الروحانية في كتابة بهاء طاهر
كتب: عبدالرحمن عبيد
لا شك أن بهاء طاهر، من أباء الرواية المصرية الحديثة، بجانب أعلام من جيله، كإبراهيم عبد المجيد، و محمد البساطي، وعبدالحكيم قاسم، وغيرهم الكثير، ولكن يبقى قلم الأستاذ/بهاء طاهر، ذو رائحة صنوبرية خاصة، فهو قلم لا يكتب فقط بل يرسم ألواحاً فنية، تشم منا عنبر الموصل، ومسك بغداد.
وما سنتحدث عنه ليس إلا ملاحظة تكررت في عملين من أعمال الكاتب، لحظتها عند قراءتهما، وهم “واحة الغروب”، و “نقطة نور”، وقبل أن نشرع في ذكر ما سقطت عيني عليه وسجلته الكلمت في رأسي نعرف بالعنوان أولاً.
حينما أعني العامل الروحاني، فأنا أقصد الجانب الميتافيزيقي المختص بالـ(ما ورائيات) أو الغيبيات كما نسميها في ثقافتنا الدينية واللغوية.
بالرغم أن هذا الجانب يحتل شطراً من العملين وإن ظهر أكثر بثوبيه الصوفي في رواية “نقطة نور” والتي تدور أحداثها في سبعينيات القرن الماضي، وظهر بثوب الأسطورة الخيالية المحضة، المتمثلة في مناجة الأسكندر التي ألقاها عندما، توسلت كاثرين القدر أن يكشف لها سر مقبرة الأسكندر، فأخذ في الحديث بتراجيدية شخصية “هملت”، عن عجزه بعد كل هذه السنين عن الإجابة عن الأسئلة التي طرحتها وانهارت دموعها بين جدران معبديه دون جدوة .
والجانب الروحي، وصف في “نقطة نور”، عن طريق الدين وتحديداً التصوف، فنرا جد سالم، الذي تلقفته الحياة في تحدياتٍ ومواقف، لم يكن مستعداً لها ولم يكن مستعداً لكي يواجه بها أبناءه، ورغم تعلقه بشيخٍ تقيٍ في شبابه، وساعده بعيداً عن الخرافة والجهل، بالإيمان والصبر والاحتساب لله، إلا أنه، ينزلق لا في الخطيئة بقدر كونها الخديعة، فيربح الكثير ولا يتضرر منه أحدٌ، ولكنه يبحث عن ثقبٍ تنفذ منه روحه من تيه نفسه، ويتسائل ونتسائل معه، ما الخطب يا حضرة البشكاتب، ما الحل، وهل ستجد ما وعدك به أبو خطوه.
أم في رائعته “واحة الغروب” والتي استهلت البوكر العربية في دورتها الأولى عام ٢٠٠٨ بمنحها لهذه الملحمة الإنسانية التي يتقابل بها الشرق بالغرب، الحقيقة بالأسطورة، الجهل بالعلم، الحب والكره، الحياة والموت، في هذا العمل ومن وجهة نظري تتوظف الأسطورة في إطارها الخيالي وإطارها العُرفي عند القبائل، وسنبدأ بالإطار الأول والذي كان للسرد الإبداعي فيه دورٌ كبير، فالأطار الخيالي أو (الما ورائي)، كان في لحظة تضرع من الجميلة الإيرلندية “كاثرين” زوجة مأمور الواحة “محمود عبد الظاهر” هذا المنولوج الداخلي للشخصية والذي يذكرني “بالمواويل البغدادية” ولا أعرف السبب فهو تقاطع مع كل المشاعر التي تشكل شخصية كاثرين المضطربة، وفي لحظة يسدل الكاتب الستارة على المتكلمة، يظهر الاسكندر مرة واحدة وأخيرة، من فوق رأسها، شبح كتب عليه تيه في حياته وتيه حتى وهو يحلق فوق روؤس الجبال، فحتى بعد الموت لم يجد إجابة لأسئلته، فقد التف حول بصره وبصيرته عبائة سوداء تشوش أو تمنع سريان الحقيقة إليه، فيأخذ الأسكندر في هذا الفصل دور الراوي والشاعر، ويصير هملت اللحظة، وأدين النهاية، تبكي كلماته كلما تقدم في الحديث، وإن كان لا يبكي،و يعتذر كل حينٍ وحين، عن عجزه عن الإجابة أو حتى معرفتها، ولكن في نهاية المطاف هي لم لن تسمعه،
أم جانب الأخر والذي اسميته (الأسطورة في الإطار العرفي) وللأمانة لا اجد لها علاقة بالروحية بمفهومها السامي، إنما اعتقد أنها سجن للروح أو استعبادٌ لها فهنا تأتي بمعنى الحكايات الموروثة التي سطرت في عقول العامة من الناس، وهنا أقصد المعبد الذي حاولت كاثرين التنقيب فيه عن سر مقبرة الاسكندر الأكبر، وأهل الوحة يعتقدون أن تحت هذا المعبد كنز الأجدد، وأن اللعنة ستصيب القاصي والداني، وتطاردهم عبر الأجيال،إن كشف أحدٌ سر هذا الكنز، وقد وجد “محمود عبدالظاهر” الموضع المناسب لمصيره المحتوم سلفاً، ووجد الهدف منه وهو تحرير الواحة من الخرافات والأساطير، التي يقوي بها شيخ القبيلة شوكته وحجته بين العامة منهم والخاصة.
حينما نقرأ لبهاء طاهر، نراه لا يفصل الواقع عن الإنسان أو الإنسان عن الواقع، ورواياته يندرج فيها كل طوائف المجتمع وطبقاته، وكأن الرواية عند يهاء طاهر، ليست يوتوبيا توماس مور، أو مدينة أفلاطون، أو حتى جحيم دانتي مع العلم أنه لا يتورى عن مدح الأيدلوجيا التي يتبنها بين ثنايا الأسطر،أو بشكل واضح ولكنها ببساطة المجتمع ومن المجتمع وإلى المجتمع.
وإلى هنا ينتهي حديثنا عن العملاق بهاء طاهر، رزقه الله دوام الصحة والعافية.