دراسات ومقالات

محمد سعيد شحاتة يَكتُب : قصيدة النثر وبنية العقل

تجاوزت قصيدة النثر مرحلة البحث عن مشروعية الوجود، وأصبحت واقعًا ملموسا لا تخطئه العين في كل مكان على امتداد الوطن العربي، وتسيطر على مساحة كبيرة من المشهد الثقافي العربي، وعلى الرغم من ذلك فإن المعركة حول قصيدة النثر ما زالت دائرة ولم تخمد نيرانها، ويرى البعض أن الحروب والصراعات التي تدور حوال قصيدة النثر بين وقت وآخر هي أشبه إلى حد كبير بطبيعة الحروب الأهلية في العالم الثالث “فإذا كان حطب هذه الأخيرة – الحروب الأهلية – هو القبائل والعشائر والملل والنحل والطوائف والمذاهب، فإن هذا الحطب موجود في الساحة الأدبية العربية؛ لأن شعراء قصيدة النثر باتوا مع الوقت قبيلة أو عشيرة أو ملة أو نحلة أو طائفة أو مذهبًا، وإذا كان طابع الحروب الأهلية يتمثل في استخدام كل أنواع الأسلحة المباحة وغير المباحة، فإن ساحة قصيدة النثر هي بدورها ساحة وغى أيضًا، ومن يراقب السلاح المستخدم في هذه الساحة عليه إيجاد الصلة الوثقى والعلاقة الجدلية بين هذا السلاح وسلاح الحروب الأهلية، ناهيك عن العصبيات والمفردات والحماسة المتقدة في الصدور”، وعلى الرغم من صحة القول بأن قصيدة النثر تشهد صراعا مع غيرها من أشكال الإبداع على امتداد الخريطة العربية المتنوعة التضاريس الثقافية والفكرية فإن القول بأن شعراء قصيدة النثر باتوا مع الوقت قبيلة أو عشيرة أو ملة أو نحلة أو طائفة أو مذهبا قد جانبه الصواب؛ لأن بنية العقل الإبداعي العربي بصفة خاصة، والثقافي والفكري بصفة عامة قد باتت متصفة بهذا الوصف، ولم تعد السماء – في ظل هذا الوصف – تسع كل الطيور المحلقة، ولكن كل نوع من الطيور/الإبداع يرى نفسه أحق بالطيران دون غيره، ويتخذ من نفسه مقياسا للصواب والخطأ، وهنا تكمن المعضلة الكبرى؛ لأن ذلك يؤدي بالضرورة إلى إنكار كل طرف لإبداع الطرف الآخر، ويتخذ من الآخر خصما، وإذا تحدث عن نفسه فإنه يتحدث بلسان الملائكة، في الوقت الذي يتحدث فيه عن غيره بلسان الشياطين والأبالسة، ويضفي على إبداعه قداسة في مجال لا قداسة فيه؛ لأنه مجال إبداع بشري، ونتاج لعقل إنساني، فلا قداسة لإبداع لأنه تقليدي، ولا حرمة لإبداع لأنه حداثي، والعكس صحيح، والأفضل أن تتجاور كل أشكال الإبداع، والسماء تسع كل الطيور المحلقة، والإبداع القادر على التعبير عن النفس الإنسانية في تموجاتها المختلفة، وتضاريسها المتنوعة، والقادر على التطور مع الزمن في حلقاته المتتابعة هو وحده الإبداع القادر على الصمود أمام ضربات الزمن، وتزداد المعضلة عندما يكون النقاد – أو بعضهم – طرفا في الإشكالية؛ لأنهم ينتقلون بذلك من مجال ممارسة دورهم في النقد الموضوعي القائم على أسس علمية منضبطة، إلى طرف في قضية إشكالية، وعندما يصبح الناقد طرفا في القضية الإشكالية فإنه لا يعطي كل إبداع حقه في الدراسة النقدية العلمية؛ فالناقد محايد عند دراسته للأشكال الإبداعية مهما اختلف معها، وهذا دوره الذي ينبغي أن يقوم به، ولكن الذي نشهده أن بعض النقاد يمارسون الإقصاء لبعض الأشكال الإبداعية انطلاقا من انحيازاتهم الفكرية، وأحيانا الأيديولوجية، فتفقد بذلك الساحة الإبداعية بصفة خاصة والنقدية والثقافية بصفة عامة قدرتها على التنوُّع الديناميكي القادر على التفاعل والمشاركة في الإبداع العالمي، يقول أحد النقاد المعادين لقصيدة النثر: (عبد الله بن أحمد الفيفي، القطيعة الإبستمولوجيّة، المعرفيّة – ديوان العرب (diwanalarab.com)) “ولعلّ قصيدة النثر العربيّة- على سبيل النموذج- كان بإمكانها أن تكون شيئًا مذكورًا لو نَجَتْ من تلك التركة التربويّة التعليميّة، ولو خرجتْ من قوقعة تعصّبها وتشنّجها وتخشّب عقول بعض عاشقيها، وباختصار من: تخلّفها باسم تجديدها، وتقليديّتها باسم تجاوزها. ذلك أنها- وَفق سياقها العربيّ- لا تعدو حركة تبعيّة، لا إبداعيّة، وحركة انغلاق لا انفتاح، وحركة تحجّر لا تفتّح. تبدو تبعيّتها من ولائها المطلق للنموذج الآخر الغربيّ، وعدم التفاتها- ولو على استحياء- إلى رأسمالها من التراث العربيّ، الشِّعريّ والنثريّ”، ونلاحظ أن الرفض السابق لقصيدة النثر يتمحور حول عدة نقاط، منها أنها حركة تبعية وليست حركة إبداعية، وتبدو تبعيتها من ولائها للنموذج الغربي، ومعنى ذلك أنها إذا كانت التفتت إلى النموذج العربي فإنها ستكون مقبولة، وهذا يعني أن الرفض ليس لقصيدة النثر من حيث كونها قصيدة نثر، ولكن بسبب تبعيتها للنموذج الغربي، ثم يبيِّن كيف تلتقي قصيدة النثر مع رأسمالها من التراث العربي، فيقول: ” هنالك نماذج نثريّة عربيّة كان يمكن أن تشكِّل ملامح تجربةٍ عربيّة مستقلّة، يُبنَى عليها ويُنطلَق. ولكن أين هؤلاء وذاك، وهم غارقون في كلّ ما خَفّ عبئه، بل وهم يستنكفون حتى من انتمائهم إلى ذلك التراث!”، ولا أدري أين تبعية قصيدة النثر العربية للنموذج الغربي؟ كان على الناقد أن يوضح ذلك بأمثلة من قصيدة النثر العربية، وهل تبعيتها للنموذج الغربي في الشكل أو في المضمون؟ أما السبب الثاني للرفض فهو كونها حركة انغلاق، ويوضح معنى الانغلاق بقوله: “ويبدو انغلاق تلك النصوص النثريّة من تقوقعها باسم اليوميّ والهامشيّ والسهل… إلى آخر هذه الحُجج اليوميّة والهامشيّة والسهلة. فأصبحت أدب انعزالٍ وانكفاء ذاتيّ، يجترّ فيه أصحابه هذياناتهم الذاتيّة، لا يؤثّرون ولا يتأثّرون، ولا يَسمعون ولا يُسمعون، ولا يُقنعون ولا يقتنعون، صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجِعون! فأيّ تعبيرٍ عن قضايا الإنسان لدى هؤلاء؟ وبأيّ مستوى لغوي إنسانيّ كان، ودع عنك أن يكون أدبيًّا؟” ولا يخفى ما في الردود والتوضيحات الواردة في كلام الناقد من تهكم وسخرية “يجترّ فيه أصحابه هذياناتهم الذاتيّة، لا يؤثّرون ولا يتأثّرون، ولا يَسمعون ولا يُسمعون، ولا يُقنعون ولا يقتنعون، صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجِعون!” مبتعدا بذلك عن المنهج العلمي في مناقشة القضايا بموضوعية وحياد، ولا نجد سوى سخرية واستهزاء دون تقديم أي دليل علمي منطقي يمكن مناقشته، ثم يأتي السبب الثالث للرفض، وهو تحجر أصحاب قصيدة النثر، ويفسِّر هذا التحجر فيقول: “كما يبدو تحجّر أرباب قصيدة النثر من إصرارهم أنهم “شُعراء”، هكذا ضربة لازب، وأن مصيرهم مرتبط في منحهم هذا الوسام التلقيبيّ، وإلّا ضاعوا، فلا مستقبل لهم ولا مكان من الإعراب! إنها البطالة الشِّعريّة بحقّ، وهذا التمحّك بالشِّعر إنما يدلّ على عبوديّتهم للشِّعر وللانتماء إليه، كيفما اتفق” وهذا تبرير غير منطقي؛ لأن التحجر في الفن له صفات محددة، أما من يصف نفسه بأن شاعر فننعته بالتحجر فهذا حكم لم نسمع به من قبل، ويزداد الأمر فتنسحب عليه صفة العبودية للشعر لمجرد أنه وصف نفسه بأنه شاعر، ثم يبين معنى الفن، فيقول: “إن عبقرية الفنّ عمومًا تتمثّل في أن يرتفع بالواقع، وأن يخلِّق من الهامشيّ فنًّا رائعًا، أمّا أن يستسلم للواقع، وينغمس عاريًا في خَبَثه، بل أن ينحدر دونه، فما تلك إلّا وظيفة الضفادع، لا وظيفة الإنسان المبدع، الصَّنَّاع!” ونلاحظ أن التهكم والسخرية أساس من أسس الحوار دون موضوعية أو مناقشة علمية تسوق الأدلة والبراهين المنطقية على الرأي الذي تعتنقه، ويطول بنا المقام إذا أردنا سرد المواقف المناهضة لقصيدة النثر والمعادية لوجودها، وهكذا نجد النقاد عندما يكونون طرفا في قضية خلافية يلجأون إلى إصدار أحكام القيمة في الوقت الذي ينبغي أن يقف الناقد موقفا نقديا تأويليا من النمط الإبداعي؛ ذلك أن أحكام القيمة هي التجسيد العملي لفشل الناقد في سبر أغوار النصوص، والجمود الفكري، ومصادرة الآخر المبدع لحساب الأنا الناقد.
وتبقى – في النهاية – قصيدة النثر فعلا إنسانيا إبداعيا يستند على رؤية فكرية مغايرة، لها مشروعية في الوجود من حيث كونها نتاجا إنسانيا، كما أن لها مشروعية في مناقشتها، والوقوف على جوانبها المختلفة من حيث كونها مستندة إلى رؤية فكرية، وليست عملا عشوائيا، أو نبتا شيطانيا نبت دون أن يجد من يسقيه ويرعاه، ويسهر على نموِّه وتطويره، هي – إذن – إنتاج إبداعي قائم على أسس منضبطة، ومحققة لأهداف فكرية وجمالية وإبداعية محددة، قد يختلف معها البعض أو يتفق، وقد يعاديها البعض أو يناصرها، ولكن ذلك كله لن يستطيع أن ينفي وجودها، وحقها في التعبير عن كينونتها، وإقناع البعض بمقولاتها والتخلي عن عدائها، أو إقناع البعض بالسير في ركابها واتخاذها شكلا إبداعيا مفضَّلا والتخلي عن غيرها من الأشكال الإبداعية الأخرى، فهذا حقها الذي تمارسه يوميا، ولا يستطيع أن يسلبها هذا الحق معادٍ لها، أو متنكِّرٌ لأسسها الفكرية وانحيازاتها الجمالية مهما كانت مكانته الفكرية، أو قدرته الإبداعية، أو تأثيره النقدي.
إن بنية العقل العربي لا تميل كثيرا إلى مجاراة التجديد، والانفتاح عليه بمجرد ظهوره، وإن كان هذا الجديد معبرا عن التغير الذي أصاب الحياة والمجتمع، ومتماشيا مع طبيعة الظروف التي يعيشها المبدعون، ويحاولون التعبير عنها، ولكن العقل العربي يميل دائما إلى مجاراة القديم الثابت الذي استقرَّت أعرافه وملامحه، وأصبح مقبولا عند بعض المتلقين، ويتسلح المدافعون عن هذا القديم بمجموعة من الآراء تكاد تتكرر في كل عصر، وعلى معظم الألسنة، ومن ثم يدخل هذا الجديد في صراع مع القديم وأنصاره في محاولة لإثبات الوجود، فينقسم الناس إلى ثلاث طوائف: طائفة تتعصب للقديم، وترى أنه النموذج المكتمل الذي استقرَّت ملامحه، وسادت قيمه وأعرافه، ومن ثم لا يجوز الخروج عليه أو الابتداع فيه، وطائفة تتعصب للجديد، وترى فيه مواكبة للعصر ومستحدثاته، والتغيرات التي حكمت المجتمع وتحكَّمت في تشكيل ملامحه، ومن ثم فإن الحياة الأدبية ما هي إلا صدى لهذه التغيرات وتعبير عنها، وطائفة ثالثة تحاول الوقوف على هذا الجديد بنظرة موضوعية؛ إذ تنظر إلى الرؤية الفكرية التي يستند إليها، والانحيازات الجمالية التي يعبر عنها، وهنا تنشأ الخصومة بين القدماء والمحدثين، أو أنصار التقليد والتجديد، وغيرها من المصطلحات التي عرفتها البيئة العربية على امتداد تاريخها، ومن اللافت للنظر أن استقبال العقل العربي للجديد ومحاولة إنكاره، وأحيانا العداء الشديد معه قد بدأ منذ البواكير الأولى مع الرسالة النبوية، وعبَّر القرآن صراحة عن طبيعة هذا العقل بأكثر من طريقة، يقول تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) (البقرة 170) ويقول تعالى: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ) (الزخرف 22) وتتعدد الآيات وتتنوع المواقف التي يعبر فيها العقل العربي عن معاداته لكل جديد والركون إلى التقليد والارتضاء به، بل والدفاع عنه، فإذا انتقلنا إلى الحياة الأدبية والثقافية وجدنا قضية القدماء والمحدثين تطل برأسها مع تطور المجتمع العربي مع قدوم العصر العباسي؛ وقد وجدت التغيرات التي طرأت على البيئة العربية صدى لها في الحياة الأدبية، فظهرت طائفة المولدين أو المحدثين تحمل راية التجديد وتنفر من القديم، وتراه لا يعبر عن الحياة الجديدة ولا قيمها ورؤاها الفكرية، ومن ثم انحيازاتها الجمالية، فوجدنا الشعراء أمثال أبي نواس وغيره ينصرفون عن الوقوف على الأطلال ووصف الدمن والآثار، ويلجؤون إلى المقدمات الخمرية، ويسرفون في التعبير عن حياة المجون ومجالس اللهو والعربدة، والتفنن في تصوير حياة القصور، هذا من حيث المضمون، أما من حيث الشكل فقد مالت القصيدة إلى السهولة في الألفاظ والبعد عن الجزالة والفخامة، وأكثر الشعراء من التفنن في ضروب البديع والبيان، فاستدعى ذلك حضور اللغويين والنقاد والرواة؛ للدفاع عن القديم وقيمه وجمالياته المتوارثة، وبدأت المعركة دون هوادة، وهي في الحقيقة تعبر عن طبيعة العقل العربي، وتعامله مع الجديد، ثم بدأت معركة أخرى بين أنصار أبي تمام الممثل لحركة التجديد والبحتري الممثل لحركة القديم المتوارث، ومن الملاحظ أن معظم النقاد في هذه المرحلة كانوا فقهاء، ومن ثم تحكمت رؤاهم الفقهية في آرائهم النقدية، فكان الاحتفاء بالقديم، بل تقديسه أحيانا نابعا من التوجه الفكري للناقد، يقول القاضي الجرجاني في كتابه الوساطة كاشفا عن ذلك: “وما أكثر مَن ترى وتسمع من حُفَّاظ اللغة، ومن جِلة الرواة مَن يلهج بعيب المتأخرين، فإنّ أحدهم ينشد البيت فيستحسنه ويستجيده، ويعجب منه ويختاره، فإذا نُسِبَ إلى بعض أهل عصره وشعراء زمانه كذَّب نفسه، ونقض قوله، ورأى تلك الغضاضة أهون محملا، وأقل مرزأةً من تسليم فضيلةٍ لمحدث، والإقرار بالإحسان إلى مُولَّد»، وهكذا كان يتعامل أنصار القديم مع كل جديد مهما كان إحسانه والتفنن فيه واستجادته، وحاول بعض النقاد أن يركنوا إلى الإنصاف، ولكنهم لم يستطيعوا؛ إذ جاء كلامهم عن الإنصاف في التعامل مع أشعار المحدثين كلاما نظريا فإذا ذهبوا إلى التطبيق وجدنا شيئا مختلفا تماما، كما ظهر ذلك عند أبي العباس المبرد صاحب كتاب الكامل في اللغة والأدب وغيره من النقاد، وقد عبَّر ابن قتيبة عن هذا التوجُّه صراحة إذ يقول في كتابه الشعر والشعراء: «ولا نظرتُ إلى المتقدِّم منهم بعين الجلالة لتقدُّمه، وإلى المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرتُ بعين العدل إلى الفريقين، وأعطيتُ كلاً حظه، ووفَّرتُ عليه حقَّه، فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدُّم قائله، ويضعه في متخيَّره، ويُرذِلُ الشعر الرصين، ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه، أو أنه رأى قائله» وهنا نجدنا أمام ناقد منصف كل الإنصاف؛ فهو يصرِّح بأنه سيتعامل مع أشعار المحدثين بإنصاف شديد، ولكننا نجده في مكان آخر من كتابه يقول: «وليس لمتأخِّر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين.. فيقف على منزل عامر، أو يبكي عند مشيد البنيان؛ لأنَّ المتقدمين وقفوا على المنزل الداثر، والرسم العافي، أو يرحل على حمار أو بغل ويصفهما؛ لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير، أو يرد على المياه العذاب الجواري؛ لأن المتقدمين وردوا على الأواجن الطوامي، أو يقطع إلى الممدوح منابت النرجس والآس والورد؛ لأن المتقدمين جروا على قطع منابت الشيح والحنوة والعرارة» وهكذا وجدنا العقل العربي متسقا مع نفسه في الحرص على القديم واتباعه، وعدم الميل إلى الجديد، فإذا انتقلنا إلى العصر الحديث وجدنا العقلية العربية ما زالت تمارس العمل نفسه، والرفض لكل جديد، وأبرز مثال على ذلك ما كان من العقاد تجاه صلاح عبد الصبور والشعر الحر، ففى حوار صحفى سأل أحد الصحفيين العقاد: هل قرأت الشعر الحديث؟ فاحمر وجه العقاد، وانتابته ثورة الغضب واحتد صوته وقال للصحفى: ( قرأت ماذا؟ هل تريد منى أن أقرأ الكلام الفارغ الذى يكتبه البتاع اللى اسمه «صلاح عبدالصبور» إننى أتحدى «عبدالصبور» هذا أن يقرأ عشرة أسطر من النثر دون أن يخطئ فى تشكيل أو نطق بعض كلماتها!) وأطلق العقاد على الشعر الحر اسم الشعر السايب.
وانطلاقا من فهم بنية العقل العربي فإن رفض قصيدة النثر والوقوف منها موقف العداء لا يعدو كونه موقفا متكررا لكل جديد في البيئة العربية منذ القدم، ثم يأخذ هذا الجديد مساره في الحياة الثقافية، ويصبح جزءا من المشهد الثقافي، وتبدأ دورة التطور من جديد، فيظهر نمط إبداعي جديد، وتواجهه العقلية العربية بالرفض والعداء، ثم يصبح جزءا من المشهد الثقافي، وهكذا تسير الحياة الثقافية في المجتمعات العربية، ومن ثم فإن الجدل الكبير حول قصيدة النثر بين الشعراء والنقاد في كل لقاء ثقافي إن لم ينتج رؤية متطورة تبني على ما توصلت إليه النقاشات الكثيرة يصبح ذلك تضييعا للوقت وفوضى لا طائل من ورائها، وتصبح اللقاءات الثقافية المتكررة في هذه الحالة حوارا سوفسطائيا عقيما؛ فكل فريق بما لديهم فرحون، منهم من يرى أن قصيدة النثر إضافة كبيرة للشعر العربي، ومنهم من يرى أنها أساءت إلى القصيدة العربية وانحرفت بها عن مسارها. ويظل كل رأي متمترسًا خلف مقولاته دون أن يُبدي أية رغبة في مناقشة رأيه، أو التخلي عن فكرة أن وجودي يبدأ من حيث ينتهي وجود الآخر، وفي جميع الأحوال ستسير قصيدة النثر في طريقها غير عابئة بهذه النقاشات العقيمة، وسوف يظهر إبداع جديد يتخطى قصيدة النثر، وسوف تعود العقلية العربية إلى الجدال نفسه حول هذا الجديد، وهكذا ستظل العقلية العربية تدور في الفلك نفسه، صراع في صراع في صراع دون أن تستفيد من هذا الجديد وتبني عليه، وتحاول أن تجد لنفسها مكانا تحت خيمة الإبداع العالمي.
لا أحد يستطيع أن ينكر أن قصيدة النثر العربية انفلتت من أسر التقليد، واتجهت بقوة نحو إيجاد شعرية جديدة منطلقة من سياق ثقافي وحضاري فرض عليها كسر القيود والأعراف المتوارثة من غنائية مفرطة إلى تدفق هادئ ينبني على تشكيلات فكرية عميقة للمعنى، ونزع الصفة الاعتيادية عن كل ما هو يومي وعادي وهامشي والدفع به إلى متن الفعل الشعري؛ ليشكِّل أساسا متينا في إنتاج الدلالة، والكشف عن وعي الشاعر الحداثي بالعالم المحيط به، والمتفاعل معه، والمندمج مع أنسجته الفكرية والاجتماعية والإبداعية، والكاشف عن انحيازاته الجمالية المبتعدة عن المتوارث من حيث الشكل والرؤية، ولا يمكننا فهم قصيدة النثر بعيدا عن فهم طبيعة الصورة؛ لأن قصيدة النثر حررت البناء الشعري من الإطار الموسيقي وألحقته بالإطار التصويري، وبذلك أصبحت الصورة مشكِّلة للرؤية، ومنتجة للدلالة، وإذا كانت قصيدة النثر منطلقة من سياق ثقافي وحضاري مختلف عن الموروث فقد كان من الضروري أن تعتمد على تقنيات هذا السياق الثقافي والحضاري من حيث استخدام التقنيات غير اللغوية، والاعتماد على السيناريو والمونتاج والتنقلات السينمائية بين المشاهد المختلفة؛ من أجل تشكيل الرؤية وإنتاج الدلالة.

 

 

 

أوبرا مصر ، دراسات ومقالات 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى