سميحة رشدي تَكتُب : ثقافة بوس الواوا .. صدام بين حلم المثقف والواقع
يعبر كتاب “ثقافة بوس الواوا” للكاتب الصحفي أسامة الألفي، عن الصدمة التي أصيب بها الكاتب في تسعينيات القرن الماضي، حين عاد إلى وطنه بعد اغتراب سنوات طويلة، عمل خلالها خارجه في المجالين الإعلامى والثقافي، وشعر بغربة كبيرة في وطنه للتغيير الكبير الذي طرأ على المجتمع خلال سنوات الغياب.
إذ عاصر الكاتب خلال غربته أجواء ثقافية عامرة، وشاهد بواكير نمو ازدهار وثقافي وفكري في بلدان الخليج العربي، ازدهار كانت أعمدته الفكر المصري وعمالقته، وكانت الصدمة فيما لحظه من تغير سلبي أثر على ثقافة بلاده، وأحس كأنه هبط في وطن آخر غير الذي عرفه، وطن آخر غارق في ثقافة طفيلية، تخاطب الغرائز ولا تستحي من فحش القول والفعل، تعبر عنه أغانٍ هابطة مثل “بوس الواوا” و”بحبك ياحمار”.
الصدمة جعلته يبحث عن العوامل التي أثرت في الثقافة المصرية، ولم يصعب عليه اكتشاف أن الثقافة صارت محاصرة، وهذا الحصار مرتبط بالسياسة، ونجم عنه تقوقع المثقفين الأصلاء وافتقادهم القدرة على بناء مجتمع ثقافى، وبفكر المثقف سجل أمثلة من الردة الثقافية والمجتمعية، وكيف وأد مشروع جمال حمدان الثقافي، وأثر ذلك في انتحار مثقفين من الشباب الواعد مثل أروى صالح المبدعة الراقية التي انتحرت لصدمتها بالواقع المتدني، واتبعها عبد الحميد شتا بعد صدمته بالتمييز الطبقي بين أبناء الوطن الواحد.
يتلفت الكاتب حوله باحثًا عن المثقف المصري الغائب الحاضر، يتذكر ابن خلدون ونظرية الدورة الحضارية كل مائة عام، ويتساءل: هل تنطبق هذه النظرية على الواقع الثقافي المصري؟ إذ عاشت مصر نهضة ثقافية كبرى، وكان لها فضل الريادة في منطقتها، فهل تمر اليوم بمرحلة تفكك؟
وبعد بحث عن أسباب التدنى انتهى إلى نتيجة مفداها أن الثقافة ليست مسئولية وزارة الثقافة فقط ولكن يتشارك معها في المسئولية وزارات التعليم والتعليم العالي والاعلام والأوقاف، فصناعة مشروع ثقافى يلبى الحاجات الروحية والفكرية مسئولية هذه الجهات جميعها، ومع ذلك يظل الدور الأكبر مناط بوزارة الثقافة، لذا استقبل المثقفون بالوجوم اختيار فاروق حسني مجهول التاريخ وزيرًا لها، وكانت صدمتهم في محلها، إذ أسهم اختياره في تدهور الثقافة في عهده نتيجة اهتمامه بالمظهر دون الجوهر، وصرفه الملايين على مؤتمرات واحتفالات ومهرجانات لزوم الوجاهة، لا تلبي احتياجات المثقفين والمجتمع، وزاد بسعيه لشراء ولائهم بالمهرجانات والجوائز والرحلات، فرفض الأغلبية وقبل من لا انتماء لهم، ومن الأخيرين صنع نخبة مزيفة موالية للسلطةن وأطلق عبارته الشهيرة (المثقفون دخلوا الحظيرة)، كناية عن مولد مثقف سلطوي يفعل ما يؤمر به ويصفق للسلطان.
ويقارن الكاتب بين المثقفين المرتزقة الذين دخلوا الحظيرة، وبين الأصلاء الذين عبروا عن الشعب في أدبهم، مثل يوسف إدريس( الفرافير) ورشاد رشدي (بلدي يا بلدي) وعلى احمد باكثير (حبل الغسيل) ونجيب محفوظ( ثرثرة فوق النيل).
ويتطرق إلي علاقة المثقف بالسلطة مسترشدًا بقول ابن خلدون: “إن السيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدولة”، وموضحًا أن حركة الجيش ١٩٥٢م تجاهلت المثقفين وَمحت كل مثقف لا يقف إلى جانبها.
ينتقل بعدها المؤلف لحديث عن الكاتب المصري ومشكلاته فيرصد أهم مشكلات التي تواجه الكاتب المصري، ويتطرق إلى أهمية الكتاب في حياة أية أمة باعتباره ذاكرتها التي تحمل تراثها، ويتعرض لتراجع دور الدولة في النشر بعدم تشجيعها للاصدارات المصرية، وسيطرة دور النشر الخاصة على حركة الإبداع مما أفرز وجوهًا علاقة لها بالثقافة، فطفا على سطح الحياة الثقافية أناس محدودي الثقافة والفكر، وصار كل من يملك ثمن طباعة كتاب كاتبًا.
وهذا الضياع امتد إلى الصفحات والمجلات الثقافية، إذ أدى غياب الرؤية إلى غياب التأثير، فالصحافة المثلى – كما يقول العملاق عباس العقاد – هي صحافة مستقلة في آرائها مخلصة في نصائحها، أمينة في أداء رسالتها، خادمة للثقافة والأخلاق فيما تنشره، ويورد المؤلف قول الأديب خيري شلبي إن هيمنة الحكومة على أمور الصحافة سر إخفاق المجلات الثقافية وضعف تأثيرها.
ويرى الكاتب أن التعليم هو السبيل للنهوض بالثقافة، مؤكدًا أن التعليم في مصر قام على أسس مستوردة ليس له نمط واضح، ولذلك لم تثمر سياسة التعليم عن تخريج مثقفين، وإنما تخريج موظفين لعدم اعتماد المناهج على اسس تربوية ونفسية، وتهميش النشاطات اللامنهجية، وعدم تدريب الطالب علي الاستنباط والتحليل وقد تناول الكاتب هذه القضايا بالدراسة والبحث.
وتطرق إلى ظاهرة التطرف ملمحًا إلى أن التطرف موجود في الثقافة كما في الدين، والحداثة المهيمنة على الوسط الثقافي متطرفة ولا تقبل معارضة، والتطرف العلماني أوجد تطرفًا دينيًا موازيًا، نتيجة سنوات الحرمان والعزلة في الخمسينات، وبسرعة ينتقل إلى ما سمى بـ “ثقافة السلام” مؤكدًا أنها لا تقنعنا بالغاء ثقافة الحرب، لان إسرائيل ما تزال على نفس خطاها الاستعماري، حتى التاريخ يسعون لإغتصابه بترويجهم ان بناة الأهرام يهود مصر، فهي لا تريد ثقافة سلام وإنما ثقافة استسلام.
يناقش الكتاب بعد ذلك قضية مهمة هي قضية العلاقة مع الآخر، مشيرًا إلى خطأ سعينا دائمًا إلى الآخر الغربي أو البعيد، وإهملنا الآخر القريب العربي والمسلم والأفريقي، ويرجع ذلك إلى أن المشهد الثقافي المصري ممزق بين تيارات متسارعة، وغير قادر على إيجاد أدبيات حوار بين تيارات، فكيف يحاور ثقافات أخرى، ولا يفوته الدعوة إلى تحقيق توازن بين حفاظ المثقف المصري على هويته، وسعيه للتعرف على الآخر، وأن يكون اهتمامه بالتراث والهوية قدر اهتمامه بالترجمة.
ويذهب الكاتب إلى أن للمثقف دورًا كبيرًا لا غنى عنه في عرض قضايا الأمة واقتراح حلولها، موضحًا أن مواقف مثقفينا تتأرجح مابين إيجابية وسلبية، ومنهم من يطوع لغته بشكل نستطيع معه تبين موقفه، وبعضهم تخاذل في تناول القضايا العربية المصيرية، مثل الوضع السياسي في مصر، أو احتلال العراق وتدمير تراثه وثقافته.
ويختتم بفصل عن تنمية العادات الصحيحة للقراءة، بهدف رسم خطة عملية لتوليد جيل قاريء، ودور الأسرة في ذلك بإعتبارها الخلية الأولى للمجتمع، ويجب أن تحظى بالاهتمام المناسب، كي تستعيد دورها المجتمعي في تزويد المجتمع بأجيال مثقفة.
إننا بحاجة إلى مثل هذه الدراسات الجادة، التي تناقش وضع ثقافتنا وتضع مقترحات علاجها، حتى نوجد جيلًا قادرًا متسلحًا بالمعرفة الصحيحة، وقد تكون الطريق طويلة أو تتخللها معوقات ولكننا بالعزم والإصرار قادرين على استكمالها.
https://www.youtube.com/@ElgemelyAhmed
https://operamisr.com/2023/03/
أوبرا مصر ، دراسات ومقالات