أكثر من 82 ساعة فقَد فيها تحت الحٌطام أمٌه و زوجتة وابنتيه أمام عينيه.

كانت تسرد تلك المآسي لتعزيه فى فقد ابنته ودعت له ان يعوضه الله بشفاء زوجته ويٌبارك فى ابنته الثانية

حَمَلْتٌ ابنتنا واتجهت الى المستشفى أبحثٌ عنك وحمدت الله على سلامتك لنتقبل قضاءُ الله بالرضا والصبر, أجهشت فى البُكاء وضمت طفلتها وحبست الحسرة فى قلبها, بعد أيام غادرت المستشفى وعبثا حاولت اللقاء بجارتها لتسمع منها التفاصيل.

أفاقت سلوى من هذه الشاردة الحزينة عن هذا الاثنين الأسود على صوت ابنتها الناجية وقد أضحت صبيه جميلة “رٌحتى فين يا ماما” .. أجابت “الحمدلله ” تناولا افطارهما سريعاً واستعدت بسمة للانضمام للمتظاهرين فى ثورة 25 يناير وقد عجزت سلوى أن تُثنيها عن قرارها وتقول “فقدت أختك فى الزلزال ولا أريد أن افقدك فى هذا الخطر” .

لم تستجب بسمة وأنضمت للمتظاهرين احتجاجا على الاوضاع السياسية والاقتصادية المتردية ثائرين على فقرا و جهلا وفساد, حاملين على أكتافيهم عبء إنقاذ وطن بات يئن من فرط الوجع .

نجحت الثورة وحصدت معها الكثير من أرواح الشباب, فكانت بسمة ذات البسمة ضمن من جادوا بدمائهم ثمناً للحرية لتنضم لقوافل الشهداء و”الورد اللى فتًح فى جناين مصر” .

ازدات حسرة سلوى بفقد ابنتها الثانية كانت تجلس على ذات المقعد فى شرفتها تسترجع أحداثا داميةً أٌخرى وقد فقدت تماماً الشعور بطعم الحياة, يربت زوجها على كتفيها ويذكرها بالصبر والايمان .. تمضي الأعوام سريعاً وعلى مر الزمن كثيرٌ من التفاصيل والمفآجات والمنعطفات لو انصهرت كلها فى بوتقة واحدة فلن تكون بحجم تلك الجائحة العالمية أوائل عام 2020 , جاءت هذه الكورونا لتثبت للعالم بأجمعه ضآلة كل شيء أمام قٌدرة الله وقًدره, حصدت آلاف الأرواح فى دهشة عجز الجميع عن إستيعابها ,وها هي سلوي ترقد فى مستشفى العزل تنتظر مصيرها وتبتهل إلى الله أن يخفف عنها آلالمها لا تجد حولها من يهدهد خاطرها سوى دعم هذا الزوج الأصيل وإن كان عبر الهاتف, وإطلالة وجهه صبٌوح اعتادت فى الأيام الماضية رؤيته.

 نور طبيبة شابة تتابع المرضى عن كثب لا تتخدر وسعاً فى رعايتهم, تعلًقت سلوى بها وأحبتها ربما لأنها ذكًرتها بابنتيها الراحلتين.

عند المسحة الثانية والتى أكدت شفائها أعدت لها الطبيبة المحبوبة قرار الخروج, ابتسمت فى وجهها وتمنت لو تٌقبلها.

على ذات المقعد فى شرفتها كانت تتذكرها كل صباح وتدعو لها بالسعادة وقد حنً قلبها لعناق حار يُشبع حرمانها من ابنتيها, اتصلت بها وطلبت منها اللقاء فقبٌلت الطبيبة ذات القلب الغض ووعدتها بذلك عند فك الحظر وعودة الحياة للحياة .

تقابلا فى النادى بعد أسابيع تحسنت فيها الأحوال مع الأخذ بالإحترازات, وعلى ذات الطاولة إنضمت لهما أم نور, والتقت العيون – هذه عيون تعرفها سلوى جيداً و صوت أكد لها هذه المعرفة- تعجبت من انسحابها المفاجئ وتملكت سلوى الكثير من الدهشة باتت لا تنام من فرط الحيرة ثم قررت أن تٌفاجئهم بزيارة ربما تتيح لها فرصة معرفة هذه الأم الغريبة .

طرقت الباب ففتحت الأم للتتقابل الوجوه دون أقنعة, لم يستغرق الأمر طويلاً لتتذكرها تماماً-  إنها جارتها الصديقة فى بيتها المهدوم – نظرت لها وقد أختلطت مشاعرها ” معقول … ليلي انتى مش فكرانى ” ارتبكت ثم رحبت بعدها ودعتها للجلوس, وبعد صمت عميق وتفكير أعمق بادرتها سلوى بسؤال ” ازاى نور بنتك ..انا من كنت معك فى زياراتك للطبيب الذى أكد عدم قدرتك على الانجاب, كنت شاهدة على هذه النتائج وطالما بكيتُ معك حين طلقك زوجك وتزوج بأٌخرى ليصبح أبا “

احتويتك فى هذه المرحلة القاسية وكنت جوارك دائماً حتى سلمتٍ بقضاء الله, انهارت ليلي وأجهشت بالبكاء وتحدثت ” فى يوم الزلزال كنت خارج البيت وصلت قبله بلحظات لأشهد بعيني الانهيار والحطام والصراخ, شاهدت من التفاصيل ما لا يتحمله بشر وبعد ساعات كنتٍ فى سيارة الاسعاف والبنتان على قيد الحياة بسمة بحالة جيدة ونسمة بحالة متردية تصارع الموت, ذهبت بها للمستشفى فوضعوها بالرعاية المركزة تركتها وعدت ومعي بسمة لأترك رسالة لزوجك عند محل البقالة .

فى اليوم التالى زارنى زوجك أعطيته بسمة ولكن تلجًم لسانى عن ذكر وضع  نسمة وأدعيتُ انها ماتت, ربما شعرت أن في شفائها منحة من السماء لأشعر معها بالأمومة التى حٌرمت منها, ولتعلمى أنه لولا وجودى بعد الله فى هذه اللحظة وإحتضانى للبنتين ما عاشت إحداهن, صرخت سلوى وكاد قلبُها يتوقف ” يعني نور بنتى ؟! ”

قاطعتُها ” انا من جعلنى الله سبباً لحياتها من جديد, أحتضنتٌها وأنفقتٌ كل ما أملك لتمام شفائها, ثم لاستخراج شهادة ميلاد جديدة نسبتٌها لي ولزوجي السابق الذى لم يعرف بهذا الأمر حتى وفاته, وانتقلتٌ بها فورا لمكان لا يعرفنا فيه أحد, كرًستٌ حياتى لأجلها حتى كبرت وأصبحت طبيبة ماهرة طيبة تأخذٌ بقلوب الجميع, وشاء القدر أن يَكون قلبُك أحد هذه القلوب .

قررت سلوى رفع دعوى قضائية لإثبات نسب ابنتها لها.. وأمام المعمل ووقفت نور باكية حائرة بين الأُمّين ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى