دراسات ومقالات

محمد عطية محمود يكتب “واحة الغروب” بين العرف والموروث البدوي

في رواية “واحة الغروب” للروائي المصري “بهاء طاهر” تتجلى تلك العلاقة الشائكة والملغزة بين قيم الموروث القبلي التي تفرض وصايتها/ قضاءها الملزم على تلك الشخوص الواقعة تحت سيطرة القبيلة ونزعتها النفسية المترسخة، نحو تكريس مفهوم تسييد عقيدة الحكم المرتبط بالرموز الفردية سواء كانت سياسية أو دينية التي يعطيها هذا القانون هذا الحق، وهذه المسحة التي تقترب بقوة من سمة التقديس، وتغليب النعرة القبلية التي لا تحاول إيقاف سيل النزاع والحرب التي باتت مقدسة ولازمة لإثبات فردية الوجود وأحادية النظرة إلى العالم الذي يختزل في هذه البقعة المنسية من الأرض..

حيث يمثل القضاء العرفي ملمحًا مائزا من ملامح المجتمع البدوي، والذي يبدو الاقتراب منه سبرًا لغور التاريخ الاجتماعي للقبائل والعشائر التي ربما ابتعدت كليًا عن النسق المديني الرسمي بقوانينه وسلطاته الحاكمة، ليكون لها أعرافها وشأنها الخاص المعبر عن تلك البيئة التي تتميز بانعزالها المختار في أغلب أحوالها، ومن هنا تأتي سمة الرفض التام لكل ما يأتي من الجانب الآخر للعالم بالنسبة لهم، فيما تمثل هذه السمة بالنسبة للأدب ملمحًا مثيرًا للدهشة ومن قبيل المعرفة الموغلة في بقاع مختلفة تبدو بغرابتها وغرائبيتها مثارًا لمادة إبداعية مختلفة تتعانق مع سحر التعامل مع البيئة الصحراوية، حيث تقتطع تلك المساحات المشغولة ببشر ورموز استثنائيين من عمق تلك الطبيعة المغايرة، والتي يمتح النص الأدبي منها، مع تلك المغايرة المنشود التعانق معها وسبر غورها كنماذج إنسانية شديدة الثراء والخصوصية، وبارزة الحضور والتأثير في الواقع..


مجلس الأجواد، ورائحة الحرب
تلوح في الرواية تلك نذر وأشباح الحرب الطاحنة للبقاء بين الشرقيين والغربيين بواحة سيوة الواقعة في الصحراء الغربية، أبان الاحتلال الإنجليزي لمصر، تلك التي تنطلق من أحد الأصوات الساردة المتعددة، ورموزها في الرواية، وهو “الشيخ يحيى”:
“عندما وصلت إلى مجلس الأجواد في بيت الشيخ صابر، ورأيتهم متحلقين هناك شممت مرة أخرى رائحة الحرب وانقبض قلبي.. رأيت واحدًا من زجَّالتنا الغربيين يجلس مقرفصًا على الأرض بعيدًا عن حلقة الشيوخ. لم يبلغني أي من أجواد عشيرتنا أنه سيحضر، فهل له علاقة بهذا المجلس السري.. الزجَّالة أيضًا هم جند الأجواد في ساحة القتال ولهم رأي في الحرب والسلم. فليخيِّب الله ظني”
هكذا تبدو صورة المجلس العرفي للشيوخ (الأجواد)، كما يبدو مدى التوتر الناشئ بين شطري الواحة، وما يدعي كل منهما التميز به على الآخر، وهو الأمر الذي يشعل دائما نار الحرب (المتفق عليها) كسمة غرائبية من سمات تلك البيئة المنعزلة، وما يدور بينهما من صراع خفي ومعلن على حد السواء، وهو العُرف الذي يجعل شخصية نسائية تطفو على السطح من خلال أزمة ناشئة عن القضاء بأن يتم التزاوج بين العشيرتين لوقف نزيف الحرب والقتال، هي شخصية مليكة إحدى أيقونات النص الروائي، وهذه البيئة، بدخول مبرز لقضية وجود المرأة من خلال تلك العقيدة القبلية المتوارثة، والتي تبدو فيها ككبش فداء ربما لرأب هذا الصدع ووقف نهر الدماء بين الشطرين:
مليكة.. أيقونة الرواية والواقع

“لكني أعرف أن مليكة لن تعود، وأعرف أن فكرة المهدي لوقف الحروب لن تفيد.. لن يتغير شيء لو تزوج كل الشرقيين من الغربيات أو العكس.. لن ينزع التزاوج تلك البذرة الكامنة في النفوس، وها هو زواج غربية واحدة من شرقي ينذر بالشر، ولأسباب أقل من ذلك قامت بينكم الحروب.. لو أني أعرف لهذا الحقد المميت سببا! لو أعرف ما الذي يستأصله، لكن ها هم يتشاورون.. يتظاهرون بأنهم يتشاورون”
هكذا يتحول الخاص إلى عام مثير للاشتباك من خلال طقس من طقوس الحكم البدائي القبلي البدوي بإثارة تلك الأسئلة والتأملات الشاهدة على اضطراب المنظومة القبلية واستناد أحكامها واحتكاماتها إلى نوازع مذمومة تضرب في عمق النعرة التي تبعث دائما على الانفصال، ولا تعظم من الدور المنوط به الحكم أو القضاء الفاصل في القضايا المحورية التي يتعرض لها هذا المجتمع من قمع داخلي يتنازعون فيه، وقمع خارجي يأتي من قبل مشاكلهم مع النظام المستعمر الحاكم الذي لا تفيد مجالسهم في حل مشاكلهم معه..

وهكذا يبدو دور الخليفة الملهم (المهدي) ليضع أساسا هشا لقضائهم وملامح الحكم فيهم، كما تبدو الهشاشة من خلال هذه القيم المهتزة في القضاء لصالح الجماعة المتفرقة على حساب شخوص أكثر انهزاما وأكثر قوة في مقاومة هذه التقاليد والأحكام العرفية البالية المرفوضة على المستويين الذاتي والعقيدي، وهكذا تبدو غرائبية العلاقة بين الحرب وطقوسها وإفضاء كل محاولات القضاء والتحكيم إليها على النحو الذي يجعل منها نبراسا وعقيدة عمياء يتسلح بها هذا المجتمع الغريب الذي يجمع بين هوس القبلية والعرقية وهوس التلذذ بالدم والانتصار لأحكام قضائية لا تقرها الأعراف المعتادة بل وربما جعلتها جريمة من الجرائم ضد الإنسانية لا تقرها أبدا شرعية المقاومة للحفاظ على الوجود..


“تثير جنوني مثلها مثل الحروب، حفلات الدم التي لا تكاد تنتهي إلا لتعود، يتلهفون عليها لأهون الأسباب، أو حتى دونما سبب، يتشاور أجواد كل عشيرة ثم يتشاورون معا، وفي النهاية الحرب! ما هذا؟ ما معناه؟ حفلات فيها الزغاريد وفيها الطبول وهدايا أعراسها الجثث والأطراف المبتورة، لكنهم يستعدون إليها في جزل.. يختارون لها الساعة ويحددون المكان والقاضي”

تلك السمات والوقائع التاريخية المثبتة، والتي يمتد فيها المد الأنثروبولوجي ليكرس لتلك الطقوس وتلك العادات التي لا يغلبها قانون أو عرف أو قضاء، وتبدو فيها هذه النظرة الغريبة للتعامل مع البيئة والواقع الجاف الذي يجعل من دقائق الأمور أسبابا للنزاع وافتعال نشوء هذا الفتيل لنار الحرب وإراقة الدماء والتلذذ بمشاهدة جثث القتلى أو ما تبقى منهم أو ما فقد من أعضاء بشرية كان يفترض لها الوجود من أجل الحفاظ على البقاء، ولكنها الأحكام والأعراف التي تفرض سلطتها انطلاقا من الخواء.

“في الطريق إلى بستاني كنت أفكر فيما سمعت، وأسأل نفسي أين الحقيقة؟ هل رشقت مليكة السكين في صدرها حقا أم أنتم الذين أغمدتموه في قلبها لترفعوا، كما قال أجوادكم، دنس الغولة من الأرض؟.. أين الحقيقة وما جدوى أن أعرفها الآن وقد ضاعت مليكة؟ ضاعت بكذب الرجال ورعب النساء وغرور هذا المأمور الذي يأكله الحقد.. ضاعت فما أهمية أي شيء”


فهو قضاء الحرب الذي أفضى إلى قضاء معنوي على الحقيقة ممثلة في تلك الأيقونة “مليكة” حيث حبستها الأعراف والموروثات الموغلة في عتمتها، في ثوب المرأة التي تحولت إلى (غولة) بعد أن فقدت زوجها في قتال هذه الحرب المزعومة المصنوعة، وبما تأتي به التفاصيل الروائية والملامح الدالة على ذلك تجذيرا للأزمة وتجسيدا لها؛ لتمثل عمقا أنثروبولوجيًا آخر من أعماق هذه البيئة العمياء بطقوسها وناموس حياتها، والتي ربما كانت معادلا لتلك (الغولة، التي تمثل بعدا أسطوريا ميثولوجيًا ضاربًا بجذوره في الوعي البيئي) من جهة أخرى التي تأكل البشر المحيطين بها أو تثير فيهم رعبا على أقل تقدير، وإمعانا في صنع الحاجز النفسي الرهيب، ما يجعل من تلك الحالة شاهدا ونموذجا لهذه الإشكالية التي تندرج تحت بيئة تحبل بالكثير من المتناقضات والغرائبية، التي تتعاطى واقعا إشكاليا حادًا، ارتباطًا بالحرب التي تمثل قمة الصراع على الوجود، والتي ربما صيغت من أجلها القوانين والأعراف، وإن كان الطريق إليها ممهدًا بأشلاء البشر.

 أوبرا مصر  – دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى