دراسات ومقالات

إبراهيم عبد المجيد يكتب “سيرة الضمير المصري”

إبراهيم عبد المجيد يكتب
سيرة الضمير المصري

هذا كتاب رائع طموح يحاول إيجاز المعالم التاريخية للفكر المصري الحديث مع ما واكبها أو واكبته من ثورات وانتفاضات. ربما لا يبدو الأمر مفاجئا لي لكنه كتاب يفيد الشباب أكبر إفادة في الإلمام بصفحات رائعة من الفكر والثورة، يمكن بعدها أن يعود القارئ إلى مراجع الكتاب وتزداد الفائدة. فضلا عن أن حديث إيهاب الملاح هنا كثيرا ما ينحو إلي الأدب والحكايات، فالكتاب لا يغفل كيف عرف كثيرا جدا مما يتحدث عنه في سن الطفولة والصبا وكان أمره مدهشا للأساتذة والتلاميذ. كانت معرفته تأتي أحيانا من المسلسلات أومن حكايات والده التي حفَّزته للقراءة والكتابة فيما بعد. عرف مصر القديمة في سن الثانية عشر حين قرأ كتاب “مصر القديمة” لنجيب محفوظ، واتسعت الرؤى ليقرأ “كفاح طيبة” وعبث الأقدار” و”رادوبيس” .

 

كيف كانت هذه الروايات مقدمة لمشروع لم يتم لنجيب محفوظ عن الحضارة المصرية القديمة، فقد انتقل إلى الرواية المعاصرة بأعماله مثل “زقاق المدق” وخان الخليلي” وغيرها. اندفع إيهاب يقرأ لتوفيق الحكيم رواية مثل “عودة الروح” أو مسرحياته أو دراساته ومقالاته، وكلها في إطار الحديث عن الشخصية المصرية.

غلاف العمل
غلاف العمل

 

بعده قرأ حسين فوزي صاحب “سندباد مصري” ثم يأتي جمال حمدان وكتابه “شخصية مصر” وغيره مثل” اليهود أنثروبولوجيا ” ثم بعد ذلك جمال الغيطاني الذي كان مفتونا بالقاهرة القديمة ونعمات أحمد فؤاد. يأخذك في رحلة مع كثير من الكتّاب الأجانب والمصريين الذين كتبوا عن مصر مثل توينبي وجيمس هنري برستيد وأحمد بدوي وشفيق غربال وصبحي جورجي ومحمد صابر عرب وأحمد زكريا الشلق وغيرهم فصارت مصر محورا لروحه وعقله. عاش سنوات طويلة يحلم بكتابة سيرة الضمير المصري أو قصته حتي فعلها في هذا الكتاب.

 

سيرة تتوسل بالتاريخ والجغرافيا ليسا في شكلهما الصرف، إذ تدخل فيها الحكايات بعيدة عن فن القصة، أو كما يقول محاولة طموح قد تكون مجنونة لكنها فيما يظن صادقة وتستحق، وهي بالفعل كذلك رغم أنه قالها متواضعا جدا. يبدأ بالحديث بعد هذه المقدمة عن جمهورية همام كأولي محاولات الاستقلال عن الحكم المملوكي لعلي بك الكبير . لقد رأى وأعجب بالمسلسل الذي كان عنه وكتبه عبد الرحيم كمال وقام بدور شيخ العرب يحيى الفخراني عام 2010 .

 

كانت الثورة في حكم علي بك الكبير الذي بدوره استقل عن الخلافة العثمانية ولم تجد إلا الخيانة طريقا لإزاحته عن طريق محمد بك أبو الذهب. يتحدث عن قراءاته في عشرات المراجع عن شيخ العرب همام وهذه عادته في كل ما يكتب عنه. شيخ العرب همام استطاع بسط نفوذه على الصعيد. هو من قبائل الهوارة التي وفدت إلى مصر من المغرب في عهد الدولة الفاطمية . يتفق كل المؤرخين أن محاولة شيخ العرب همام هي أول محاولة للاستقلال بمصر في العصر الحديث.

 

لقد مات عام 1769 .الأمر نفسه حدث مع علي بك الكبير الذي هزم همام بعد سنوات طويلة وحاول الاستقلال عن الخلافة العثمانية لكنه لم يتحمل استقلال همام . يتحدث كالعادة عن مسلسل” الحب في عصر الجفاف” الذي شاهده صغيرا عام 1989 وقدم علي بك الكبير كأفضل مايكون، ثم يأتي مسلسل “شيخ العرب همام” عام 2010 ليقدم الوجه الآخر السيئ لعلي بك الكبير . جوانب الخسة والانحطاط والنذالة . في كل الاحوال كانت هذه محاولات الاستقلال الأولي سواء عن الخلافة العثمانية في حالة علي بك الكبير، أوعن المماليك في دولة شيخ العرب همام .

 

تأتي الحملة الفرنسية وينفتح باب الحداثة بما أقامته من مجمع علمي ومن دراسات حول وصف مصر وبما واجهها من نضال المصريين الذين أرادوا حاكما بعيدا عن أي محتل أو غاصب، فاختاروا محمد علي ضد رغبة الخلافة العثمانية بعد رحيل الحملة الفرنسية مهزومة. طبعا الخلاف حول دور الحملة يحتل مكانه في الكتاب بين مفكرين مصريين وأجانب رأوا فيها أيضا اجهاضا لنواة النهضة التي تجلت من قبل في محاولة استقلال علي بك الكبير أو شيخ العرب همام.

 

هل كانت الحملة الفرنسية من أجل الحداثة أم السيطرة فيما بعد. طبعا كلنا نعرف ما فعله محمد علي من تنكيل بمن أتوا به حاكما، وهذا عهد كل الطغاة لا يتخلون عنه. المهم بدأت حركة البعثات إلى فرنسا بالذات، وكان منها البعثة التي ذهب فيها رفاعة الطهطاوي شيخا وواعظا للطلاب الذاهبين حتي لا يتأثروا بعيدا عن الدين، وكان ذلك باختيار وتشجيع الشيخ حسن العطار، فعاد الطهطاوي محملا بأفكار ديموقراطية وتعليمية وكتب كتبه مثل “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” و ” المرشد الأمين للبنات والبنين ” وغيرها . يتوقف في فصل مؤثر عند كتاب وصف مصر ومترجمه العظيم زهير الشايب الذي انتهي نهاية مأساوية فخطفه الموت مبكرا، وكيف وإيهاب في السنة السادسة الابتدائية كان معه زميل اسمه ” ياسر زهير الشايب ” فسأله هل أنت ابن زهير الشايب مترجم كتاب وصف مصر؟ فأجابه بنعم. في اليوم التالي تم استدعاؤه إلى مديرة المدرسة التي أخبرته أن السيدة عفت الشريف ولية أمر ياسر زهير الشايب تريد أن تتحدث إليه.

 

خاف وارتعب لكن حين سألته السيدة عفت هل تعرف من هو زهير الشايب؟ قال لها نعم هو مترجم كتاب وصف مصر وعرف ذلك من مقال في جريدة الأهرام عنه، وراح يحدثها عن زهير الشايب كما عرفه من المقال، فقالت السيدة عفت الشريف لمديرة المدرسة لو كان زهير حيا لفرح وعرف أن ما فعله لم يذهب هباء. كان طموح زهير الشايب كبيرا لكنه واجه اسفافا من الحاقدين وأذي وتوفي مقهورا. يقف عند رفاعة الطهطاوي ومؤلفاته ودوره في الترجمة وما انجزه فيها وظهور جريدة الوقائع المصرية وإشرافه عليها وتطويرها، وطبعا يتوقف عند مراحل حياته وما كتب عنه، وترجمته للدستور الفرنسي، وهو الدستور الذي يؤكد أن ملك فرنسا ليس مطلق التصرف باعتبار أن هذا يمكن أن يكون مثلا يُحتذي.

 

تستمر الرحلة مع الخديوي اسماعيل والتحديث الثاني في محاولة بناء مصر كقطعة من أوربا بما انجزه في العمارة وقناة السويس ودورها في جعل مصر صرة العالم، ثم ماجري من عزل الخديوي اسماعيل بسبب الديون والإشراف الأجنبي علي مصر، وتولية ابنه توفيق الذي حين قامت الثورة العرابية فتح الباب لاحتلال مصر من انجلترا. هنا يأتي الحديث عن جمال الدين الأفغاني ورحلته بين الدول تركيا وروسيا ومصر وغيرها وكيف اختلف في أمره المفكرون لكن كيف كان تاثيره كبيرا علي مصر. أبرز تلاميذه محمد عبده والتجديد في الفكر الديني والبحث عن الهوية الوطنية لتصل بك إلي ثورة 1919 . في كل فصول الكتاب دراسة وافية لما يتحدث عنه ومحاولة ربطه أحيانا بحياته الشخصية تعطيه متعة جميلة، وأترك التفاصيل الكثيرة لمن يشأ القراءة ففيها معرفة وبحث قائم على معرفة عميقة بعشرات الكتب والمراجع كعادة ايهاب الملاح في كل كتاباته التي تضعه في قائمة المفكرين الحقيقيين.

إبراهيم عبد المجيد

أوبرا مصردراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى