دراسات ومقالات

عماد القضاوي يَكتُب : الأسئلة الوجودية..الحلم..محاولتان للانفلات إلى عالم أرحب..قراءة فى رواية طارق فراج “رمال سوداء”

ثمة علاقة وطيدة بين الأحلام وطرح الأسئلة الوجودية ، بين معرفة كنه الأشياء وآمالنا التي لا ترى أمامها خطوطا للنهاية ، الشتات الذي يحياه الإنسان والغيبيات التي تتحكم في مصيره بين الحين والآخر تجعله دائما فى حالة من التساؤلات. كون الإنسان يحلم بعالم أفضل وبحياة فاضلة ورغبته الملحة فى معرفة ما وراء الأشياء ، كلها دوافع للأسئلة الصعبة ، لماذا نعيش ؟ لماذا وجدنا فى هذا المكان ؟ لماذا قدر الله لنا هذه الحياة دون غيرها ؟ لماذا نحيا ما دام مصيرنا في النهاية الموت ؟ كلها مجموعة من الجمل الاستفهامية يطرحها “طارق فراج ” فى روايته ( رمال سوداء ) هي ولا شك من أجمل الروايات التي ترصد الواقع ألواحاتي ، وتؤرخ له خلال حقبة من الزمن ، تحمل بداخلها تراث الأجداد ورائحة الماضي العتيق . أسئلة كثيرة وأحلام مشروعة ، ولكن الأسئلة حين تفتقد الإجابات والأحلام حين تظل مكبوتة فى الداخل فقط ولا تشرق عليها شمس الله ؛ دائما ما تدفع الإنسان المتطلع للأفضل للهروب والانفلات ، ربما الهروب إلى عالم خيالي ، أو الاجتهاد طوال الوقت فى البحث عن هواء بارد يصطدم بتلك السحب الغائمة ليزيل غشاوتها وتبدو الرؤية جلية ، المحاولات هنا تظل مستدامة لسبر أغوار ذلك المجهول ، والصراع دائم بين الرضا بالواقع المعاش وبين الحلم بالانفلات لعالم أرحب .وهنا سؤال يفرض نفسه : أيهما يبدأ قبل الآخر ، الأسئلة أم الحلم ؟ نقول: الحلم هو الدافع الأول للتساؤلات، والواقع المرير الذي لا يتناسب وحجم أحلامك هو القاسم المشترك بين الاثنين . من أين يأتي سؤال: لماذا لم تجعلني يا الله غنيا ؟ ( مثلا ) من حياة بائسة فرضها الفقر على شخص لم يستطع تحقيق ولو حلم واحد . هو إذن ثالوث وثيق الصلة ببعضه.
رواية ” رمال سوداء ” تؤرخ لحياة الواحة تلك البقعة الملقاة وسط الصحراء ، والتي تقف هزيلة أمام عوامل الطبيعة القاسية ، الرياح ، الرمال العمياء التي تزحف نحو البيوت الواهنة ، كوحش ضارٍ، يبتلع كل ما يواجهه ، الصيف القائظ وجفاف المياه ، الشتاء القارص أمام أجساد لا تجد ما تتخفى به من البرد ، تلك الحياة هي التي دفعت “طارق فراج ” من خلال شخوص روايته ولا سيما ” حسين ” و” حمودة ” ثم “عبدون ” للتفكير ومن ثَمّ الحلم بالهروب من هذه المعاناة اليومية ، ورتابة الحياة . تتوالد من رحم تلك المعاناة تساؤلات عديدة عن قناعة هؤلاء البشر بالعيش هنا ، عن سبب وجودهم فى هذا المكان ، الذي ما يلبث الحلم فيه إلا أن يكون نبتة صغيرة فحسب .
هنا تبدأ الأحلام الصغيرة ، استخدام المتاح بالسفر فى الخيال إلى عالم مأمول ، يركب الأطفال الصخرة باعتبارها سيارة تقلهم إلى القاهرة ( العالم الأرحب ) حيث الخير الوفير ، وشجرة الدوم التي يبنون أسفلها منازلهم ويختارون زوجاتهم ويحيون حياة الكبار كما يحلمون …” كانت الصخرة الكبيرة، مثل بيضة طائر خرافي، سوداء وناعمة. طالما اصطففنا فوقها في الصغر؛ على اعتبار أنها سيارة العم “رزق” التي تحمل رجال الواحة لتقذف بهم في الغُربة لسنوات. كان ثمة إحساس واسع بالحياة، وخيال جامح يقود العربة، ويسافر بها إلى (مصر)، حيث الماء وفير والخير مكدس في الشوارع؛ تطوله الأيدي دون عناء، أو هكذا تخيلنا. كانت الصخرة متنفسا رحبًا، كما كانت شجرة الدوم (موطن طفولتنا ومرتع أحلامنا) وطناً حقيقياً نقضي فيه معظم ساعات النهار، فلا نبرحه إلا عندما يقرصنا الجوع. بيتٌ واحد يضمنا جميعا في ظل الشجرة. لا أدري لمَ لم نفكر وقتئذ أن نقلد آباءنا في أن يكون لكل طفل منا بيت مستقل. صنعنا بيتاً من الأحجار الصغيرة التي جمعناها من الفضاء الواسع المحيط بنا؛ حجراً إلى جوار حجر، لتتضح معالم البيت الذي كان يأوي الفتيات (زوجاتنا في اللعبة)، في ظل الشجرة، يجهزن الطعام إلى أن نعود (نحن الرجال) من الحقل. يصنعن الطعام من رمل وحصى وأوراق الأشجار، يضعنه في علب صغيرة وأوعية متهالكة لفظتها أمهاتهن خارج البيوت، ثم يقدمنه فوق حجر أسود كبير مستطيل الشكل، كان موجوداً بالصدفة أسفل شجرة الدوم من سنوات. طعام من الحصى وأوراق الشجر المفتتة، والتراب أيضاً، كان هو الطعام الألذ والأشهى مذاقًا في العالم.. كانت حقولنا المتخيلة على مقربة من ذلك البيت المتخيل. تلك الحقول التي نعود منها مجهدين!! فنزعق كما يزعق آباؤنا: ” هاتي الأكل بسرعة يا بت”، فتهرول الفتيات نحونا، يقدمن لنا الطعام. لا نرفع أعيننا نحوهن (كما كنا نرى الآباء يفعلون ذلك) ولو بنظرة شكر، فنحن (بحسب قوانين اللُعبة) في قمة الإجهاد وليس ثمة جهد فائض للترويح عن زوجات ينعمن بالظل بينما نعمل.
تلك كانت دنيانا الحقيقية، ولم يكن البيت والآباء والأمهات سوى حلم صغير سرعان ما نتجاوزه، لنعود في لهفة إلى الشجرة (الوطن)، فنفعل كما يفعل الآباء: نروي حقولنا حين يروون حقولهم، نزرع القمح حين يزرعون ونأنس إلى زوجاتنا في حجراتنا المتخيلة كما يأنسون. كان حمودة وعفاف زوجين، بدر وثريا زوجين، عبدون وراضية زوجين، وكنت أنا ومليحة زوجين. أما سليمان ابن الشيخ فلم يكن يلعب معنا تلك اللعبة إلا نادرا، وعندما يكون حاضراً ونحن نلعبها، نظل أنا ومليحة جالسين معه على بعد خطوات دون أن نشارك الآخرين. كان البيت وما حوله من أراض نموذجاً متكاملاً للواحة بعلاقاتها الإنسانية وأعمالها، وحيواناتها التي كنا نتخذها من جريد النخل، إلا أنه كان نموذجاً مثالياً يخلو من العراك والمشاكل .”
غاية الآمال لدى سكان الواحة ، هو السفر إلى القاهرة، حيث تُجمع الأموال كما يتخيلون ، حيث الوجوه النظيفة والفتيات الرائعات ،كما تمنى ” حمودة” الذي ملّ رعي الأغنام ، والذهاب إلى الحقل ، يتطلع إلى نهار وليل مختلفين.
” حاولتُ أن أكسر ذلك الصمت الذي طفح على وجوه الجميع فتوجهت إلى حمودة عله يخرج علينا بمزحة أو موقف من مواقفه العجيبة التي لا تنفد؛ سألته: ما بك يا حمودة؟
قال: حمودة: لا شيء، فقط أريد أن أترك هذه الواحة وأسافر إلى مصر، حيث الوجوه النظيفة والفتيات الرائعات.
نظرت سبيل إليه باستغراب، وعفاف لم ترفع عينيها عن الطعام، فتابع كلامه: أتمنى أن أعمل في أي شيء آخر، بخلاف رعي الأغنام والذهاب إلى الحقل. أريد أن أرى شيئاً آخر غير النخل والرمال والصخور، أرى وجوهاً غير تلك الوجوه التي أحرقتها الشمس، أشرب من ماء النيل، لا من عين المياه الحامضة التي زهدتُها. أتمنى ألاّ أرى الشمس أبداً. قال زوام: آه لو أتذوق طعم “الكُمثرى” التي سمعتُ عن طيب مذاقها ممن سافروا إلى هناك!!
ثم قضم قطعة من الخبز وابتدأ يلوكها بصوت مسموع.
هنا صفق حمودة: رائع يا زوام. إذن نسافر معاً، نعمل في جَمْع القمامةِ، حتى لو اشتغلنا ماسحي أحذية، المهم أن نسافر ونرى الدنيا. لم لا نسافر مثلما سافر “عوض”، تُرى كيف أصبحت أحواله هناك؟
عندئذ، سألهما سليمان: لماذا تريدان السفر؟ ألم تسمعا عن الشقاء والتعب اللذين يجنيهما الرجال هناك لقاء قروش قليلة. يجوعون وتنسحق كرامتهم من أجل أن يدّخروا القليل لعيالهم.
قال حمودة :لا بأس ، أريد أن أجرب ، إن الرمال التى تحيط بنا هنا تخنقني .”
وفي حوار “عبدون مع العمة فوز_ التي غاب ولدها منذ زمن ولا تدري أين هو _ عن العفاريت، تمنى أن تمسّه جنيّة ليطلب منها أن تطير به إلى مصر وتريحه من عناء الحياة .
“- أين هم العفاريت يا عمة؟
– ألا تدري يا مُغَفَّل؟ الأسياد هنا. وأشارت إلى الأرض، ثم تابعت قائلة: “هنا، تحت الأرض”.
– لا أسياد تحت الأرض، نحن الأسياد؛ الأسياد يكونون في الأعالي دائماً. قلت ضاحكاً ثم تابعتُ: “ثم ماذا يضيرني لو مسَّتني جنية جميلة، فربما تريحني من عناء الحياة هنا، سأطلب منها أن تطير بي مباشرة إلى مصر؛ أريد أن أرى أم الدنيا.
“متى أتعبتك الحياة يا صغيري؟ أنت لم تر شيئا بعد”، قالت، ثم تنهدت طويلاً وهي تتمتم: “اللهم رد كل غائب إلى أهله”.”
عند الاعتراض على الواقع تُطرح الأسئلة ، هنا الأسئلة وجودية ، أصبحت هكذا لفرط الرغبة فى التخلص مما هو كائن ،
التخلص من سطوة الكبار وعقلهم المتحجر ، من كونهم يسوقوننا إلى العيش على طريقتهم فقط ، فتقتا بذرة الأحلام ونتحول إلى آلات مقيتة . تساؤلا يطرحها بطل روايته :
” أتساءلُ أحياناً ما الهدف الحقيقي من هذه الحياة، إن كانت أحلامنا لا تتحقق كما نريد، إن كنا نعيش كما يريد آباؤنا، لا كما نرغب نحن. إننا دائما تحت سطوة الكبار الذين يتعللون بأنهم أكثر عقلا وخبرة. فليذهب عقلهم المتحجر هذا إلى الجحيم: لماذا لا نستطيع أن نعبر عن مشاعرنا بطريقة أفضل من هذه ؟؟ لماذا يقيدوننا هكذا ؟؟ إن أسبابهم وحججهم واهية، لأنهم لم يعطونا الفرصة أبدا للتعبير عن أنفسنا كما ينبغي.”
تصير التساؤلات أعمق وأبعد مما كانت ، تطرقت إلي الكون برمته ، كيف بدأ ؟ وما حدوده ؟ وأسئلة أخرى بين هذا وذاك . يبحث في داخله عن معنى الوجود ، وما غايته طالما كتبت له النهاية ! هكذا تتنامى الأسئلة من كونها محاولة للهروب من الواقع إلى درجة التأمل في حقيقة الأشياء وماهيتها .
“منذ ما يقرب من عام، وأنا أتصفح- كلما سنحت لي الفرصة- بعضاً من كتب الشيخ؛ قرأتُ منها نذراً يسيراً، وكلما قرأتُ أكثر كنت أشعر كم أنا وحيد في هذا العالم. إن باباً كبيراً من الأسئلة يُفتح على هوة سحيقة في عقلي الأجوف؛ هذا العالم – الذي سيستمر بي أو دوني- من أين بدأ؟ وكيف كان شكله حين وُلد؟ ما الخيط الدقيق الذي يربط بين الإنسان والكائنات والأشياء في هذا الكون، وما الحد الفاصل بينه وبينها؟ هل لهذا الكون حدود؟ ما معنى أن يولد الإنسان ليعيش حياة قصيرة، ثم يطمر وينتهي ذكره ليولد غيره؟ الحياة مليئة بدروب متعرجة تنفتح على جميع الاتجاهات، وما من دليل.. أين الطريق.. وهل ثمة غاية محددة تقودنا الخُطى نحوها، بينما الهوة تتسع على مداخل الدروب!”
وفي موضع آخر يقول “منذ صغري وأنا أتأمل الأشياء، وأتساءل. كنت أسأل أبي أحياناً، وأسأل أمي أحياناً أخرى : ” لماذا تبدو السماء في الأفق منطبقة على الأرض؟ أين تذهب نجوم الليل اللامعة حين يظهر ضوء الشمس؟ لماذا تتساقط أوراق الأشجار ما دامت ستنبُت أوراقاً أخرى غيرها، لماذا لون الأوراق أخضر؟ من أين تأتي الرمال؟ مَن وضع الأحجار السوداء الكثيرة بهذا الشكل في الناحية الشرقية للواحة؟ من أين تأتي مياه النبع، ولماذا تتدفق باستمرار ولا تنفد؟”.
حين كبرتُ، صارت لي أسئلة أكبر، وصارت الإجابات بعيدة المنال. في كل مرة كنت أتساءل فيها وأنا صغير، كان أبي إما يجيبني إجابة لا ترضيني، أو يحيلني إلى صديقه المقرب.”
ويقول متعجبا من رحابة المكان واتساعه إلا أنه ضيق بأحلام من فيه ، محدود بعجزهم عن الخروج منه: ” هذا الخلاء الواسع الذي لا يُحد، هل يدري بنا فيه أحد؟ ما الذي أستطيع أن أحققه من الأحلام في تلك الواحة الصغيرة، التي لا يعلم أحد بوجودها إلا الله؟ وما الهدف من هذا العمل الممل الرتيب الذي يُتَعهد به إليّ كل يوم؟ رعي الأغنام، مساعدة أبي في الحقل، الجلوس في ظل شجرة الكافور الضخمة إلى جوار بيت العمة فوز، إرهاف السمع إلى أحاديث الرجال حول الحقل، وقِلة المياه، وزحف الكثبان الرملية التي تهدد الزراعات، والجولات الصغيرة التي نقوم بها بين بساتين الفاكهة.
أعلم بأن الدنيا واسعة وتضج بالحياة من حولي. يُذهلني امتداد هذا الأفق، واتساعه اللانهائي. لابد من أن ثمة بلاداً كثيرة، لم يرها آباؤنا، ولن يروها. أتمنى أن أرى جزءاً منها. تأخذني قدماي مرات عدة عبر السهول الصحراوية الواسعة حول بيوت الواحة. أمشي بالساعات. أتجول خلال الكثبان الرملية الصفراء التي تمتد أمامي إلى ما لا نهاية لعلّي أعثر على ما لم أره من قبل. لكني أعود كل مرة كاسف البال. “
حين تحاصرك الأسئلة وتأتيك من كل حدب وصوب تصير مختلفا عن البقية ، دائما ما تحرك الأسئلة ما هو راكد داخلك . يصل الأمر لأن يكون هذا التساؤل عادة مرتبطة ارتباطا شرطيا مع كل فعل ، تقف وسط هذه الواحة بمفردك ، تواجه الرتابة والألفة والاعتياد على أعمال لا يخرج عن نطاقها أحد . الأصدقاء والأهل والبقية الباقية آلات مسيّرة بشكل برمجي نحو أعمال كتبت في دفتر أعمالهم اليومية ، لا تعنيهم التساؤلات فى شيء، ولا يبحثون عن مبرر لأي شئ يحدث فى هذا الكون
” كل ما يدور في خلدي من تساؤلات لا يهم أصدقائي في شيء، لا يهم أهل الواحة الذين يمرون كل صباح في الشوارع والأزقة، يطئون روث البهائم بأقدامهم الحافية ولا يبالون. يجرّون أبقارهم إلى الحقول، ويسوقون أغنامهم نحو المرعي.. يتابعون بجهد صادق أعمالهم الرتيبة ولا يتساءلون إلى أين؟ ولماذا؟
أنا أفعل كل هذا، لكن يوقظني في منتصف الليل صوت عميق يصرخ داخلي قائلا: “أنت، يا مَن تحيا هنا، هل من أحد يسمعك في هذا الكون الذي لا تستطيع سبر غوره أو معرفة حدوده؟ أنت هنا، كائن صغير، ذرة رمل في صحراء شاسعة، لكنك جزء من هذا العالم الذي تخبرك الكتب عنه. لا أعرف إلا النذر اليسير عن هذا العالم الذي أوجدني، ثم هَمَّشَني ونسيني، وربما نسي مكاني أيضا. أنا جزء من هذا العالم، كما أن الخنفساء، التي تنقش أثرها على الرمال حين تسير، جزء منه أيضا، من فورانه وأحداثه التي لا تنتهي.
أهل واحتي لا تحاصرهم الأسئلة، ولا يبالون بشيء.. يذهبون لحقولهم كل يوم.. يمارسون أعمالهم.. ربما تشاجروا لقلة المياه، لكنهم يعودون مع مغيب الشمس إلى بيوتهم وقد أنهكهم الكد وحر النهار، فينامون كأحجار مُلقاة في فلاة.”
أفلح “طارق فراج ” فى رصد واقع حقيقي لأشخاص نسيهم الزمن ، ولم ينسهم هو كراوٍ من قلب الحدث وشاهد على أحلام بعض منهم ومحاولاتهم للانفلات إلى عالم رحيب ، وإلى حيوات لم تخطر على بال ، ظلت أحلامهم تكبر معهم ، بل تكبر داخلهم ، لم تتعد حدود خيالاتهم ، تطبق الرمال السوداء عليها فيجرونها للخلف رويدا رويدا ، وتكبر داخلهم أسئلة لا تملكون لها إجابات ، كثيرا ما حلموا بأنهم يطيرون عاليا ، تلك الأحلام هي التي تجعلهم يواصلون العيش فى تلك الواحة الصامدة بذاتها فى وجه تغيرات الطبيعة الموحشة ، يستندون إلى قوة أرواحهم ، يستمدون منها العون والأمل لإيجاد ولو باب واحد للخروج .
” ينعكس نور القمر على حبات الرمال، فتلمع كنجوم متناثرة في السماء. من أعلى، نرى أسطح البيوت واهتزازات أضواء الفوانيس في النوافذ البعيدة، فتكبر في داخلنا الأحلام. أحلام الانفلات إلى عالم أرحب نرى فيه أناساً آخرين، وحيوات لم نخبرها، وطرقاً جديدة لم تطأها أقدامنا بعد.”

” كثيراً ما كنتُ أجلس وحدي: أفكر، أتخيل، ربما يكون ثمة شخصُ في نهاية العالم يجلس مثلما أجلس، ويفكر في أن يترك موطنه مثلي ويخرج في رحلة طويلة إلى منطقة منعزلة عن العالم، لا يعرفها أحد؛ منطقة لا تهتم كثيراً بما يحدث خارج حدودها. الناس هنا لا يشغلهم إلا الحقول والأبقار وجمع البلح وحصاد القمح، وشتل الأرز. “
” قضيتُ ليال كثيرة، يراودني حلم يتكرر في نومي، إذ أحلم بأنني أطير، وما عليّ إلا أن أفرد ذراعيّ فأجدني أطير فوق قمم الأشجار وهامات النخيل، أرى كل شيء من أعلى. إن أكثر الليالي هدوءاً واستقراراً لدىَّ، هي تلك التي أحلم فيها أنني أطير. ألهم الطيران كما ألهم النفس. ساعتها أصحو في الصباح رائق النفس، لدي أمل كبير في أن أصبح فرداً
حرأ في يوم من الأيام يفعل ما يشاء ، يتعلم ، يسافر ويشاهد “
” على المرء أن يشعر في بعض الأحيان على الأقل (في تلك الواحة التي وُلدَت وسط الصحراء القاسية ما بين حدود اليأس والألم) بأنه إنسان يحيا، يشعر بالفرح والحزن، ويمتلك القدرة على الحلم برغم أن الأحلام هنا نبتة صغيرة لم تذق طعم الماء. الأحلام مُسيَّجة بالكثبان الرملية العالية التي تزحف نحو الواحة ، المتناثرة هنا وهناك، تمد أذرعها الطويلة نحو أعناق النخيل. تضغط بجسدها الثقيل على مساحات واسعة من المزروعات، فلا تجعل لها أثراً.
قال لي الشيخ: على المرء أن يستدعي قوة روحه، يتأمل ما حوله. يتعلم، ويتشبث بالأمل. لا أدري عن أي أمل يحدثني الشيخ. فذراعاي ليستا مزودتين بأجنحة حتى أطير.”
تسوقنا قسوة الحياة في كثير من الأحيان _ مرغمين _ إلي الأحلام المشروعة ، وربما إلى غيرها . هذه الأحلام هي الماء للبذرة التي تطرح الأسئلة داخلنا، وهى بدورها تجعلنا نفكر فى إجابات لها ، وحين لا تطاوعنا الإجابات ؛ نلهث خلف محاولات الانفلات إلى عوالم أخرى .أن نكون أحرارا،غير أننا حين نكون عاجزين بالمرة عن السفر خارج المكان بأجسادنا ، نسافر إلى داخلنا في رحلة من الخيال .

 

 

أوبرا مصر ، دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى