دراسات ومقالات

محمد عبد العال يَكتُب : حكايات منسية.. في مثل هذا اليوم عاد الخديوي إسماعيل

الحلقة الثانية ..

افترضنا في المقال الأول من سلسلة حكايات منسية عودة الحياة إلى “كلوت بك” وكيف أنه سيهرع إلى الخديوي إسماعيل ليطلب إلغاء اسمه من هذا الطريق الذي يحمل لقبه؛ نتيجة سوء سمعه هذا الطريق.
لكن ماذا لو افترضنا عودة ولى النعم ذاته، ماذا لو عاد الخديوي إسماعيل؟ ما لا يعلمه الكثير منا أن في مثل هذا اليوم (الخامس من مارس عام ألف وثمانمائة وخمسة وتسعين) عاد بالفعل الخديوي إسماعيل من منفاه بإسطنبول إلى مصر ولكن في (تابوت)
لقد كان لإسماعيل العديد من الأعمال والإنجازات الضخمة، حتى عرف عنه أنه قائد النهضة الثانية
في مصر بعد الوالي محمد على، ولكن لا يوجد عمل تبناه هذا الرجل حتى تسربت الأقاويل بسببه،
دائماً ما تكون هناك ألوان رمادية تكتسي بها أعماله،
فما هو العمل الذي لو عادت الحياة بهذا الرجل سيكون أول ما يقوم بإلغائه؟
هل إتمامه حفر قناة السويس؟ والإجابة لا؛ فهو لم يكن مختار في ذلك، فقد كانت هناك التزامات وامتيازات تنظم حفر وإنشاء قناة السويس موقعة في عهد الوالي سعيد، هل إنشاء الأوبرا وحديقة الأزبكية؟ والإجابة لا؛ فلم تكن تلك الأعمال هي الأعظم في تضييق الخناق حول رقبته. إذا ما هو الشيء الذي كان له حرية عمله، ثم شارك هذا العمل في وضع نهاية إسماعيل؟
في حقيقة الأمر لم يكن أمراً واحداً… (ولكننا سنتحدث اليوم عن أحدهما وهو (المحاكم المختلطة).
لقد نعمت الدول الأوروبية بالكثير والكثير من المزايا في عهد الأسرة العلوية، أهمها الامتيازات الأجنبية وقت أن سمح محمد على للدول الأجنبية بتطبيق قوانينها داخل مصر في محاولة منه لتقديم ميزة كبرى لتلك الدول حتى تكون مصر قبله للتجار والصناع الأجانب، فظهر مع الوقت ما أطلق عليه المحاكم القنصلية للفصل في النزاعات التي تنشأ بين الأجانب، لكن تطور الأمر وأصبحت تلك المحاكم تنظر عمليا منازعات يكون أحد طرفيها مصريا؛ إذ لجأ المصريون إلى حيلة ذكية عندما كانوا يلجأون في نزاعاتهم مع مصريين مثلهم إلى التنازل صوريا عن حقهم إلى أجنبي كي يلجأ هو- الأجنبي- إلى المحكمة القنصلية لا سيما أن النتيجة مضمونه فالمحكمة القنصلية ستحكم بلا شك لمن يحمل جنسيتها، ووقتها يقتسم المصري معه هذا الحق.
تلك هي النتيجة التي وصل إليها التشريع المصري وتتلخص في زوال سلطان الحكومة المصرية وغل يدها عن الأجانب الذين يعيشون فيها ويرتكبون الجرائم ضد أهلها أو حكومتها.
حتى أتى الخديوي إسماعيل وشرع في التفاوض مع الدول الأجنبية لمدة ثماني سنوات لإقرار حق مصر في إنشاء محاكم لنظر المنازعات التي تنشأ في أراضيها باعتبار أن ذلك من أهم مظاهر السيادة الوطنية ولقد مر إنشاء المحاكم المختلطة بمراحل عديدة أهمها المفاوضات التي أدارها نوبار باشا بتعليمات من الخديوي إسماعيل، ولقد أبرزت تلك المفاوضات عزما ومثابرة من الخديوي إسماعيل ونوبار باشا في التفاوض مع الدول الأجنبية صاحبة الامتيازات حتى كان له ما أراد فأتم هذا العمل فأنشأت المحاكم المختلطة في 28 يونيه عام 1875 ونص في لائحتها على جواز اختصام الخديوي أمام تلك المحاكم، ثم صدرت من بعد عدة قوانين بنقل اختصاصات المحاكم القنصلية إلى المحاكم المختلطة
حتى جاءت اتفاقية 1936 وتلاها قانون رقم 48 لسنة 1937 بشأن اتفاق إلغاء الامتيازات بمصر الموقع عليه بمونترو في 8 مايو سنة 1937.
أجهز الخديوي إسماعيل عمله وأتمه بإقامة المحاكم المختلطة والتي بدأت عملها في فبراير من عام 1876
وخلال التفاوض مع الدول صاحبة الامتيازات كانت المبادئ الديمقراطية لم تلبث أن انتشرت في أوروبا فقضت على حكم الفرد وجعلت للدولة شخصية مستقلة عن شخصية الحاكم فأدى ذلك إلى مساواة الحكومة
بالأفراد في حق التقاضي وخضوع الدولة شأنها شأن الأفراد لسلطة المحاكم، وأصبح يجوز اختصام الخديوي والأملاك الخديوية أمام تلك المحاكم،
في ذات الوقت ومع الظروف المالية الصعبة التي كانت تمر بها مصر آل الأمر إلى تعيين لجنة مالية مختلطة لمراقبة إيرادات ومصروفات الحكومة فرأت عجزا مقداره مليون ومائتا ألف جنيه فتنازل إسماعيل عن أملاكه الخاصة وأملاك عائلته وهي التي تعرف الآن بأملاك الدومين ، وعندما أيقن الدائنون توقف الحكومة المصرية عن الدفع أرسلوا على أيدي محضري المحاكم المختلطة الجديدة والتي أنشأها إسماعيل احتجاجات رسمية على السندات المستحقة لهم قبل الحكومة والخديوي وأعقب الاحتجاجات طلب حجوزات توقع على أملاكهم وذلك كله بقضايا تجارية
وأصدرت تلك المحاكم أحكاما ألزمت الحكومة والدوائر الخديوية بدفع المستحق عليها بأحكام واجبة النفاذ، فما كان من الحكومة إلا أن أصدرت أوامرها بالامتناع عن تنفيذ تلك الأحكام لعدم سابقة حدوثها.
فقام على أثر ذلك نزاع عنيف بين هيئة القضاء المختلط والحكومة وأعلن معظم القضاة الأجانب عزمهم على ترك مناصبهم ومغادرة الديار المصرية إذا لم تقم السلطة بتنفيذ الأحكام القانونية التي يصدرونها، وتطرف أحدهم وكان هولندي يدعى مسيو “هاكمان” من قضاة محكمة الإسكندرية الابتدائية المختلطة وأعلن إقفال المحكمة وتوقفها عن القضاء للناس حتى تخنع الحكومة إلى أحكام المحاكم وتقوم بتنفيذها وتدخل قناصل الدول بمصر وانحازوا إلى المحاكم ضد الحكومة وأنذروا الأخيرة بالويل إذا تمادت في إصرارها.
فلما رأى الخديوي أن موقفه بات خطيرا وتيقن أنه بإنشائه المحاكم المختلطة بات لا يستطيع إلا الامتثال، فرفع الحظر الذي كان وضعه على أيدي رجال التنفيذ الإداريين وأذن لهم بالامتثال للأحكام الصادرة والتي ستصدر أيا كان نصها ومهما كان موضوعها.
فأصبح دائنو الحكومة يجدون في أحكام القضاء المختلط قوة قانونية يتمكنون بموجبها من الحصول على حقوقهم فاستخدموها واستعملوها لدرجة توقيع حجز على منقولات سراي الرمل الخديوية والإنذار ببيعها
فأبت الأقدار إلا أن يكون الإصلاح القضائي ذاته الذي أعتبره إسماعيل تاج مساعيه الآلة الهدامة لعرشه
وضاق الخناق حول رقبة الخديوي إسماعيل فقام عام 1879 بعزل مجلس النظار وعزل كل من كان فيه من الأجانب، فعزلت الدول الأجنبية الخديوي إسماعيل من منصبه وولى بدلا منه ابنه محمد توفيق باشا فى25 يونيو 1879.
وهكذا كانت أحكام المحاكم المختلطة من عوامل عزل الخديوي إسماعيل. حتى وفاته لم تسلم من هذا اللون الرمادي الذي اكتست به كل أعماله، فقد توفى في الثاني من مارس عام 1895 بإسطنبول وجاء بجثمانه إلى مصر في مثل يومنا هذا وبدلا من أن يسيطر اللون الأسود كانت تعزف في ذات اليوم أوبرا عايدة بمبنى الأوبرا الخديوية التي قام بإنشائها.

 

https://www.youtube.com/@ElgemelyAhmed

 

 

https://operamisr.com/2023/03

 

 

أوبرا مصر ، دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى