أوبرا مصر تنشر الحلقة السادسة عن اللغة العربية والقرآن يكتبها أشرف البولاقي
الحلقة السادسة عن اللغة العربية والقرآن
الحلقة السادسة عن اللغة العربية والقرآن أريد الآن أن أكتب عن القرآن ولغتِه، ولأنني إنسانٌ عربي، أعيش في محيطٍ عربي يتنفس القرآنَ ليلَ نهار،
لا بدّ أن أتحسس حرفي وكلماتي جيدًا، رغم أنني لن أكتب طاعنًا فيه ولا معرّضًا بالمؤمنين به، حاشاي أن أفعل، ليس فقط احترامًا وتقديرًا له ولهم،
ولكن لأنني مؤمِن به، وينزل عندي منزلةً كبيرة،
لكن المشكلة الكبرى التي تواجهني أن فهمي واستيعابي لمنزلتِه وتأثيره، أكبرُ عندي مِن فهمي له كخطابٍ أو كـ نص لغوي، رغم أن الكتابة التي أريدها الآن غير متعلقةٍ به كـ خطابٍ أو كـ نَص، لكنها متعلقة به كلغة.
والسؤال الذي يبدو ساذجًا الآن هو ما الذي يريده القرآن مِن مخاطَبيه؟
هل يريد منهم أن يفهموه بيسرٍ وسهولة؟ أم يريد منهم أن يرهِقوا أنفسَهم في وعيِه واستيعابِه؟
هل هو منزّلٌ ليفهمه الناس العاديون الطبيعيون، أم هو مرسَلٌ ليقتصر فهمه على العلماء والأفذاذ والعباقرة؟
الإجابة السهلة البسيطة المباشرة: إنّ القرآن منزّلٌ ليُفهَم بيسرٍ وسهولة، وأنه منزّلٌ ليفهمَه العاديون الطبيعيون.
لكن الملاحَظ في القرآن أن فيه- لمن يتدبره- أحاجيَ وألغازًا على مستوييْن، مستوى اللغة التي خالفت كثيرًا ما دَرجت عليه لغة العرب، وعلى مستوى الدلالة، تلك التي لن نقف أمامها في قراءتنا هذه؛ فغايتنا اللغة.
لو سلّمنا الآن أنه مرسَلٌ ليفهمَه العاديون الطبيعيون، قلنا إنّ كل المحاولات المخلصة والنبيلة التي حفظها لنا تراث العربية لتفسير القرآن وتأويله، وكل فتوحات اللغة عند السيوطي والزركشي، ولا بأس أن نضيف الشعرواي،
رحِمه الله، وغيرهم، تلك التي غاصت واستخرجت لنا كنوزَه وجواهره اللغوية، تثبت لنا أنه ليس كذلك!
كما أن جهودَ التأويل الحديثة والمعاصرة، وإسهاماتِ البلاغة الجديدة، وتحليل الخطاب، وكثيرًا مما ذهب إليه نبلاء ومخلصون مِمن فرّقوا بين معاني الألفاظ ودلالاتها، وأضافوا مزيدًا مما بدا جديدًا ولائقًا بكتابٍ مرسَلٍ مِن إله..
أقول إنّ هذه الجهود أثبتت هي الأخرى أن الكتاب ليس للعامة على الإطلاق؛ لأن العامة لا يمتلكون هذه القدراتِ العقلية والبيانية لالتقاط ما التقطه المجتهِدون.
فإذا قيل إنّ الكتاب مرسَلٌ للعلماء والعباقرة والأفذاذ فقط، سَقط الكتاب وذهبت قيمته؛ فضلاً عن أن خطابه نفسَه يؤكد على أنه مرسَلٌ للعالمين، للناس جميعًا!
فكيف يرسَل للناس جميعًا، وهو على هذه الشاكلة من الإلغاز الجميل المبهر، الذي يستحيل التقاطه بسهولةٍ في أي مرحلةٍ من مراحل التلقي؟
وقبل استعراض المسألة، في محاولةٍ لفهم مرامي القرآن ومقاصده في موضوع اللغة، علينا أن نثبت للقارئ الكريم ما نذهب إليه،
مِن أن هناك عددًا من الانحرافات اللغوية المدهشة جاءت في القرآن، ولا أقصد بها تلك الشائعةَ المنتشرة التي يُظَن أن القرآن خالفَ فيه كلامَ العرب، كقولِه تعالى “إنّ هذان لساحران”،
أو نصْب “المقيمين للصلاة”، المعطوفة على “الراسخون في العلم”، و”المؤمنون”، في سورة النساء، أو رفْع “الصابئون”
المعطوفة على “إنّ الذين آمنوا والذين هادوا” في سورة المائدة، وما إلى ذلك… فكل هذا عرَفَته العرب، ويبدو تخريجه سهلاً.
لا… ليست هذه على الإطلاق، لكن هناك مجموعة أخرى لا عهدَ للعرب بها، سواءٌ في فترة الفطرة والذائقة، أم في فترة التدوين والتقعيد للغة..
وأعرف مقدًما أن الأمثلة التي سأعرضها لها إجاباتٌ وتخريجات، هي عندي كما عند كثيرين غيري، لكن جهود اللغويين
والنحويين في تخريجاتها حملت كثيرًا من الضغط والالتفاف، وسواءٌ أكنا متفقين مع التخريجات أم لم نكن، فإنّ أحدًا لم يشِر أبدًا للغرض الإلهي في انحرافات هذه الأمثلة، لم يسأل أحد “لماذا يفعل الله ذلك؟”،
غدًا نعرض بعض هذه الأمثلة…