دراسات ومقالات

سرديات بهاء طاهر بين جماليات العرض وآثار المُضمر الإنساني

خالتي صفية والدير قراءة تأويلية ثقافية

الأستاذ الدكتور نجيب أيوب يكتب

قالوا عنه: إنه الروائي الثائر بين جيل التمرد المُشاكس (جيل الستينيات من القرن الماضي)، وعَدَّه بعضُ النقاد أنه الرجل الثاني بعد نجيب محفوظ، وعُدَّ من الكُتَّاب والمثقفين المفكرين والمترجمين، ولم تقتصر كتاباتُه على القصص والروايات فحسب، بل كتب للمسرح ولنقده، وكتب مقالاتٍ للصحافة، وله كتب تحمل ملامح فكرية متمايزة عما هو دونها، أهمها أهمها كتابه:(أبناء رفاعة) و(أيام الأمل والحيرة) ومقالات أخرى في النقد المسرحي تحمل توجُّهاته الفنية وأفكاره النقدية في مجال المسرح، جُمعت هذه المقالات في كتاب وُليد بهاء طاهر في محافظة الجيزة بجمهورية مصر العربية، عام ١٩٣٥م، لوالدٍ ووالدةٍ من قرية الكرنك الأثرية بالأقصر جنوب مصر، وكان لهذه الأصول دورُها الفاعل في تكوينه الثقافي بجوار دراسته الجامعية بقسم التاريخ بكلية الآداب، وإقامته بالجيزة حيث عبق الآثار المصرية أيضًا. كان أبوه معلمًا للغة العربية، تنقل حاملا مهمة تعليم العربية بين مدارس أكثر من محافظة مصرية، فاستقر به المسيرُ بمحافظة الجيزة جوار الأهرامات ودلالات ذلك في عمقه التاريخي أيضا. وهو مؤلف روائيٌ وقاصٌّ ومترجم، نبغ متفوقا على جيله في الرواية، مما أذاع صيته، فمُنح الجائزة العالمية للرواية العربية عام 2008م عن روايته (واحة الغروب). حصل بهاء طاهر، على شهادة الليسانس الجامعية من كلية الآداب قسم التاريخ، عام 1956م من جامعة القاهرة ودبلوم الدراسات العليا في الإعلام شعبة إذاعة وتلفزيون سنة 1973م.
كان ميلادُه في 13 يناير 1935م، بالجيزة، وعاش سبعًا وثمانين عاما حافلةً بالإنتاج والإبداع والعطاء المُبهِر.
وتُوُفي في 27 أكتوبر 2022م بعد رحلة عطاء مشهودة.
حصد الجائزة العالمية للرواية العربية، ومن أهم
أعماله البارزة: (واحة الغروب، عام 2006 م؛ والحب في المنفى عام 1995م، وقالت ضحى 1985 م، وخالتي صفية والدير عام 1991م و شرق النخيل 1985م، وبالأمس حلمتُ بكَ 1984 م، وأنا الملك جئتُ: مجموعة قصصية1998م)

وله وكتابات أخرى على مستوى الرواية ونقدها والمسرح ونقده، وغيرها مما سنتناوله في مكانه من هذه الورقة. يُعدُّ بهاء طاهر رائدًا بين أقرانه من جيل الستينيات، الجيل الذي أحدث ثورةً في الكتابة الأدبية، عبر اعتماده أساليبَ جديدةً في السرد، وهجره فكرة البطل النموذج والشخوص النمطية، التي تمثل إما خيراً محضًا، أو شراً مطلقاً. فأصبحت شخوصُه أكثر إنسانيةً وواقعيةً ومِصداقيةً، ولم تأت مصنوعة برسوم المثالية المفتعلة والممجوجة المستهلكة، والتي تُوحي بالخطابية الوعظية، مما يُبطل فعاليتها الفنية لدى المتلقي، لكن ما شرع فيه هذا الجيل الستينياتي، جاء عبر ما تحتويه شخصياتهم الروائية من تناقضات بين حالات متضاربة، إما نوازع رديئة خبيثة أو أخرى جيدة طيبة. كما اتسمت أعمال هذا الجيل بالديناميكية (الحراكية والتحوُّل)؛ فاضحت أكثر أثراً في جماهير قُرَّائهم في تلك الفترة، وأهم ما يُحسب لكُتَّاب تلك الفترة، تمردُهم على الواقع المؤلم وتصديهم لكل مظاهر الاستبداد والضغط والتسلط والظلم والقهر السياسي من قبل الحكام الشموليين، والخروج من دائرة الأديب المستأنس والمدجن المُسَيَّس، بل خرجوا عن ذلك ببث أحلامهم المشروعة بالعدالة والمساواة ونشر الحرية في التفكير والإبداع المادي والفكري. بدت كل تلك الملامح الفنية والموضوعية هذه في المنتج الأدبي لبهاء طاهر، التي هي من حيث الكم، لم يتجاوز عددها ستَ رواياتٍ هي كما ذكرنا من قبل: (“شرق النخيل”، و”قالت ضحى”، و”نقطة النور”، و”خالتي صفية والدير”، و”الحب في المنفى”، و”واحة الغروب”، وخمس مجموعات قصصية هي “الخطوبة”، و”بالأمس حلمت بك”، و”أنا الملك جئت”، و”ذهبت إلى شلال”، و”لم أعرف أن الطواويس تطير”) إضافة إلى بعض الكتابات المسرحية والإسهامات النقدية. لكن استطاع طاهر عبر أعماله هذه، أن يصنع من التَمَيُّز ما حُقِّقَ له من شهرةٍ واسعة، عززتها مواقفه النضالية المتحيزة دائماً للحرية وللعدالة وللوطن مصر ذاتها وعموم شعبها المطحون. وهذه المكانة التي تبوأها طاهر في قلوب أجيال متعاقبة من قُرَّاء رواياته، والمشاهدين لأعماله التي تُرجمت أعمالا دراميةً على الشاشات. وكانت الجوائز التي حصدها عن أعماله التي حفلت بها الساحة الأدبية والثقافية في مصر والبلاد العربية والغربية، خيرَ دليل على ما حققه من نجاحات تُحتسب في شغله الفني. أما عن جوائزه التي تعدُّ دليلا على ما نذهب إليه، فقد حاز بهاء طاهر جوائز عديدة خلال مسيرته الطويلة، ومنها جائزة الدولة التقديرية فى الآداب، وجائزة (غوزيبى أكيربى) الإيطالية عن روايته “خالتى صفية والدير” وجائزة (آلزياتور) الإيطالية عن روايته “الحب فى المنفى”، إضافة إلى الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) عن روايته الأخيرة “واحة الغروب”. ورغم كل هذه الجوائز، كان طاهر يرى أن النجاح الحقيقي يكمن في رواج الأعمال لدى القُرَّاء، ولا يحققه له سوى حرص الجماهير على قراءة أعماله. فالجوائز لديه، لا تصنع قيمةً لكاتب لم تحققها له أعماله. وربما كانت الجائزة الكبرى التي فاز بها بهاء طاهر هي المحبة التي ترسخت له في القلوب؛ حيث كتب الناقد شعبان يوسف، في كتابه الذي نشرته أخبار اليوم: (هكذا تكلم بهاء طاهر)، واحتفى به يوسف إدريس، عن قصته (المظاهرة) التي كتبها سنة ١٩٦٤م، وكتب الكاتب الإماراتي ورئيس اتحاد الكتاب الإماراتيين سلطان العميمي، ينعيه في ذكرى وفاته على صفحته “بالفيس بوك”، “رحيلك مر يا أستاذ بهاء طاهر، وصدى روحك الدافئة ما زال في الذاكرة”. غلب على كتاباته الشكل الدرامي، وذلك لاستعداته الحِرفية، حيث عمل في الإخراج بالإذاعة المصرية في بداية حياته العملية، وتجسد ذلك كله في روايته الأكثر ذيوعا وشهرة (خالتي صفية والدير) التي أخرجها المبدع إسماعيل عبدالحافظ مسلسلا تلفزيونيا عُرض ١٩٩٥م مثَّل البطلَ فيه الفنان ممدوح عبدالعليم (حربي)، ونال شهرةً كبيرة بين المشاهدين في مصر والعالم العربي، كما أخرجها الفنان نور الشريف مسرحيةً على المسرح الطليعي (القومي)، كذا كانت (واحة الغروب) و (حديث الضحى). وكان علاوة على ذلك، ناقدا بصيرا ومُلمَّا بأدوات النقد ومناهجه الأصيلة، حيث كتب مقالاتٍ متعددةً في النقد المسرحي، وله كتابه الخاص بذلك الذي نشره عام ١٩٨٤م: (عشر مسرحيات مصرية)، كما كانت ثقافته وآراؤه ومواقفه الفكرية في كتابه الشهير:( أبناء رفاعة) يقصد رفاعة رافع الطهطاوي وأولاده ممن اتبعوا نهجه من التنويريين منذ بداية القرن التاسع عشر. انحاز طاهر في أغلب آرائه لآراء الدكتور طه حسين، وبخاصة من حيث مصرية مصر المُمَيِّزة لشخصيتها الثقافية وعوامل التاريخ والجغرافيا في ذلك، والتي تمخض عنها كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) الذي نُشر بعد معاهدة ١٩٣٦م وبذوغ شمس استقلال مصر عن بريطانيا المحتلة، وأصدر كتابه (أيام الأمل والحيرة) الذي احتوى على عدةِ مقالاتٍ له نشرتها صحيفة الأهرام فيما بعد ثورة يناير ٢٠١١م، والتي أباح فيها عما أصابه من حَيرة أمام ظواهر المجتمع المصري وهمومه المركبة المعقدة والملتَبسة، بفعل أيام طال أمدُها، من الاستبداد والفساد الشامل، مفصحًا عن بصيص من الأمل الذي صاحبه وساوره ينازع حيرته في مستقبل أفضل، رآه بين عيني الشباب وفي قوة سواعدهم واستنارة أفكارهم، وقارئُ هذه المقالات مجموعة بين دفتي كتاب واحد مع ملاحظة تاريخ نشرها يدركُ مدى حذره مما كان يتهدده من مخاطر البوح بها، فيما قبل تلك الفتر (بعد قيام ثورة يناير وزوال الكابوس). وبدت النزعة اليسارية لديه بوضوح، شأن أقرانه ورفاقه من هذا الجيل الذي افتتن بثورة يوليو ١٩٥٢م وبجمال عبدالناصر الذي استند إلى اليسارية الاشتراكية الشرقية، في مواجهة الإمبريالية الغربية المناقضة للفكر الاشتراكي الشرقي، والتي تمثل المستعمر الغربي البغيض الذي ثارت عليه هذه الثورات؛ لذا تراه قد عانى تهميشا وحصارًا، بل عزلًا وفصلا من وظائفه ومواقعه، في ظل المتغيرات التي داهمت مصر والمنطقة بعد موت الزعيم ناصر الفجائي ١٩٧٠م، وما صاحبها من الردة التي اتخذها السادات في الاتجاه المعاكس لسلفه نحو الغرب الأمريكي، وما تلا ذلك من مشروع السلام المزعوم مع الكيان الصهيوني من وجهة نظر التيار الاشتراكي اليساري الناصري حينها وما صاحب ذلك من الانفتاح غير المدروس الذي أغرق البلاد بما لا يروق لهذه التيارات، في مواجهة تيارات التأييد النفعية وممارسات الوصوليين والانتهازيين، الذين مالؤا السادات في قرراته ونافقوه، وجاروا فيما بعده الرئيس مبارك والفساد الذي تمدد وتجذر مع طول فترة حكمه، والأجواء الانتهازية التي غلبت على سلوكيات عصره وشاعت؛ لذا اتُهم بهاء طاهر، بأنه كفكاوي نسبة إلى (كافكا) تشاؤمي سلبي، أبطاله مهزومين، يائسين قانطين من الواقع ومنكفئن على البؤس وعدم التفاؤل والحلم. ويبدو السر في هذا المكون السياسي بقناعاته كان لنتيجة تاريخية مرتبطة بحياة بهاء طاهر والمجتمع المصري برُمته، حيث عاصر الراحل أنظمة سياسية عديدة تعاقبت على مصر، فكان مولده في 13 يناير (كانون الثاني) عام 1935م، خلال الحقبة الملكية التي شهدت حراكاً سياسياً، إذ كانت مصر في طريقها آنذاك الى الاستقلال عن الاحتلال البريطاني. وقد تزامن شبابه وصباه مع قيام ثورة 23 يوليو عام 1952م، وكان طاهر من المؤيدين للثورة والمؤمنين بها بكل إخلاص وحماس. ورغم رفضه بعض أشكال الدعاية لها، وانتقاده استبداد السلطة وأساليم الحكم الشمولي المتغطرس، وتأثره الشديد بنكسة 1967م، ظل على احترامه للرئيس جمال عبدالناصر، في كل مرحلة من مراحل حياته. واستطاع عبر عمله في إذاعة “البرنامج الثاني”، أن يلعب دورًا مهما على الصعيد الثقافي، فقدَّم الكثير من الكتابات الجادة لكُتَّاب جُدد مجتهدين. واستمر رغم تغيُّر الأنظمة على موقفه الرافض لقمع الحريات، مما عرضه للتنكيل خلال عهد الرئيس السادات، فاضطر إلى الابتعاد عن مصر والتنقل بين أفريقيا وآسيا، حتى استقر به المقام في سويسرا، التي عمل في عاصمتها جنيف، مترجما لدى المقر الأوروبي للأمم المتحدة، في الفترة من عام 1981م، وحتى عام 1995م، وعاد بعدها مرةً أخرى إلى مصر مسقط رأسه ومرتع نشأته وشبابه ومدرج انطلاقه وكفاحه. ******* أما عن روايته الرائعة: (خالتي صفية والدير) التي نشرها عام ١٩٩١م، ولاقت رواجا كبيرًا بين القُرَّاء واهتماما شديدا من النُقاد حينها، وكان تحويلها إلى مسلسل تلفزيوني كتبته سيناريو الكاتبة يسر السيوي، وأخرجه إسماعيل عبدالحافظ بطولة ممدوح عبدالعليم مع لفيف من الممثلين المصريين، مما جعل الرواية أكثر انتشارًا بين العامة والخاصة، بشكل صارخ في مصر وبين البلدان العربية كافة. وتدور أحداث الرواية حول فتاة جميلة ثريَّة مات أبواها وتركاها يتيمةً؛ ليتبناها أحد أقاربها (الشيخ إبراهيم) زوج عمتها، ووالد الراوي (حسن)، وتلتقي عنده ب(حربي)، أحد أقارب الشيخ إبراهيم، وتنشأ قصة حبٍ عذري صادق من طرف واحد وهو الفتاة الحييَّة المحافظة صفية وتُخلص صفية في هذا الحب الطاهر البريء أيما إخلاص، بينما لم تستطع الإفصاح للمحبوب به لتكوينها النفسي والأخلاقي في ظل ثقافة البيئة الصعيدية المعروفة، ولم يتعد الأمر من طرف حربي، حد المَعَزة والاهتمام الأخوي المُحاط بقيم العائلة الصعيدية في مصر، بعدِّها أختا له ليس لديه إلا الاهتمام بها والحرص على مصالحها والخوف عليها، كواحد من نسيج الأسرة، بكل وفاء وإخلاص نقي طاهر. وكان لهذا تغذيتُه الراجعةُ (الفيدباك)، لدى صفية التي تحول حبها له إلى درجة العِشق المُضمر بين أحشائها تجاه سلوكياته العفوية النبيلة والصادقة، مع وسامته ورجولته الحاضرة والصارخة. لم تُفصح صفية عن ذلك له ولا لغيره، بل ظلت تقاسي عناء هذه المشاعر الدفينة المختلطة بالأمل في تحقق الهدف الحالم. إلى أن تفاجأ به يطلب يدها ليس له، بل لخاله القُنصل العجوز الستيني، فتنهار داخلها وتقبل المشروع بحالة مختلطة من مشاعر الانتقام المضمر، لا تدري هل هو من نفسها؟! أم من حبيبها حربي؟! وتتم الزيجة من القنصل الثري ذي الوجاهة المُسِن، ويظل حربي على تفانيه في احترامه لها والخوف عليها بكل براءة ونقاء أخوي، وتتبلور بين أضلاع صفية حالة فريدة من نوعها بين حالات الحب المرضي (العشق)، أستطيع تسميته ب(الحب الانعكاسي الملتبس) الذي يستكنُّ حبا وينعكس كراهية وغُبنًا، مع احترامها وحبها للعجوز الطيب المتحضر (خاله القنصل) ، ولي نعمتها وأبي طفلها الصغير (حسان) الذي رُزقت به من هذا العجوز الوجيه، فزاد ارتباطها به. وتتضافر عوامل الشر لتنشأ عقدة العمل من الوشاة (العمدة) الذي يحرص على الإطاحة بحربي من طريق شراء أرض خاله القنصل التي يحرص العمدة على شرائها حيث يعترض على بيع أرض خاله ويؤثر على قرار القنصل في ذلك، ليبث العمدة وأعوانه إشاعة حرص حربي على قتل (حسان طفل القنصل حلمه الوحيد وحيلته في الحياة) دون سند، ويقتنع القنصل بذلك وتسوء العلاقة بين حربي وخاله والتي زاد منها كراهية (صفية) الدفينة لحربي، وتقبلها لهذه الإشاعة المُغرصة وتغذيتها ثارًا لأنوثتها التي أهانها حربي بالإهمال واللا مبالاة، والتى انتهت بتعذيب حربي بيد مطاريد الجبل، الذين استأجرهم القنصل لتعذيبه حتى قُتل القنصل على يد ابن أخته حربي، خلال المنازعة، ودون قصد مسبق من حربي، في سياق دفع التعذيب عن نفسه. ويُسجن حربي ويشتد به المرض داخل محبسه؛ ليخرج بالعفو الصحي ويُوْدِعه الشيخ إبراهيم بالدير، وبمعرفة المقدس بشوي) وتنسيق مع كبير كهنة الدير، هربا من انتقام صفية الثأري منه، ويشتد المرض بحربي ليموت في النهاية؛ وتنهار صفية بشكل لا إرادي وتمرض كالعَشقة بعده…. ؛ وعلى أثر حبها الدفين له والذي تجلى كُرها زهاميا ارتكاسيا ملتبسا في دخيلتها بحبه المُضمر المتجذر في وعيها، حتى تموت وهي تهزو مُصَرِّحةً بحقيقة مشاعرها المتوارية في عقلها الباطن، مكررة اسمه وموصية للشيخ إبراهيم، بأن يقبل زواجه منها ولا يثقله بالمهر، وقد جَسَّدها المسلسل في هذا المشهد بتفاصيله: “متطلبش منه مهر يا آبا، اللي معاه يدفعه”. لتنتهي القصة نهاية مأساوية (تراجيدية)، على غِرار تراجيديا نهايات قصص العشق الأموي في الحجاز، بين قيس وليلى – عروة وعفراء – وقيس ولبنى…. إلى آخره من قصص تنتهى دائما بيأس وقنوط واستسلام للقدر وجِنان وهيام في القفار حتى يموت البطل وتموت وراءه البطلة، في نهاية مأساوية قوامها الحزن والألم المختلط بالارتكاس النفسي والزهام والهلوسة ثم الفصام، فيهيم على وجهه ليموت العاشق عشقًا وفناءً في محبوبته التي تلاقي المصير نفسَه. وقارئ الرواية يستشعر رقةً ونبلا إنسانيًا وصدقَ مشاعرٍ، نقله بهاء طاهر لمتلقيه، في وعاء حكائي مُتقَن، وبواسطة لغة سهلةٍ منيعةٍ تعكس أحاسيسَ تمسُّ حياة كل من يقرأها من جانب ما، من جوانب حياته كإنسان يواجه هذه التفاصيل في مسيرة حياته. لقد استخدم الروائي شخوصها: (صفية، حربي، الحج إبراهيم، المقدس بِشُوي، القنصل، حَسَّان، عمدة القرية، الغجرية أمونة، مطاريد الجبل، فارس زعيم المطاريد، حُنَيْن المسيحي أحد المطاريد، قُطَّاع الطُرُق، العربان غفر القنصل، حُمَار صفية، وردة الشام، المأمور….. ومن دونهم من شخصيات ثانوية وهامشية غير محورية في الرواية). وتدور الأحداث التي عرضناها مختزلةً في عُجَالة، بالأماكن التالية: (قرية آمنة مستقرة هادئة شمال مدينة الأقصر في صعيد مصر. وفي الدير الذي يقع على حدودها، ومنزل الشيخ إبراهيم، وقصر القُنٍْصُل، والسجن……). ***** ومن يقرأ هذه الروايةَ قراءةً متأنيةً فاحصةً، بأدواتٍ نقدية تراعي البُعدين (النسقي والسياقي) في تقرير واحد، سيُلاحظ الآتي: أن بهاء طاهر قد أجرى أحداث روايته موظفا قرائن الزمان والمكان والشخوص، واضعا عقدة للعمل وحلا منطقيا لهذه العقدة، تحت آلية مكوكية من التصاعد والتنازل، في دينامكية اللغة السهلة الجاذبة والماتعة بتعبيراتها الموحية، بظلال الفلاش باك والمونولوج الداخلي الذي أفصح عن دواخل نفوس الأشخاص، وكان مبررًا مقبولا لتراتب الأحداث والتواشج فيما بينها، في حيِّزٍ جغرافي محدود (وهو قرية الراوي) بأماكنها المتقاربة التي سلف ذكرها، ونطاقها التاريخي الذي لم يتجاوز خمس عشرة سنةً، وراويها (حسن بن الشيخ إبراهيم) الذي بدى على استحياء وبظهور غير مباشر، كان يُخفيه على القارئ المتعجل بحنكة الروائي المحترف، وكان لذلك دوره الفني في ترك مساحة لشخوص الرواية الذين سبق ذكرهم للظهور في حوارات الرواية الخارجية الظاهرة، والداخلية المضمرة، في تصعيد تراتبي منطقي جاذب للمتلقي المتابع لهذه الأحداث على هذا النحو: ١_ قدوم صفية الفتاة الجميلة الرقيقة الحيية، واستيداعها منزل الشيخ إبراهيم (أحد أقاربها) بعد وفاة والديها. ٢_ التقاء صفية مع حربي (أحد أقارب الشيخ إبراهيم) والعلاقة الإنسانية الطيبة الأصيلة بينهما، ونشوء حبها له من طرف واحد، مُقابل تصرفاته المحترمة معها ومع كل من يُحيط به، وحلمها البريء في الارتباط به. ٣_ تَقَدُّم حربي لخطبتها، ليس له، لكن لخاله القنصل ستيني العمر، وصدمة صفية بذلك. ٤_ قَبول صفية للخطوبة في صورة انتقام غير إرادي، لا تدري، هل هو من نفسها أم من حبيبها (المُغيَّب) حربي؟!. ٥_ تحوُّل حبِها لحربي، إلى شكل فريد ونادر، نستطيع تسميته ب(الحب الارتكاسي المنعكس بغضا) الذي يختلط بكراهية طاغية على مشاعرها، ويتوارى حبًا مضمرًا في دخيلتها ومكنونها النفسي، والذي مثًّل حالة فِصام شخصي، وتمزيق لنفسيتها بشكل مرضي. ٦_ ظهور عقدة العمل، وهي الوشاية بين حربي وخاله القنصل، من قبل العمدة الحاقد عليه، (ببث إشاعة حرص حربي على قتل حسان الوريث المنتظر للقنصل) واستجابة صفية غير الإرادية لهذا الشرخ وتغذيته. ٧_ نجاح الوشاية وظهور الفتنة بين حربي وخاله، لدرجة تعذيبه بواسطة خُفرائه وقُطَّاع الطُرق، ويتصاعد الحدث حتى يُقتل القنصل عفوا ودن قصد مُبَيَّت، على يد حربي، أثناء التنازع. ٨_ التغيُّر الجذري في شخصية صفية بعد موت القنصل، للتحول إلى عجوز نكداء، والبوح بكراهيتها الملتبسة بحبها لحربي، لتُعلن حرصها على قتل حربي، ثأرًا وانتقامًا لزوجها القنصل، وتحوُّل ممارساتها وملامحها حتى مع كل من حولها. ٩_ محاكمة حربي والحكم عليه بعقوبة الحبس المُقَيِّد للحرية، ومرضه المزمن بالسجن، والعفو عنه بسبب صحي. ١٠_ تدبير صفية المُعلَن للثأر من حربي، وإخفاء الشيخ إبراهيم له في الدير بمعرفة المقدس بشُوي. ١١_ تردي حالة حربي الصحية ووفاته، وفشل الأطباء في علاجه وإنقاذه. ١٢_ تدهور حالة صفية النفسية وبالتالي الصحية، لتذبل كالعَشقة الشاحبة، وتموت بحزن داخلي لا إرادي، بشكل ارتكاسي نفسي، وتحتضر وهي تهزو بترديد اسم حربي، وكأنه يتقدم لخطبتها، وتُصرح بالموافقة عليها والنصيحة بعدم التوقف معه على المهر، في صور غسيان وثرثة عبثية. ١٣_ رحيل المقدس بُشوي عن القرية وتوديع أهلها له مُصْطَفِّين بشكل حزين يعكس مأساة الفراق، بعد عشرة قائمة على الود الأخوي القائم بين النسيج المصري الواحد. لقد نجح بهاء طاهر في إخراج الرواية في ثوبها الجمالي الفني المتمكن من أدوات الفن الروائي؛ بالشكل الذي يأخذ على القارئ نفسه ويخطف مشاعره، بالشكل الذي يصعب علينا تتبع تفاصيله الآن؛ فأشرنا إليه على استحياء، في هذه الورقة التي تستهدف التأويل وتعمق مضمرات الثقافة لدى المبدع، والتي تتوارى خلف بلاغيات الكتابة الأدبية عنده، فلو اعتمدنا مرتكزات التأويل (الهرمنيوطيقي) وهي: ١_ النظر للنص الروائي بوصفه متنًا وخطابا على أنه سرد فني منفتح ومتباين (اللغة والأصوات والنبرات والنزعات والمواقع ووجهات النظر…. وما إلى ذلك) مما تحمله شخصيات الرواية وأحداثها وأماكنها وأزمنها، ليُحاكي بأبعاده وفضاءاته، توجهاته وآرائه ومواقفه بتنوعها الكلامي والاجتماعي، ومرجعياته ومراميه في سياق النص الزماني/المكاني، الذي تحقق فعلا أو المحتمل تحققه. ٢_ النظر إلى بنية النص الروائي السردية عبر مكوناتها الكلية (عتباته النصية، ومستوياته اللغوية،….. وما إلى ذلك من مكونات الشخصيات والأحداث والزمان والمكان، وحواراته الداخلية (المونولوج) أو الخارجية، للوصول إلى وصف رسالة النص عبر تقنياته الفنية، تتناغم في أنساقها الجمالية لتتوالد دلالات رسالة النص. ٣_ مراقبة العلاقة بين (المؤلف، والنص، والقارئ، بجوار الاهتمام بفعل القراءة ذاته) دون إهمال طرف دون الآخر، أو الاهتمام بعنصر وترك آخر من هذه العناصر، فالنص الأدبي: ظاهرة تفاعلية نابضة بلغة حية دينامية متحركة، وليس ظاهرة سيميولوجية لغوية ساكنة ومتجمدة). وهذا يُحتم على الناقد الاهتمام بالعلاقة التفاعلية بين هذه المكونات. إننا أمام كاتب روائي له خلفيته الحضارية والثقافية التي تنعكس بوضوح في مخرجاته الفنية والفكرية، على النحو التالي: أ _ أصول بها طاهر الشخصية الجنوبية، التي التي هاجرت عبر أبوين صعيديين إلى الجيزة بالقاهرة الكبرى، والتي تتفتق من بين حروف كتاباته، لتعكس مصريته المترعرعة بين عبق الكرنك جنوبا والأهرامات شمالا، بين أسرة محافظة على هوية مصر العُليا. ب _ تكوينه الفكري معقد التركيب، المنعكس عن تأثره بمسيرته التعليمية غير التقليدية بين الكُتَّاب والتعليم الرسمي، وتأثره بمكتبة أبيه الذاخرة بكتب التراث لتظهر آثار كليلة ودمنة ولغة ابن المقفع على كتاباته، وكتابات يحيى حقي الروائية، ومقالات محمد التابعي الصحافية، مما أخرج لغته عذبة رصينة سلسة. ج _ رؤيتُه الخاصة لعلاقة اللغة بالأدب وبالحياة، وقصدية الأدب لا عبثيته، والتماهي التام بين اللغة وموضوع الأدب، وعدم الفصل بين اللغة ومقاصد الحياة وتغيير وجهتها للأفضل من خلال الآداب والفنون الراقية، وأن الافتتان باللغة وجمالياتها في حد ذاتها بالعمل الأدبي، يُذهب من دورها الوظيفي، مما يُخرجها عبثيةً فاقدةً لدورها الوظيفي الملتبَس مع موضوع الأدب ومقاصده الفلسفية والأخلاقية، وهو بذلك يسير على درب يحيى حقي وجيله، في هذا الصدد. د _ تجاوزه لحدود الخلاف بين الشرق والغرب، إلى الأفق الإنساني العام، لينحاز إلى الإنسان عموما مهتما بالمختلف في كل الأُطر، الدينية أو العرقية أو القومية أو اللغوية…… إلخ، ولو بين شعب واحد، يتأثر مثلا: في قصته “بالأمس حلمت بك” بما سبقه من أعمال ارتكزت على هذا الخلاف الشرقي/الغربي من ( قنديل أم هاشم ليحيى حقي، وموسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح، وعصفور من الشرق، لتوفيق الحكيم، والحي اللاتيني…….. وغرها) وظهر ذلك جليًا بمقاصده في روايتنا، خالتي صفية والدير. ها_ نسبته الفكرية والعمرية والفنية لجيل الستينيات، المختلف عما سبقه من أجيال المثقفين المدجنين المستأنسين العاملين للسلطان تبريرا وتوثيقا لكل ما يصنع، لكنه كان ممن حلموا بالحرية والعدالة والمساواة. و _ مشروعه الفكري، هو الهم الإنساني العام ووحدة العالم، ونصرة الضعفاء وإنصاف المقهورين في شتى أصقاع الأرض، سواء في أفريقيا، أو في آسيا أو الأمريكتين، أو أستراليا أو أوروبا. ز _ أما عن رؤيته للثقافة وعلاقة المثقف بالسياسي، فيرفض أن يكون المثقف مبررا لما يُخطئ فيه السياسي، بل عليه أن يُصلح بنصائحة ما تخطئ في السياسة، فهي علاقة مركبة بتعقيد، وكان مثله في ذلك علاقة: رفاعة الطهطاوي بمحمد علي باشا، وعلاقة عبدالله النديم والبارودي وقاسم أمين، بأحمد عرابي، وعلاقة العقاد وطه حسين، بسعد زغلول. ح_ همه العام والوطني وبخاصة، انزعاجه الشديد من التغيُّرات الطارئة على المجتمع والوطن العربي والعالم أجمع، مثل: الأحلام التي تحولت لكوابيس، وانتشار المخدرات، وفقدان السكن والمأوى لفئات كثيرة الشعوب، وظهور الفقر الشديد بين مجتمعات الغنى الفاحش. ط _ نظرته المُوَسَّعة عند تناوله لقضايا مصر من خارجا جغرافيا، مستندا إلى تاريخها القديم والحديث والمعاصر، وهذا ما ورثه عن جيل الستينات المشهود. ي_ موقفه السياسي المنحاز للوطن ولسواد المواطنين، ولم يلهث خلف نظام ما ولا عند سلطان ما، لكنه ورغم احترامه لعبدالناصر فإنه كان رافضا للشعارات الجوفاء التي زيفت الوعي العام وخدعت الجميع، في زعامة وهمية حالمة بحلم نرجسي مريض، قوامها الانفعال لا التعمق والتريس، والتي ادعت تماسكا بين مجتمع متشرذم متهرئ، يجعل من الهزيمة نصرا، ومن الضعف قوة، ومن الفقر ثراءً……. وكان ذلك في “قال الضحى” والتي انتقد فيها المشهد الدعائي الغالب، وأخطاء حرب اليمن ونكسة يونيو ١٩٦٧م، وكل عوامل الفساد المتوارية خلف ستار القوانين الاشتراكية المزعومة، موظفا أسطورة “إيزيس وأوزوريس” أو “أبيست وأوسير” ليسخر من هذه المرحلة الشمولية، ويحاول بث الأمل في الأجيال الجديدة. ك _ نقده للشخصية الغربية المنغلقة على نفسها على المستوى الفردي، وتجاهل الأفراد الغربيين للآخر المختلف، وعدم الاعتناء بقضايا العالم الخارجي وما يحدث للشعوب من غيرهم مأساوات ، مما جعله متشائما تجاه البحث عن الحرية للضعفاء المظلومين في كافة أصقاع الأرض، تجلى ذلك واضحا في عمله “الحب في المنفى”. كانت هذه هي تفاصيل شخصية بهاء طاهر الثقافية ومواقفه الفكرية والنقدية والسياسية، من صميم أعماله التي تمخض بها، وقد تجلى أغلبها في رائعته “خالتي صفية والدير”، ليخرج لنا عملاً روائيًا محملًا بحمولات ثقافية، تمثل ورقة حساسة أو فيلما تصوريا، انعكست فيه تفاصيل شخصية بهاء طاهر ومواقفه سالفة الذكر، في أداء بلاغي ثقافي يتوازى أفقيا مع الأداء البلاغي الأدبي، * في الكناية الثقافية فقد كنَّى ثقافيًا عن: _ علاقة أطراف النسيج الوطني الواحد المتمثل في المسلمين والمسيحيين في قرى الجنوب ودور المقدس بشوي بالدير، المناظر والمكمل لدور الشيخ إبراهيم بالمسجد. _ وعن دور الوشاة والمتآمرين السلبي من شخصية (العمدة) الذي أحدث الوقيعة بين حربي من جهة، وخاله القُنصل وصفية من جهة أخرى، ليكني عن الوشاية والتحرص بين عنصري الأمة. _ والمطاريد ودورهم في الدفاع الوطني الصادق وانضمام مأمور القسم لهم، في جبهة واحدة ملتئمةٍ الوشيجة، على ضوء نكسة يونيو ١٩٦٧م. * وفي التورية الثقافية والأداء المفارقي بها: _ حيث أظهر حالةَ مفارقةٍ في شخصية صفية، بمشاعر الحب الذي التبست بمشاعر الانتقام، ليتجلى حبها له بغضا وكراهيةً وثأرًا، بينما كان في حقيقته حبًا مضمرا، تطور ليكون عشقا مرضيا، تدفق من لا وعيها عند احتضارها على إثر موت الحبيب السِري المتواري (حربي). المجاز الثقافي: _ استدعاؤه لصورة البطل السلبي المستسلم للقدر، المُنهار أمام تحديات عصره، ليموت كَمَدًا، ميتة تراجيدية مسبوقة بحالة مأساوية من الحزن الارتكاسي والعذاب المتواصل، والمصطحب بالكوابيس والثرثرات المبنية بيد عوامل الشر المتربصة بعلاقة حربي من جهة وخاله القنصل وصفية من جهة أخرى، لتتجسد المأساة في عقدة تصاعدت خلال الفضاء الدرامي لنص الرواية، حتى بلغت الذروة بموت البطلين، أسوةً بأبطال قِصص العشق الأموي في الحجاز، من (قيس وليلى، وعروة وعفراء، وقيس ولُبنى…….. إلخ) في استدعاء صريحٍ لتراثنا الحكائي منذ عصر بني أمية، وتجسيد مأساة أبطالها العُذريين، بروموزية فنية للخلافة الإسلامية المفتقدة في أرض الحجاز، والمختطفة قسرا إلى بلاد الشام؛ مما يوشي بأداء مجازي يرمز بهذه العلاقة لعلاقة المصريين التي يتربص بها المتربصون لإيقاع الفتنة بين شقي الأمة من (المسلمين/المسيحيين) رامزا لذلك ب(حربي/صفية). لقد فعلت ثقافة بهاء طاهر فعلها، في البنية العميقة لهذا العمل الروائي الرائع، مستكنةً بحقائقها خلف مظاهر العمل الفني الأدبية، ليتخفى الثقافي وراء الجمالي، في بنية فنية غايةٍ في الإتقان والإحكام. لتأتي ملحمة (خالتي صفية والدير) أنموذجا يفض مكنون الثقافي المُلتبَس بالأنساق الجمالية لهذه الرواية، في حِيل فنيةٍ مُتْقَنة، وأداء أدبي رائع، ولغة سهلة عذبة تستعصي على التقليد، في حين تسهل في فهمها والتاثر الاندماج فيها…………… ********

أ. د نجيب عثمان أيوب

 أوبرا مصر  – دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى