دراسات ومقالات

مصطفى لطيف عارف يكتب رثاء الأصدقاء في الجراسون لأجود مجبل

رثاء الأصدقاء في المجموعة الشعرية ( الجراسون ) أجود مجبل
أ.د مصطفى لطيف عارف
ناقد وقاص عراقي

يحتلُّ الرثاءُ مكانةً كبيرةً لدى الشَّاعر المبدع (أجود مجبل) , وهذا يتَّضحُ من خلال كثرة ورود هذا الموضوع في أشعارهِ , ولعلَّ سبب ذلك يعودُ إلى فطرة الشاعر النَّقيَّةِ وأحاسيسه الفيَّاضةِ وصفاء سريرته , التي جعلت منه شاعرا لا يمتلك القدرة على تحمُّل مشاعر الكَمَد وفراق الأصدقاء , ومن ثَمَّ فمن شأنِ حوادث الموت ولواعج الفراقِ أن تُثير فيه المشاعر , وتَستَثير عواطفَهِ لتدفع بهِا نحو البُكاء والأنين , ويمكنُ أن نلحظ توزُّعَ الرثاء لديهِ بين معانٍ , لعل من أهمها : يتمثَّلُ بندب الأصدقاء , والزملاء. وأمام حتميَّةِ هذهِ المأساةِ وقفت الإنسانيَّةُ منذُ الأزل , تُعبِّرُ عن عاطفة الألمِ كلَّما امتدَّت لها يدُ الغيبِ , لتُعطِّل فاعليةَ الحياة في إنسانٍ ما , ليكون الرثاءُ هو هذا التَّعبيرُ الذَّاتي بالتَّفجُّع على الميت وبُكاء فضائلهِ , وتصوير مشاعر وجدانية خالصة حيال حادثة الموت , ولا يقفُ الرثاءُ على تخليدِ الإنسانِ الميتِ فهو تخليدٌ لقِيمٍ اجتماعيةٍ وإنسانيةٍ اقترنت بهِ أيضاً , فكلُّ صفةٍ من الصِّفات التي يقدِّمها الشَّاعرُ ( اجود مجبل ) للمرثي تقترنُ بفضيلة ٍ من الفضائل , وهذه الفضائل تُمثِّلُ البنيةَ الأساسيةَ للإنسان السَّوي حيَّاً , وتكونُ سبباً لذكرهِ إذا مات , هذا فضلاً عن أنَّ الرِّثاء يُعبِّرُ عن فضيلةٍ إنسانيةٍ أخرى تتصلُ بالمبدعِ نفسه , يتمثَّلُ بالوفاءِ لإنسانٍ فارقَ عالَم الأحياء0
وهنا تظهرُ براعةُ الشَّاعر(اجود مجبل) في تجسيدِ ذلك المشهد المأسوي والإلمام بتفاصيله , إذ نستشفُّ في نصوص (الجراسون) ذلك الأسلوب الرَّقيق الذي يُثيرُ الرَّحمة في أقسى القلوب , ويَستدرُّ الدُّمُوعَ ألماً وحرارة , ولنا أن نتصوَّر حالَ الشاعر المبدع في رثاء الشاعرة ( لميعة عباس عمارة ) بعد مضي سنوات قاهرة جعلته حزينا عليها وهي اقرب إنسانة إليه وهي في صراع دائم تقارع الإحزان , وتتغلب عليها , وتبكي دما على ما فاتها من أيام جميلة قضتها مع الأهل والأحبة,فنراه يقول :-
وعادت الى عشاقها

أجود مجبل
أجود مجبل

بعد غربة
اذن هي عشتار الهوى وهي (اينانا)
بعينين
لم يسكن سوى الشعرفيهما
وقلب به بغداد تحضن ميسانا
لتلقى هنا (بدر) المتيم
واقفا على الشط
مجنون القصائد هيمانا
وأحياناً يرتفعُ الشَّاعر إلى مستوى الحدث المؤلم , فيأتي رثاؤهُ عاطفيَّاً ، فالشَّاعر يسجِّلُ مُضِيَّ الأصدقاء وتوجُّعِهُم ممَّا آلَ إليه حالُ الفقد والعناء على فراقهم , وقد كثرت الحوادثِ وهواجسُ الهمِّ والأنين من البعد ، وهي علامةُ من علامات الرحيل عنه , وها هو يخاطب صديقه الروائي الدكتور (علاء مجذوب) الذي اغتيل قرب بيته بدراجة نارية في مدينة كربلاء قرب مرقد الإمامين بقوله فتصبَّر يا أُخي , فالقدرُ قد قسَّم أرزَاءَهُ بيننا وليس بوسعِنَا ردُّه أو الاعتراض عليه سوى تحمُّل مشاقة وألمهِ , ويصور الجريمة البشعة التي تعرض له صديقه فنراه يقول :-
من قال :
ان الفتى لا يزمع العودة؟
غدا يعود
وفي استقباله وردة
غدا يعود بلا دراجة
دمه بين المنائر
يروي قصة الردة
سيستريح على أنغام عازفة
يخبئ الأرز في أوتارها
مجده
تميز الشاعر (اجود مجبل ) في مجموعته الشعرية (الجراسون) برثاء الميتِ بالعبارات المُشجية والألفاظ المُحزنة التي تُصدِّعُ القلوب القَاسية , وتُذيبُ العيونَ الجامدة, لتكونَ المرثيَّةُ مليئةً بالتأوُّه والعويل , وتحملُ مشاعر الثكل أو التَّرمُّل , مفعَمة بالتَّوجع , وحرقة الأحشاء , ونستطيع تسميته (بالرثاء العاطفي) فذلك يعودُ إلى كونهِ يختصُّ برثاء الأب أو الأقارب ومن ينزلُ منزلتهم , فضلاً عن تميُّزه بعنصر الصِّدق الذي ينمُّ عن الحسرةِ الشديدةِ والالتياع والذُهُول إزاء هول الموت والجزع من خَطبهِ , والشاعرُ تعمد إلى رثاء الموتى بأشدِّ العبارات أسىً وحزناً , فللموت فعلٌ يجذبُ الألمَ والأنين , وقد بَدَت علاماتُهُ بالظُّهور بعيداً عنهُ ، إلَّا أنَّهُ باتَ على مقربةٍ من بصيرتهِ وبصرهِ , وفي رثاء الذات ومدينة بغداد عند الشاعر فنراه يقول:-
نموت نحن
وتبقى بعدنا بغداد
سبيكة من جلال الموت والميلاد
يمضي الطغاة ونمضي وي باقية
كم دعت من نائ
واستقبلت من عاد
تحب كل بنيها دونما عتب
ولا تفرق سكيرين عن عباد
لكنها لا تحب الخائنين
إنَّ رِثاءَ الآخَر لدى الشاعر انقسم إلى ثلاثة أنواع هي : رثاء الأهل , والنَّدب , والتَّأبين , وقد اتَّسمت هذهِ الأنواع كلُّها بصدق العاطفة , وعمق الأسى , وصدق الموقف الشِّعوري , وبالأخصِّ فيما يتعلَّقُ برثاء إلام , وندب الأهل , فالذاتُ تقطرُ حزناً و ألماً على مصابِها النَّاتج من شعورها بقرب لحظة الموتِ منها , لذلك التجأت إلى رثاء ذاتها بالتَّفجُّعِ والبُكاءِ ، الأمرُ الذي ازداد حرارةً وغُصَّةً مع ندب والدته خاصَّةً وأنَّ القدرَ قد اختارَهُا , واختطفَهُا بعيداً عنه , فكان لذلكَ الموقف جُرحاً غائراً تركَ أثراً عظيماً في نفسهِ ,فنراه يقول :-
أمي
رسولة أعوام مذهبة
لما عطشنا اله الماء أرسلها
كانت تجيء اذا جعنا
فتغمرنا فصول قمح
أجاد الله سنبلها
ولو بكى احد منا تعانقه
كنخلة عانقت في الريح بلبلها
هي التي علمتنا

   أ.د مصطفى لطيف عارف - ناقد وقاص عراقي
أ.د مصطفى لطيف عارف – ناقد وقاص عراقي

أمَّا تأبينهُ ثُلةً من الأُدباء فقد كانوا ممَّن تسلَّقوا , وملكوا قلبَ الشاعر , فما كان منهُ إلَّا أن يبادلهم مشاعرَ الصَّداقة والوفاء الخالص , وفي رثاء صديقه الدكتور عبد المطلب السنيد ,وهو يتحدث عن المسرح ,وكتابه الشهير عن شكسبير الذي إلفه قبيل وفاته , فنراه يقول : –
سيشرق حكاؤون من ذكرياتهم
وينبت زهر في المسارح لا ينسى
سياتي شكسبير المضاء بوعيه
ليشكر من في ارض اور سقى الغرسا
وانت هو الاوري
اختام عمرة مبعثرة
والريح تحفظه درسا
رعاياه اشجار تضيع وتلتقي
ولكنها ما صاحبت مرة فأسا
مشى عاريا فيه الكلام
ولم يشأ
إنَّ الشاعر ( أجود مجبل ) في موضوع الرِّثاء اتسم بأُفقَ التَّجديدِ الشعري , وخرج إلى فضاءاته الواسعة , بل التزم معنى الرِّثاءِ التَّقليدي , فضلا عن ذلك لم يخرج عن محور القصيدة العمودية , أمَّا صفاتُ الموتى وفضائلهم فقد منحهم أبعاداً دلاليةً تَزيدُ من الإشادة بهم , وبمصادر ثقافتِهم بين النَّاسِ , فضلاً عن ذلك فقد أكثرَ من معاني البُكاء, والتَّأمُّل, والحكمة التي تُصاحِبُ دلالةَ الرِّثاء.

 أوبرا مصر  – دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى