دراسات ومقالات

معالم الحداثة الشعرية فى قصيدة سيدة النهر للدكتور صابر عبد الدايم

د. نادرعبدالخالق

إن التجربة والحداثة فى شعر صابرعبدالدايم  تقوم على وعيه وإدراكه  بقيمة  التعبير وأهميته، وهذا يفتح مجالا للنقاش حول مسألة الحداثة الشعرية فى ضوء التعبير القائم  على  استلهام القضايا الإسلامية والجمع بين زمنين متباعدين فى الرؤية  والتأويل  عن طريق  العناصر الفنية مثل ” التناص – والرمزية – وازدواج الرؤية الزمنية “، واستيعاب القضايا الأسلوبية والبلاغية، ومن ثم الانفناح على كثير من الدلالات والأفكار التى يتبلور فيها الأداء الشعرى الحداثى وبناء المتخيل التعبيرى الإبداعى  فى  رحاب الموروث والوعى  بأهميته ومن ثم تشكيل الحياة التى نحياها سياسيا واجتماعيا وأخلاقيا، من هنا فإن الحداثة التى يمثلها الشاعر صابرعبدالدايم تنطلق من ثقافته  الإسلامية  وتكوينه الأكاديمى  وتعبيره المعاصر الذى لاينفصل عن الجمع بين  حداثة الواقع  والوعى بأهمية الماضى  والموروث فى أشكاله المختلفة وأنماطه ونمازجه، مما  يؤكد  أن القيمة التعبيرية الإسلامية  والإنسانية هى محور الحداثة لدى الشاعر وهى  مناط التشكيل والبناء فى تجاربه وهى الدافع  نحو استحداث أشكال متنوعة من  البناءات  بعيدة عن التقليد والمحاكاة فنيا وموضوعيا، وتكمن عملية التطبيق  فى  استلهام  الشخصيات والمواقف والأحداث والمشاهد التراثية وبعثها فى قضايا الواقع والبحث عن  إجابات  عديدة لأسئلة كثيرة على المستوى السياسى  والاجتماعى والإنسانى موضوعيا، وعلى مستوى التشكيل والبناء فنيا، مما يجعل أسئلة الحداثة وإجابتها عند الشاعر  صابر عبدالدايم  تتعلق  بدافع الكتابة لديه وموقفه من البناء والتشكيل الذى  يسعى  إليهما  دائما، دون الانفصال عن واقعه وعالمه الخاص والعام بكل تداعياته وطرح  هذا  الواقع  من منظور التكوين الثقافى العربى الإسلامى الراسخ فى مخيلته بحكم  نشأته  وتفاصيل  حياته ومسيرته الأدبية والعلمية، ولعل التطبيق وتحليل النمازج يقف على كثير  وفى قصيدته ” سيدة النهر” (9) يقدم الشاعر ملامح  من  العاطفة  الوجدانية  والدلالة النفسية ويحلق من خلال التأمل والغناء فى واقعه الخاص يقول :  

سيدتى .. تسكن ذاكرتى .

.. فستانا منسوجا من ورد الأشواق

منقوشا بأزاهير الأطياف وأنغام الأحداق

سيدتى : تسكتنى .. تكتبنى ..

تزرع صحراء ليالى نخيل وصال .. وكروم عناق

سيدتى .. ماأحلاها..!! .. ما..

مأشهاها شمسا لاأسبح فى غير ضحاها

لاأشعل قنديل الرغبة إلا فى دفء شذاها

تطعمنى من فاكهة جناها رغدا حيث أشاء

سيدتى ..

.. سيدة النهر الجارى فى أوردتى

تسقينى ما تعصره من أحلى الأشياء

أشرب من عينيها..

مالا يتموج فى دائرة الأسماء

أقطف من جنتها

مالا عين شهدت من ثمر الألاء

ياسيدة النهر الجارى فى أوردتى

أصداء العشق تحاورنى.. تشعل أسئلتى

هل يأتينى صوتك مجتازا كل سدود الخوف

وأسلاك الرقباء

يعبر دون شراع .. دون سفين ليل بحار الغربة ..

.. يلقينى بين يديك صباح مساء

يا سيدة النهر الجارى فى أوردتى

الوجد السابح فى عينيك … أيد فى ذاكرتى

الشوق الصاعد فى شريانك ..

هل ينبت لى أجنحتى ؟؟

هل يطعمنى فاكهة الوصل …

.. وهل يسقى إيقاع الرغبة أغنيتى؟؟

ياسيدة النهر الجارى فى أوردتى

الشاطىء ينتظر البحار .. ولا ميناء !!

الشاطىء ترقص فى جنبيه الريح ..

.. ولكن فى غير فضاء !!

يبتلع اليم عصاى ..

وخلفى أسراب جداد !!

يعلو الطوفان .. وبين ذراعينا حال الموج ..

سفينتنا أشلاء جواد !!

يا سيدة النهر الجارى فى أوردتى

..لؤلؤة أنت تضىء الأعماق .. وتشتاق شباك الصياد

كان العالم منشطرا …

وتلاقينا .. فالتحمت كل الأضداد !!

وتناجينا …

فتناجى البلبل والصياد !!

وتغنينا

فتغنى السنبل والحصاد !!

وتهامسنا

فتهامست الأنداء على الأعواد !!!

والقمر الساكب ضوء العمر على وجهك

أشرق فى قلبى الآن

أقطف من دفء لياليه قصائد…

ما سمعتها من قبل الآذان

سيدتى ..

سيدة النهر الجارى فى أوردتى

تسقينى ما تعصره من أحلى الأشياء

أشرب من عينيها مالا يتموج فى دائرة الأسماء

تطعمنى من فاكهة جناها رغدا حيث أشاء

مكة المكرمة 1998م

    العنوان : من منظور النفس والتحليل الوجدانى الشعورى  فإن  العنوان  يموج  بنا  فى متاهات من التأويل والدلالات، التى تسير وفق معطيات  الدرس  النفسى  الذى  يريد الشاعر أن يحلق فيه ويريد أن نحلق معه فى أجواء من التأمل  الذاتى  الوجدانى،  مما يؤكد على النزعة النفسية منذ البداية، ويدل على صراحة التوجه، وعمق  الفكرة  وثراء التجربة، فإذا نظرنا إلى العنوان ” سيدة النهر” نجد أنه  يأتى  ضمن  متوالية  نفسية دقيقة، يجمعها إطار فكرى محكم، يضم العديد من التأملات  النفسية  الذاتية  والخارجية، ويعكس صفاء روحيا ونفسيا، ويشير إلى تجربة شعورية غنية وخصبة، تمتح  من  معين لاينضب وفكر أدبى أصيل، يترجم لشخصية ترى نفسها فيما حولها .

   هذه المتوالية النفسية هى مجموعة القصائد التى يضمها  ديوان  شعرى  واحد  يحمل تركيبة نفسية ذات دلالات وتفسيرات لاتخرج من محيط النفس  وفضاء  الذات، وتبدو  فيه ملامح التشخيص أكثر سيطرة وتعبيرا، فمن يتأمل ” العمر والريح ” كدلالة  تتيح  العديد من التساؤلات، التى لاتبعد عن الجمع  بين معنى المعنى  فى  تناقض  نفسى  كبير، يشير إلى دلالة ” العمر” كوحدة  زمنية  تشمل  الذات، وتتناقض  مع  دلالة  الريح فى معناها المعروف، مما يعنى أننا أمام صورة  تشير إلى فرار العمر، بما  يحمل  من أمانى وذكريات وأحلام وطموحات وأشخاص، هذا العمر تتشكل منه التجربة، فى  قصيدة  ” سيدة النهر” وغيرها من القصائد التى يضمها ديوان  العمر والريح  للشاعر الدكتور صابر عبدالدايم، وهى ترجمة نفسية وقراءة  شخصية  لزمن  مر، ومحاولة  لاستشراف المستقبل الذى يتراءى  بوضوح فى قصائده الإنسانية التى يداعب  فيها الجد الحفيد، باحثا عن المستقبل فى ضوء تداعيات الواقع وانحساره واختلافه .

    ومن يتأمل لوحاته التعبيرية النفسية التى  يرثى  فيها  الوفاء  ويمدح  فيها  النجاح ويبكى فيها العمر مقابل الريح، ويغازل المحن، ويفخر  بمحبوبته وأثيرته، يمكنه  أن  يقف على حقيقة شخصية ولوحة تعبيرية وجدانية  تتعين  ملامحها  فى  التجربة  التى تقدم الجوانب التاريخية والعمرية للشاعر، والتى  تتلخص  فى ا لوفاء  وفى  الذكرى  وفى خصال الخير والمحبة، التى جعلته يبكى الأخ والأب بغير دموع ، ويستحضر  صفات المحبة والعطاء فى الزوجة والصديق وفى غيرهما من العطاءات  التى  تزخر  بها  نفسه ووجدانه .

    من هنا فإن تركيبة الجملة العنوانية ” سيدة النهر”  لمحة  نفسية  ورحلة  ذاتية  داخلية تتعين قيمها فى استقراء الشاعر، وفى انعكافه على  نفسه  وتجربته  محاولا  فك شفرات النفس  كمصدر  للإلهام  ونبع للعطاء ، والمتأمل  يجد أن التركيبة  التصويرية تتشكل من كلمتين تسيطر عليهما الدلالة الاسمية التى توغل  فى  الثبات  والتشخيص النفسى ، ولاتغادر ذلك وكأن العملية  التأملية التى  تنشأمن استقرار الدلالة، هى  قرينة النفس وهى ترجمة الواقع، الذى يتعين  فى هذه السيدة  الرمز  وهذا  النهر  الجارى  الذى يمثل استعارة وتشبيه، يساعدان فى الخروج من الثبات  إلى الحركة  والاضطراب النفسى، بواسطة عملية التقريب التى تؤديها الاستعارة، ويؤكد ذلك  حالة  الإضافة  التى تتحكم فى توجيه الاستعارة وتحديد التشخيص، مما يساعد  فى  تخصيص  الصورة ووصفها بالصورة النفسية فى عموم الديوان، وفى القصيدة  الرمزية  الوجدانية  سيدة النهر .

    كذلك عملية الانحراف التى تعلن عنها حركة الإسناد فى الجملة  وعدم  اتفاق  المعنى ومخالفته للواقع يسير ضمن توصيفات النفس، فإذا اعتبرنا  أن  العنوان  وحدتين  مختلفتين يجمع بينهما الرمز ودورته التعبيرية، فإن الوحدة الأولى :

   سيدة = دال ، والوحدة الثانية : النهر = مدلول ، ومن  بين  الدال  والمدلول  تبدو الخصوصية الموضوعية للصورة العنوانية، وهى خصوصية التعبير الرمزى  الذى  يكشف عن رغبة نفسية لدى الشاعر، يحاول  ترجمتها  شعرا عذبا  رقيقا، لايقف  عند حدود الغناء والترديد والتعبير عن الحب والعطاء، بل يمتد  ليقدم  جانبا إنسانيا من  جوانب الإبداع لدى الشاعر وما يمثله من تأمل للذات والواقع  والنفس، وهنا  يقوم  الفن والشعر بدور اجتماعى لايقل عن الفعل والحدث الذى  يعبر عن  صاحبه، بل  يتميز القول الشعرى  بالديمومة والعطاء  والتواصل .

   فالصورة التى تتعين فى العنوان هى صورة  النفس  وهى  صورة  التعبير  وهى  أصل المصدر والنبع، يدل على ذلك الخبرية التى  تسيطر على  التركيب، وتدل  على المبتدأ المحذوف والذى يقدر جوازا باسم الإشارة “هذه”، التى تمتح هى  الأخرى  من المعارف التى لاتجعل للنكرة حضورا، مما يعنى أن حالة الثبات، ليست  على  حقيقتها النفسية، وإنما هى ستارا لغويا يخفى فى طياته  ملامح  وصفية  لسيدة  تشبه النهر الجارى فى عطائه وجماله وريه  وتوزعه بين  الحقول  الرموز التى  ستترجم  صورا داخلية، وبناءات نفسية من تكوينات العمل الأدبى .

    وعلى ذلك فإن القراءة التأولية للعنوان هى : ( هذه/ سيدة النهر) مسند ومسند إليه، مركب من إسناد تعبيرى (مشبه ومشبه به)  والصورة تتحدد ملامحها فى  المرأة السيدة، وتشير إلى الشاعر الذى يقف موقف القارىء الذى يقدم النموذج، وينادى هو الأخر مرددا صوت الضمير، وكأنه يستكشف معالم هذه السيدة، فلا يجد أمامه إلا النهر يقيم معه علاقة تشبيهية، وصورة موضوعية، واستعارة تقود المعنى إلى مساحات واسعة من التأمل والوعى والإدراك، الذى ينعكس على ذات الشاعر وتجربته النفسية العميقة الدلالة، وذلك إذا نظرنا إلى أن التركيبة العنوانية  نداء  حذفت  أداته، ( يا / سيدة النهر) مما يجعل الصوت وانبعثاته قيمة تصويرية داخلية ذاتية  لاتقف عند  حدود الوصف التشبيهى للسيدة النهر، بل يمتد ليشمل الشاعر نفسه  بوصفه  محرك  الصوت والنداء وباعث الفكرة، وبوصفه القارىء الأول والمرسل لهذه العلاقات، وهذا  يقود التحليل التصويرى الموضوعى إلى أن الرؤية النقدية  الأدبية  لاتتوقف  عند الظاهرة  النفسية ولاتعزل الأديب ولاتلغى قيمة النص، فهى تبدأ  من  الشاعر  وتجربته  وقيادته الفكرية التعبيرية للصورة الكلية ومشتقاتها، وتنتهى  بتقديم  تراكيب  النص  ووظيفته الاجتماعية .      

   الصورة الافتتاحية : الصورة الأولى أوالصورة  الأفتتاحية التى  تأتى  عقب  العنوان مباشرة تتمتع بدقة فى التركيب، وعناية فى التكوين، فهى  تشير  مباشرة  إلى  كوامن النفس المبدعة، وتحلق فى سماء التجربة، ففيها  يتناول  الشاعر النفس  الداخلية  له، موضحا كيف انفعل بالموضوع والفكرة، وما دوافع التعبير النفسى لديه ؟ ومتى  كانت  سببا فى رصده للتجربة، والصورة  الافتاحية  من  وجهة  نظر  التحليل  النفسى  الأدبى؟ والدلالة هنا تشيرإلى الغرض النفسى الذى ارتبط به الشاعر، ونتج عنه  مجموعة  من العلاقات النفسية الداخلية، وكأن هناك حوارا داخليا  بين  الدوافع  التعبيرية  وبين  التجربة التى يتمثلها الشاعر، ويقيم لها صورة  نفسية  كلية، تتواصل  أركانها  وأهدافها، وتتوالد منها الأفكار والدلالات .

   والمتتبع لماهية هذا الحوار النفسى الداخلى  يدرك أن النص  والتجربة  والشاعر والقارىء مجموعة عوالم، تربط بينها علاقات ودلالات متنامية، لايقف مدها  حتى  بعد الانتهاء من النص، حيث تتواصل التأثيرات  الداخلية  والخارجية  النفسية والفكرية، حسب قوة النص وحسب النفس التى يتشكل  منها الوعى  الكامل  للتجربة، وحسب  استدعاءات الشاعر وعملية التمثيل التى يحاول ترجمتها .

    كل هذا يؤكد على جدلية الحوار الداخلى، الذى  يجعل الشاعر  يستحضر  القارىء والمتلقى، فى مواجهة نفسية، وموضوعية اجتماعية، تسير بالنص إلى مناطق  بعيدة  من التأمل والوعى والانطلاق نحو الواقع النفسى والقضية التى يطرحها من ذلك يقول الشاعر الدكتور صابر عبدالدايم فى صورته الافتتاحية لنص ” سيدة النهر”، موضحا أهمية الطرح النفسى، فى استظهار الموضوع والقضية والفكرة التى انفعل بها نصا أدبيا إنسانيا يقول سيادته :  

سيدتى .. تسكن ذاكرتى / .. فستانا منسوجا من ورد الأشواق / منقوشا بأزاهير الأطياف وأنغام الأحداق /  سيدتى : تسكتنى .. تكتبنى .. / تزرع صحراء ليالى نخيل وصال .. وكروم عناق /  سيدتى .. ماأحلاها..!! .. ما.. مأشهاها شمسا لاأسبح فى غير ضحاها/ لاأشعل قنديل الرغبة إلا فى دفء شذاها/ تطعمنى من فاكهة جناها رغدا حيث أشاء .

   فى هذه الصورة الافتتاحية يقف الشاعر على  مواطن  الفكرة  وبواعث  التمثيل التى تتشكل منها الصورة،وهى مرتبطة بحقيقة المتخيل النفسى  والمعادل  الموضوعى  الذى يتحول إلى مجموعة من الدوافع النفسية والمعنوية، التى  تسير  بالصورة  إلى  تفسيرات نفسية إنسانية تأملية لاتبعد عن كونها علاقة حوارية  يتواصل  معها الشاعر، ويتفاعل  فى رصد معالمها حبا ورغبة وعذوبة هو طرفها الأول  ونفسه مرآة  لمظاهرها الحسية التى أعلن عنها .

   والشاعر يقدم صورته فى مظاهر عديدة من التمثيل متخذا من  الرمز  وسيلة  متعدية  إلى أصل التأويل، وإلى أصل الظاهرة الموضوعية النفسية، والمتأمل يجد أن الشاعر بدأ بالرمز فى توظيف جديد، نفذ منه إلى الغرض الشعرى الذى جاء  مظهرا  من  مظاهر النفس فى محيط الصورة، هذا الغرض لايبعد عن خصوصية المدح، ولايخرج عن توصيف الوجه المقابل للحقيقة التى يمثلها الشاعر، والتى لاتبعد عن أمنيته ورغبته فى متابعة الصورة والزهرة التى تهفو إليها نفسه، من خلال عملية التمثيل، ومن خلال العلاقة الوطيدة بين النفس وتداعياتها، وبين الصورة الخارجية التى  تسير فى الجانب الحسى، وتذهب بالفكرة الرمزية إلى عدة  تأويلات يمكن أن تقف عندها الفكرة، واعتقد أن الشاعر بذلك استطاع أن يصرف نظر القارىء إلى مجموعة من المتخيلات والدلالات، لكنه لم يترك النفس كمعادل موضوعى  يمد النص  بالعديد  من  الرؤى الوجدانية، وهنا تتحقق العملية التقابلية بين الصورة  الخارجية  وبين النفس  الداخلية، فالنفس تهفو والصورة تقرأ وتعبرعن رغبات هذه النفس، دون أن تتعين  فى  رؤية واحدة، أو قراءة ذاتية مستقلة، تستطيع أن تحكم  بها على الفكرة مباشرة  وتحدد توجاهاتها وتوجهات النص، وتلك سمة من  سمات  التعبير لدى الشاعرالدكتورصابرعبدالدايم، حيث ترى النص  وصورته الخارجية وترى  النفس وصورتها الداخلية، مما يشكل حوارا ذاتيا بين الواقع الداخلى  النفسى، وبين  الواقع الخارجى الكلى العام، يؤكد ذلك ضمير المتكلم  وحضور الشاعر صوتا  قويا  تنتسب  له الدلالات وتقوم به العلاقات .

   والرمز : سيدتى  يفرض حوارا  واستفهاما يجيب عنه الشاعر فيقول : ” تسكن  ذاكرتى ” ، والسكن والسكنى تعنيان الإقامة، وتشكلان  قدرا كبيرا من  السكون  الذى يتناسب مع الذكرى، بوصفها عملية تأملية استرجاعية لايمكن  تحقيقها  فى عالم  الواقع،  من هنا فإن الصورة النفسية صورة تذكرية تأملية، يستحضرها  الشاعر  بواسطة  الرمز، كعلاقة استشرافية تنطلق من الماضى إلى أبعد من الواقع، والذاكرة  تشير إلى الماضى البعيد وتفرض علاقات من التأويل، الذى يتفق مع طبيعة الحدث النفسى، وجاءت  صور الرمز فى مخيلة الشاعر مباهج نفسية ورؤى وأحلاما وأمالا وأمنيات  فهى  صورة  بصرية تتزيا بحدائق الورد والشوق  وأزاهير الأطياف وأنغام الأحداق، وهى  كذلك صورة سمعية ونفسية ، ترسل الهمس والنغم، وتنشد الفرح والسرور .

    ومن طبيعة الصورة هنا أنها اعتمدت على المدح  وتوضيح  الصفة والدلالة، وأنها قامت على بناء الاستعارة والتشبيه فى رسم النموذج  الوصفى  الحكائى، الذى  ينطلق  منه الشاعر فى التعبير، مما جعل الصورة تتقاسمها الدلالة الحسية والمعنوية، وبينهما  رغبة الشاعر فى التعبير النفسى دون أن  يقف  فى  منطقة  الشعور الداخلية، وهذا  من دواعى التعبير النفسى الذى يشمل النص والصورة  والواقع الداخلى  والخارجى، والمتامل فى دلالة الصورة الخارجية، يجد أنها  قامت على اعتبار الأمنية علاقة  ودلالة، تسير بموازة النفس كحقيقة وأمل، فالسيدة النهر، ماتلبث أن صارت ” فستانا ” تتعدى ملامحه وتأخذك أطيافه بين الطفولة، وبين عطاء الواقع يقول الشاعر الدكتور صابر عبدالدايم :    

.. فستانا منسوجا من ورد الأشواق

منقوشا بأزاهير الأطياف وأنغام الأحداق

    والوقفة التأملية لأركان الصورة هنا تشير إلى طبيعتين مختلفتين، مما  يعنى  أن  بعدى الاستعارة يكتنفهما التوتر، وعدم الاستقرار عند معطى واحد  وبناء  متعدد، وأنت تلاحظ أن هناك دورة مكتملة من البناء لهذه الصورة  بداية من  حضور المتخيل  النفسى ” فستانا ” ثم النسيج والنقش، ولايخفى أن هناك تقابلا بين  الدلالة الحسية  والمعنوية، بغرض قيام العلاقة النفسية للقارىء، ويمكن قراءة الصورة هكذا :

السيدة النهر= فستانا – صورة حسية ورغبة نفسية

النسيــج = ورد الأشواق / صورة معنوية/ أمنية ورغبة

النقـوش  = أزاهير الأطياف وأنغام الأحداق صورة ودلالة

             مركبة من الحس والشعور من اللون والصوت والرمز

   والتأمل لحركة الاستعارة ومادتها يجد أن الدلالات لاتسير فى  طريق  الحس  المباشر، فمثلا ( ورد الأشواق) و( أزاهير الأطياف) و(أنغام الأحداق) هناك  علاقة  تبعثها الدلالات المتعلقة بـ “الورد والأزاهير والأنغام”، هذه العلاقة  تتوزعها  الصورة  البصرية والسمعية والإدراكية، وهناك علاقة  تبعثها  الأشواق  والأطياف  والأحداق، ولايوجد تقابل أوتقارب بين العلاقة الأولى والثانية، وبالرغم  من  ذلك  فقد  تلازمتا العلاقتين فى النص، وذلك من خلال الدلالة النحوية المضاف  والمضاف  إليه، ومعلوم  أن الإضافة تقوم على العملية الإسنادية بين المعنيين، حتى تتحقق  العلاقة  المعرفية  بين ركنى الإسناد، وهنا تصبح الرؤية البصرية هى الدلالة التى  تفرضها  العلاقة  الوليدة  من تعارف العلاقتين السابقتين، وتصبح النفس هى  محل  الصورة، وهى  التوصيف المباشر لها ولدلالتها، وهى محور الشاعر فى التعبير .

    ويتواصل المد التعبيرى للنفس وفحواها فى عدة أشكال تعبيرية أخرى  لكنها  تسير وفق هذه الدلالة، ولاتبعد عن التوصيف السابق، بل  تؤكد  مبعثه  ودوافعه  وطريقة  بناءه يقول الشاعر الدكتور صابر عبدالدايم :

سيدتى : تسكتنى .. تكتبنى ../ تزرع صحراء ليالى نخيل وصال .. وكروم عناق/ سيدتى .. ماأحلاها..!! .. ما..

    والمتأمل فى فضاء هذه الصورة يجد الرمز قد اخذ بعدا أخر وتحول  من  صورة البهجة الخارجية والأمانى النفسية،إلى مقابلة  بين  رد الفعل وبين  المتصور  النفسى الداخلى للشاعر، الذى يتعلق بالصمت والوعى  بالتأمل والإبداع، الذى ينتقل  إلى  رسم أبعاد الذات وأحلامها ، والصورة النفسية تتحول نماء  ووصال وحب، وقد  اعتمد  الشاعر على الفعل المضارع كزمن متعدى إلى ما بعد الواقع، وكأن  العلاقة  الزمنية  أمل ورجاء وصفاء، وللدلالة الإسنادية وعلاقات المضاف حضورا  قويا  وانفعالا تصويريا يبعث فى النفس الحضور والتأمل والإدراك من ذلك قوله: تزرع / كعلاقة  نفسية مستقبلية تشع حبا وخيرا ووجدا ونقاء وهى تحول  ” صحراء  ليالى ” إلى ”  نخيل وصال – و – كروم عناق ” وللنخيل والكروم  حضورا  رمزيا  يتعدى  المعنى  الدلالى الأول المباشر، حيث يتقاربان  فى العطاء  والسكر والمحبة، ويختلفان  فى  إسنادهما  إلى الوصال والعناق، ولعل الصيغة النحوية المرتبطة بالإضافة كانت وراء هذه الاستعارة وصياغتها التوضيحية النفسية .

   ويقول الشاعر موضحا انطباعات الصورة النفسية وانحسارها  فى عدة  صور جزئية تؤكد رغبة رغبته فى تواصل الفكرة، ومحاولته اكتشاف ملامح هذه  العلاقة  من  خلال وقعها على نفسه :      

ما أشهاها شمسا لا أسبح  فى غير ضحاها

لاأشعل قنديل  الرغبة إلا فى  دفء  شذاها

تطعمنى من فاكهة جناها رغدا حيث  أشاء

    والمتأمل فى دلالة الفكرة التصويرية يجد أن الصورة  توزعتها  عدة  انقسامات  جزئية تكتمل فى بناء الصورة النفسية، منها الصورة  التذوقية  والصورة  الحركية والصورة النورانية والصورة الوجدانية العاطفية والصورة  الحسية، والصورة  التعجبية، وإذا وقفنا عند تأويلات الفعل الزمنية سنجد انقساما فى التأويل  فالفعل ” أسبح  والفعل  أشعل والفعل تطعمنى تختلف علاقاتهما تبعا لاختلاف الدلالة التى  ترتبط  بالحركة الحسية المباشرة فى ظاهر اللفظ، لكنها تتحد فى بناء  المتخيل  النفسى  والمعادل الموضوعى الزمنى الذى يشيرإلى النفس التى كانت وراء انطلاقة الوظيفة  التعبيرية ، وهى نفس الشاعر وصورته التى يهفو إلى إطلاقها ورسم معالمها، وملمح  أخر اتسمت  به الصورة الافتتاحية وهو الدلالة الموسيقية للفظ  وبناء النغم  الداخلى  الذى  يسلمك  من علاقة إلى أخرى ومن نسيج  تصويرى إلى أخر، دون أن تتشابك  النغمات  أو يسكن حفيفها . 

وتتحاور الصورة  وينفعل الوجدان فى علاقات يطرحها الشاعر فى  فضاء  النص  معلنا صوت الحوار النفسى  الضمنى  قائلا:                             

سيدتى ../ .. سيدة النهر الجارى فى أوردتى

تسقينى ما تعصره من أحلى الأشياء/أشرب من عينيها..

مالا يتموج فى دائرة الأسماء/ أقطف من جنتها

مالا عين شهدت من ثمر الألاء

    والشاعر هنا يعلن عن دور أخر للرمز هذا الدور  يمثل  الوجه  المتحاور لصورة  النفس وهى تسكب أعذب الألحان فى وجدان الخطاب الشعورى، الذى  يفيض  وجدا  وحبا واعترافا بقيم الذات المتحاورة، وتلك  قمة التميز النفسى الذى  يقف على  حقيقة التبادل الروحى بين الأشياء، معلنا الرواء  والخصب  والنماء، مستنكرا  الجحود والصلف، وأنت تلحظ المونولوج وقد سيطر على محيط  الصورة  فأحالها  إلى  لوحة تصويرية رمزية تتقاذفها الدلالات وتتناقلها العلاقات، فى سماوات  النفس  وفى  رحابات الإبداع، دون أن تفقد الصورة النفسية دلالتها الأولى التى  انطلقت  منها، وللقارىء  الكريم أن يقف عند تركيب ” دائرة الأسماء ” وتركيب ”  ثمر الألاء “، باحثا عن  تماهى الاستعارة وانطلاقها نحو آفاق النفس  وعالم  الخيال، مقابل  حقيقة الأسماء  والألاء،  والدائرة والثمر، وحقيقة الجمع اللغوى، والصياغة  النحوية التى  جمعت  بين  هذه  الحقول كدلالة واحدة، تتلازم أطرافها  وتتعين اشتقاقاتها لتدل على الحضور النفسى، وانعكاس الصورة الخارجية على واقع النص وصورته الداخلية .

    وفى النهاية فإن الصورة الافتتاحية فى قصيدة  سيدة النهر للدكتور صابر عبد الدايم قامت على علاقات النفس  وتحاورات الأجزاء واندفاعات  التكثيف والوجدان  نحو  توحد الدلالة فى صورة النفس من جانب الصورة الخارجية والصورة الداخلية، وشاعت  فيها الاستعارة والتشبيه والموسيقى اللفظية الداخلية، وجاءت عنوانا  للشاعر  وترجمة  لقدرته فى تحويل المعنى الشعورى الداخلى إلى صورة  فنية  تنوعت  اتجاهاتها النفسية، حسب مقتضيات التعبير، وحسب رؤية التحليل الوجدانى الذى نهل منه الشاعر .                                                       

    الصورة الموضوعية : لاتقوم الصورة الموضوعية بغير دلالة  نفسية، ولا تتعين أركانها  دون  قيام العلاقات التى تشير إلى اتجاهات الفكرة التعبيرية، فالدلالة والارتباط  بين الصورة الموضوعية وتوجهات النفس، هى مدارالتجربة الشعرية وهى من  فعاليات الوجدان الذى يمد النص والتجربة بالشحنات النفسية والشعورية، وفى  نص  الدكتور صابر عبدالدايم “سيدة النهر” تدور الفكرة الموضوعية حول الذات التى  نعتها  بالنهر، وكيف استمدت حضورها وتميزها النفسى ومجدها من الرمز  ودلالته الساكنة  فى التركيبة النفسية ” سيدتى” وعلاقاتها الإنسانية، مما  يجعل الصورة  الموضوعية  ذات طرفين، الأول : ” سيدة النهر” والثانى: ” النهر” الرمز الذى يمثل  ضمير ووجدان الشاعر، ومن بين الطرفين  تبدو الدلالة النفسية التى تعكس روح التجربة  وتقدم  الواقع النفسى للشاعر، وتماهى هذا الواقع واندفاعه نحو قراءة الأخر  قراءة  شعرية  وجدانية، لا تحيد عن مكوناته  وامتيازاته الشخصية، المعرفية والثقافية  والوجدانية  والعاطفية، وكل هذا يشير إلى ترجمة النفس ومكنونها، وهذا التحليل النفسى الوجدانى يجعل  من  النهر  قيمة تظل  فى عطائها الدائم  تعبيرا عن الرمز الذى لايقف عند  معادل  موضوعى  محدد  بقدر ما هو عطاء  متجدد .

    والصورة فى معناها الدلالى المعاصر تتعين تبعا لعمليات التمثيل التى  يقدمها الشاعر، حيث لم تعد زينة جمالية يستعين  بها دون  تأثير وحضور نفسى ووجدانى،  حيث  تجمع فى  تركيبها اللغوى بين العقل والعاطفة وهما  ركنى  التجربة ويمكن  تعريف الصورة الموضوعية تعريفا يشمل مراحل تكوينها وشموليتها  فهى ” تركيب  لغوي  لتصوير عقلي وعاطفي متخيل لعلاقة بين شيئين  يمكن  تصويرها  بأساليب عدة،أماعن طريق التشبيه أوالتجسيد أوالتشخيص أو التراسل” (10) وهى صورة  ذاتية للعالم الموضعى” (11) والمتأمل فى ثنايا الصورة الموضوعية فى  قصيدة  “سيدة  النهر” يقف عند مجموعة من العلاقات التى لا تبعد عن نفس  الشاعر  ولاتقترب  من الضمير الخارجى إلا فى القليل، مما يعنى أن الشاعر اهتم  بمردود التأثير النفسى على  وجدانه، حتى أصبح فى كثير من الأحيان طرفا الصورة، وأصبح  ركنا الحوار، وتلك  قدرة  فى التعبير النفسى التركيبى، تجعل من اللوحة التصويرية هى الفعل ورد الفعل، وذلك  يقتضى تمثيلا رمزيا وبلاغيا، يجمع بين المتخيل  النفسى الساكن  فى ضمير  ووجدان الشاعر، عن طريق الاستعارة والتشبيه وحركة الإسناد، حتى  يصير المعادل  الموضوعى قاسما مشتركا بين النص وصاحبه، وبين الواقع الذى يمثله هذا النص، بداية من الشاعر وما يستدعيه من متخيلات نفسية إدراكية وتصويرية معنوية، والصورة الموضوعية تنقسم إلى عدة محاور منها محور الذات وهو المسيطر على  محيط  النص وفضاء الصورة، وفيه يناجى الشاعر هذه السيدة  ويستدعى  واقعها من  خلال  رؤيته ورغبته وقدرته فى التحاور يقول الشاعر الدكتور صابر عبدالدايم:

 1-   ياسيدة النهر الجارى فى أوردتى

       أصداء العشق تحاورنى.. تشعل أسئلتى

       هل يأتينى صوتك مجتازا كل سدود الخوف وأسلاك الرقباء

       يعبر دون شراع .. دون سفين ليل بحار الغربة ..

      .. يلقينى بين يديك صباح مساء

   وهنا تبدو الدلالة الموضوعية النفسية، خاصة بالشاعر وذاته، عندما  نلمح  أطراف التكوين  التصويرى، بداية من النداء والاستفهام والصياغة الزمنية المباشرة، التى لا  تفارق  المضارع  رغبة فى العبور إلى المستقبل تحقيقا للرغبة فى  مهدها  الأول  الأمنية، فالنداء بـ ” يا ” يكون للبعيد فى الحقيقة ويكون للقريب أيضا، وهو  هنا  لدلالة  الحضور الحسى  الصوتى المباشر الذى يعبرعن الشاعر،و” هل ” اسم  استفهام  متعدد  الاستعمالات والوظائف، وتكون فى التصور ودلالات الحضور الرمزى، وهى بمعنى ”  قد ” التى لاتدخل إلا على الأفعال فيكون التقدير: قد يأتينى صوتك مجتازا….، وقد  نفسها  تكون بمعنى ” ربما “، التى تفيد الشك وعدم اليقين، مما يعنى أن الصورة  حائرة  بين  دلالتها الخارجية والداخلية، لكنها لا تغادر النفس ولاتبرح الرغبة  الشخصية  فى التعبير  والإسقاط، وهذا  يدل على أن الصورة الموضوعية هى صورة التعبير والنفس  لدى  الشاعر، وهى صورة الأخر الذى  يستدعيه فى صور شتى متعددة، لا تقف عند  متخيل  رمزى  محدد، ولا تنسب إلى الحس فقط وإنما تشمل الحس والشعور .

   والمتأمل فى دلالة الحضور الزمنى يقف على بعدين الأول : نوعية  الزمن  ودلالته  فى الصورة الموضوعية النفسية، الثانى : الحركة والانفعال  بالموقف  النفسى، الذى  يشير إلى تعانق  الذات  وتحاورها  فى  صعيد الحاضر والمستقبل  اعتمادا  على  الحركة والدلالة التى تفرز العلاقات من ذلك :

تحاورنى.. تشعل / يأتينى / يعبر / يلقينى

   والحركة  الناتجة عن دلالة هذه الأفعال تدل على علاقة الشاعر  بنفسه  وذاته  وقدرته على المحاورة  والاستمرار فى مداومتها، رغبة وأمل ، كذلك  العلاقة الناتجة عن  دلالة الإسناد لاتقف عند حقيقة وطبيعة متحدة، بل تختلف فى إسنادها  وفى  ضميرها  وفى عودتها على  متخيل  نفسى، ينقسم بين الشاعر كصورة  داخلية  وفضاء  ثابت عن  طريق مرجعية الخطاب فى ( تحاورنى – تأتينى – يلقينى) وبين  محاورته  ومرجعيتها  للنفس  والسيدة فى (تشعل ويعبر)، أضف إلى ذلك  تداعيات  الصورة  وتنوع  اتجاهاتها  إلى  صورة معنوية عاطفية، وصورة صوتية وصورة  طيفية وصورة  زمنية  تتعلق  بالصباح والمساء، كحركة دائرة مستمرة، لايتوقف مدها ولاينقطع  اتصالها  بالشاعر وضميره وخياله ورغبته، ولا نغفل عملية الترديد النفسية فى صدر كل  مقطع  ولوحة  تصويرية والذى  يتعين  فى التركيب التالى :  ياسيدة النهر الجارى  فى أوردتى، مما يعنى أن النداء يتردد  مع صدى النفس، ومع رغبة الشاعر فى تحقيق الأمنية .

    2- وفى المحور الثانى يتحول النداء من الصورة الخارجية والوصف إلى  الوجد والشوق، ويصبح الانصهار فى الذات والضمير هما  سمة من  سمات  التعبير  فى  تلك اللوحة الاستفهامية يقول الشاعر:

  يا سيدة النهر الجارى فى أوردتى/ الوجد السابح فى عينيك … أيد فى ذاكرتى/الشوق الصاعد فى شريانك .. هل ينبت لى أجنحتى ؟؟/ هل يطعمنى فاكهة الوصل …/ .. وهل يسقى إيقاع الرغبة أغنيتى؟؟

    والمقابلة هنا بين  النداء  والاستفهام من جانب،وبين الأمل فى تخطى  الواقع  والحاجز الحسى النفسى إلى  بناء صورة خيالية من جانب أخر، قد جعل  التركيب  يتماوج  بين دلالة الشعور ومنطقية العلاقة التى اتحد طرفاها، ولعل  تكرار الاستفهام بـ ” هل ” يجعل عملية التحقيق  تتنازعها الرغبة، وعدم الوصول إلى المقصود، وهذا  يحعل الرمز هو المسيطر على حركة الصورة وحركة التحاور، ويصبح  الوجد  والشوق  هما طرفى  الفكرة  فى هذا الملمح التركيبى، الذى يجمع بين رغبة الشاعر ونزعته  التأملية الذاتية النفسية، ولعل تنوع الصورة بين الحسى والمعنوى وبين الرغبة  والشوق  وبين الحقيقة والأمل، يؤكد على سمو روح الشاعر الذى يحاكى  ذاته ونفسه، تأمل  معى  الفعل  وزمنه المضارع : ( ينبت – يطعمنى – يسقى ) واستعارته  وتوظيفه  فى محيط  الصورة تجد أن ( الإنبات مرادف للأجنحة فعلا وإسنادا وزمنا نفسيا، كذلك  يطعمنى ويسقى  وتعدى الدلالة فيهما من المعنى الحقيقى إلى المعنى  المجازى، مما  يساعد  فى  بناء دلالة تتحقق بها النزعة النفسية والتعبير بواسطة النفس، وكذلك  دلالة المفعول  فى موضوعية الصورة، والتى لاتفارق الذات والنفس وهما من دلائل  الشاعر  واستعاض عن ذلك بذكر الرغبة  وتوقفها عند  الأجنحة  والوصل  والأغنية) من هنا  فإن المقابلة  بين التنويع التصويرى وبناء الاستعارة  وقيام  الثقة الداخلية  فى قرب  تحقيق  ذلك  يكشف عن  نفس  راضية طامعة إلى الحنان  والطمأنينة، وإن  تفرقت  منابع  الرمز  وتعددت  مصادره بين الحقيقة والمجاز، وبين المحسوس  المدرك وبين  المعنوى  المتضمن معنى النفس .

   3-4 : وفى الملمحين الأخيرين تبعد الرغبة عن المعنوى  لتسير  وفق  معطيات التعبير النفسى البيانى المتعلق بالقدرة على التفوق والنبوغ فى الممكن  والمتاح  وما  يهمنا هو أن الصورة لدى الشاعر تنشطر وتتفاعل مع قدرات النص  وانتقالاته  من  فكرة إلى أخرى ومن دلالة توظيفية إلى دلالة اخرى على  مستوى  الأسلوب  والفكر والوجدان، ويغلب على معجم الصورة الرمز والتوظيف الزمنى  فى  مراحل  من الحاضرإلى المستقبل إلى انتظار مساحات من التأمل النفسى الذاتى الداخلى، كذلك  خاصية أخرى تتميز بها الصورة الفنية فى شعر الدكتور صابر عبدالدايم  وهى  الصورة الحوارية التى لاتبعد عن ذاته ونفسه، والتى لاتغادر منطق  النص  والفكرة، والتى  تحتمل تأويلاتها العديد من الملامح النفسية والتعبيرية التأملية  التى تشيرإلى غناء الروح النفسية وانطلاقها نحو مناطق بعيدة من الممكن وغير الممكن على مستوى  الحضور والانفعال التشخيصى للفكرة الإبداعية لديه يقول الشاعر الدكتور صابر عبدالدايم  مقدما فاصلا من الدلالة الرمزية التعبيرية التى تتمحور بها  الدلالات  والعلاقات  حسب  منطق التعبير ويمكن أن يطلق على هذين المقطعين  الصفة الرمزية  للنفس  عندما  تتشكل  ملامحها من أحلامها وتطلعاتها :

*ياسيدة النهر الجارى فى أوردتى/ الشاطىء ينتظر البحار .. ولا ميناء !!/ الشاطىء ترقص فى جنبيه الريح ../ .. ولكن فى غير فضاء !! يبتلع اليم عصاى ../ وخلفى أسراب جداد !!/  يعلو الطوفان .. وبين ذراعينا حال الموج .. /  سفينتنا أشلاء جواد !! يا سيدة النهر الجارى فى أوردتى / .. لؤلؤة أنت تضىء الأعماق .. وتشتاق شباك الصياد

   والمتامل يدرك العملية التقابلية التحاورية بين فكرة الصورة  وسماتها  وبين  دلالة النفس ومراقبة الشاعر للقارىء فى غير تكلف، حيث  تجمع الصورة  بين  الهدف  وبين مراقى سيدة النهر وهى فى أبهى صورة وأرقى مكانة، دون أن يكون  هناك  إلحاح  من النفس فى تحقيق الأمنية، وما يؤكد ذلك هو استمرار التوظيف الزمنى  للفعل  المضارع ومايرمز له من دلالات وتعبيرات ورغبات فى حيزالممكن وفى  حيز الإدراك الذى  يتماهى فى أوقات لاتدركها النفس الداخلية المنطوية، ولكن تدركها  النفس  الظاهرة  فى مساحة الأمل والصفة والرغبة المشروعة، كذلك الالتفات فى صورته النفسية التى  لاتقف عند حدود التوقف النفسى، لكنها تسير فى تمكن الشاعر من حيوية المساواة  بين أمنياته ومخاوفه، كل ذلك دون أن يفقد آماله وحكمته فى الوصول والتعبير .

   نخلص من ذلك أن الصورة الموضوعية فى قصيدة ” سيدة النهر ” للدكتور  صابر عبدالدايم، تشكلت من محاور (الذات- والوجد والشوق- والصفة الرمزية  النفسية) وهى محاور لاتعبر عن الرغبة الخارجية فقط بل تنطلق من دلالة الرغبة النفسية الداخلية، إلى تقديم صورة  حسية وصفية للشاعر ومكوناته التعبيرية التى ينطلق منها فى  تشكيله للصورة النفسية ومن يتأمل المقطع الأخيرفى الصورة الموضوعية  يدرك  ذلك  زيدرك عملية اتقابل بين الوصف الخارجى  والداخلى وبين الصورة  بدلالتيها  الداخلية  والخارجية يقول :

..لؤلؤة أنت تضىء الأعماق .. وتشتاق شباك الصياد

    فبين تضىء وتشتاق وبين الأعماق والصياد يمكن اكتشاف العديد  من  الدلالات  النفسية والموضوعية والفكرية التى تسير وفق مخطط تعبيرى  كامل  تتشكل  ملامحه  من الذات والوجد والشوق والصفة الرمزية للنفس، وصولا إلى الأمانى وما بعد الأمانى .

الصورة الأخيرة :

   فى الصورة الأخيرة لقصيدة ” سيدة النهر ” تتضح  الأسرار النفسية  والرغبات الوجدانية، عندما نقف على المنحى الفلسفى لعملية الحضور الإبداعى  لدى  الشاعر، الذى تحرر من الرمز قليلا، وأفصح عن دورة من دورات النفس حول  ذاتها، وهى  دورة الإبداع وتموجها وانطلاقها واندفاعها حول الإلهام والتصور والبناء للمتخيل النفسى الوجدانى، وتحوله إلى مدرك محسوس، والحقيقة أن الشاعر يقدم  لنا صورة  داخلية  نفسية لعملية التكوين والارتقاء والخلوص بقدر ملفوظ  من التعبير ودورته النفسية، فى صورة مركبة يغلب عليها البهجة والتلميح والوعى  والإدراك النفسى،  يقول  الشاعر الدكتور صابر عبدالدايم :

كان العالم منشطرا …/ وتلاقينا .. فالتحمت كل الأضداد !!

وتناجينا …/ فتناجى البلبل والصياد !!

وتغنينا/ فتغنى السنبل والحصاد !!

وتهامسنا/ فتهامست الأنداء على الأعواد !!!

والقمر الساكب ضوء العمرعلى وجهك

أشرق فى قلبى الآن/ أقطف من دفء لياليه قصائد…

ما سمعتها من قبل الآذان/ سيدتى .. سيدة النهر الجارى فى أوردتى

تسقينى ما تعصره من أحلى الأشياءأشرب من عينيها مالا يتموج فى دائرة الأسماء تطعمنى من فاكهة جناها رغدا حيث أشاء

   والملاحظة لعملية البناء والحضور للصورة وتراكيبها  تكشف عن  زمن  ماقبل النص، زمن التكوين النفسى والحضور الذهنى، وتفاعل التجربة وتصاعدها وتحولاتها  من الفكر النفسى، إلى الفكر الحسى المادى  المشاهد  بواسطة  الصورة  والفعل  والمتخيل الإنسانى، وتكشف كذلك عن مراحل التكوين  للحوار الداخلى  للنص، ولملامح الصورة، وذات الشاعر التى تصدر هذا الحوار  وتحمل  أفكاره وفى اللوحة  الأولى  نجد الشاعر يعبر عن سر الصداقة النفسية بين محبوبته الرمز التعبيرى، وبين  ذاته  فنراه يلجأ إلى توظيف الفعل الزمنى، الذى يتواصل مع  مدركات  النفس  والواقع  والرؤية التقريرية التى يدور فى فلكها ويتمناها، والذى يتناسب أيضا مع  الحالة  الحوارية الوصفية، التى تقود الصورة إلى مناجاة وتأمل من هذه الأفعال : ” تلاقينا  تناجينا  تغنينا تهامسنا”، والفعل: ” أشرق  وأقطف ” وفى الصورة الثانية يستقطب  الأفعال : ” تسقينى / تعصره /أشرب يتموج/ تطعمنى .. ” والمقابلة الزمنية  بين  حركة  الأفعال  فى الصورتين وفى الحالين تنبىء عن حالة من الهيام  والوجد اللذان  يفلسفان التعبير  والإلهام، ويقدمان حوارا تفصيليا لمركبات  الفعل  التصويرى، والمناجاة  الذاتية، وفى النهاية فإن القصيدة بصورها وأنماطها التعبيرية رؤية خاصة من  منظور النفس  والوجدان لمراقى ومراحل التعبير والحب، وقد طاف بنا الشاعر من خلال  الرمز  حول مناطق عديدة من التأمل والبحث عن توصيف جديد يفض كثيرا من أسرار الإبداع .

 أوبرا مصر  – دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى