دراسات ومقالات

وداد أبو شنب تكتب المتخيلات السّردية والإيهام بالحقيقة في أجراس القبّار

في نصٍّ مسرود بأسلوب سلس جدا، تدور أحداث رواية “أجراس القبار” المحصورة في 180 صفحة من القطع المتوسط، للروائي مجدي دعيبس، الذي دفعني منذ الوهلة الأولى إلى التساؤل: لماذا يكتب الروائي الرواية التاريخية؟ وهل هي تاريخية صادقة؟ والتقنيات المستخدمة هل هي قوالبُ لبنيةٍ زمكانية حقيقية، ولشخوص كانوا هنا حقيقة ورحلوا؟
للإجابة عن هذا السؤال وجب علينا إدراك العلاقة بين الرّواية والتاريخ، وأكثر من تحدّث عن هذه الجزئية، جورج لوكاش فقال: ((التاريخ هو رواية ما كان، والرّواية هي تاريخ ما يمكن أن يكون))، جدليةٌ كاملةُ العناصر السّردية (الشّخوص والزمان والمكان)، قائمة منذ بداية ظهور الجنس الروائي على السّاحة الأدبية، ومِنْ هذا المنطلق يؤكِّد لوكاش أنّه على الإنسان أن يعيش حاضره من تاريخه. سواء أكان تاريخا موثَّقا أو رواية تصويرية تضع المتلقّي في حيز تاريخي يحاكي الواقع الماضي..
وعلى افتراض أنّ التاريخ دقيق، بسرد الوقائع وتثبيتها، دون إيحاءات، أو تخمينات، فإنّ الرواية تخبر بالمسكوت عنه في تلك الأزمنة حيث يصعب التعبير عن الرّأي، بمعنى آخر، تقول الرّواية ما لم يقله التّاريخ!! والمتلقّي الحصيف هو من يجيد غربلة الواقع من المتخيَّل!!
ومن وجهة النظر الديالكتيكية أو الجدلية حسب المفهوم الأيديولوجي، العلاقة بين الرواية والتّاريخ هي دراسة التناقضات في جوهر الأشياء، وهو مفهوم قائم في كلّ مكان وزمان إذا اعتبرنا أن الحامية جوهر والضباط فيها متناقضون، أو إذا اعتبرنا العصر جوهرًا والمواكبين له في اختلاف وخلاف دائمَيْن بين بعضهم!! لكنّ الأقرب إلى العقل هو المفهوم اللوكاشي للعلاقة بين الرّواية والتّاريخ!
أم أنّ الرّوائي يسعى إلى إثبات هويّته بإثبات سرديَّته الذاتيّة/الصّغرى بالرّواية التّاريخية؟؟ حيث الدينُ والأيديولوجيات والمعرفة؟ حيث إحياء السّرديّة الكبرى، حيث البحث عن الحقيقة من أجل اليقين؟؟ السّرديات التي يحاول المبدع أنْ يثبتَ ذاته من خلالها، متأرجحًا بين حقيقة موجودة يدحضها بعد إدراكها، من أجل يقين يعتقده، قد يتلخص هنا في التطهير أو في الخلاص، وسآتي إلى تفصيل ذلك لاحقًا.
**
العنوان: “أجراس القبّار”: والقبّار أو الكَبَر Capres أو Capparis، أزهار شوكيّة بيضاء تزهر في الشهر الخامس من السّنة إلى الشّهر التاسع، بيضاء وردية، تشتهر بها مناطق البحر الأبيض المتوسِّط، وتنمو في الجبال والصُّخور وتتحمل جفاف المناخ وحرارته، كما أنّها وكرٌ جيِّد للثّعابين والأفاعي، وتُستخدَم ثمارُها غالباً مخلَّلةً للأكلات المتوسطيّة، والمفارقة هنا تكمن في دمج اللّفظتين: أجراس وقبّار، قد يقول قائل: الزّهرة تشبه الجرس! ويقول آخر لعلّ في هذه الصّورة تنبيها! وتختلف الصّور التي يطرحها المتلقّي للوهلة الأولى، لكن ما إن نأتي إلى نهاية الرّواية حتى نُترجم العنوان كالآتي: أزهار القبّار، أو أثمارها، تلك النبتة التي تتحمل قيظ الصّحراء، وقسوة الصّخر الذي تنمو عليه، لتميط الستار عن ثمرة لذيذة تستحق محاربة الأفاعي الكامنة بداخلها، وتستحق أنْ يذهبَ البعض ضحيةً من أجل سدِّ رمق البعض الآخر. وقد تكون تلميحاً للمسيحيّين الذين حملوا الدّين في قلوبهم وتداولوه لأنْ يصل –سرّاً- إلى أكبر شريحة مُمْكنةٍ، مع وجود الخونةِ (الثعابين) الكُثْرِ بينهم، ومع وجود حُكْمٍ جائر ظالم قد يتمثل في المناخ. إذاً أجراس القبّار قد تكون مجازا: زينون، زيناس، ورد، صاحب الخان … وغيرهم من شخصيات إيجابية: توجيهٌ ذكيٌّ للمتلقِّي!
العنوان “أجراس القبّار” مكتوب باللَّون الأبيض يعلوه اسم المؤلِّف باللّون ذاته، على خلفيّةٍ صفراءَ قاتمةٍ يشوبها الرّمادي، مرسوم عليها درج طويل يصعده جنود ومدنيُّون، وهو مشهد من مشاهد الرِّواية في الفصل المعنوَن بـ”عيد هرقل”، أطول فصلٍ في الرِّواية، حيث كان يصف تحضيراتِ الحفل في مدينة “فيلادلفيا”: ((أمواج بشرية في المدينة تموج وتلوج. تنشأ في القاع وتبدأ بالارتفاع شيئًا فشيئًا، تصعد الجبل المقابل للمُدرَّج حتّى تصل إلى المعبد. هناك على القمّة التي اتّسعت وانبسطت اجتمع خلق كثير من أهل المدينة. الجنود تموضعوا في أماكنَ منتقاةٍ على الطريق لحفظ النّظام. الشّمس أيضًا اتّخذت موقعها في السّماء، وأخذت تلفح الوجوه وتعرِّق الأجساد غير مبالية بالأطفال أو كبار السِّن. يرغب الجمع في المشاركة في الاحتفال. عيد هرقل مناسبة خاصة للمدينة؛ إذ إنّها تميّزت عن غيرها من مدن المنطقة بمعبد لإله الرّبح والكسب.)) والغلاف الخلفي لون أبيض مصْفَرّ للإيحاء بالتّاريخ والعراقة، تزيِّنه لوحةُ واجهةِ الكتاب مكتوب في أسفلها نصّ لفصل: الجارية حيث الحديث حول إلقاء القبض على زينون وتحديد محاكمته، نصٌّ يلخص حقيقة زينون الذي أطلق عبيده ومن بينهم برميدوس ففرحت صوفيا من أجل حبيبها، وحقيقته المتمثلة في توحيدِه الله، وهو أمر غريب جدّاً بالنسبة لضابط مرموق..!
الرِّوايةُ كاملةٌ حقيقةً ومجازاً موجودة بين الغلافين، وتُختَصر في الغلافين، من معبد هرقل إلى محاكمة زينون وفتاه زيناس!! عتباتٌ نصيَّة مدروسة للغاية، توجِّه المتلقِّي الذي كان سيتوه بين زخم الأسماء الأعجمية والأحداث المتتاليه، لولا التحديد الأوّلي بالغلاف..
وعلى سبيل العتباتِ النَّصّيةِ، وَجَب علينا تفصيل الرِّواية وَفق الفصول التي قسمها الرّوائي مجدي دعيبس، حيث أسند اسم علم أو شخصية أو مكان، عنوانا لكلِّ فصل، وكان يجعل الصوت السّارد هو تلك الشخصية في الغالب، الشيء الذي عزّز تقنية تعدُّد الأصوات. وتعدُّدُ الرّؤيةِ السّردية يقصي السّاردَ العالمَ بكل شيء من الساحة، وهو التقنية الأكثر مصداقية وتلقائية، حيث يضع الروائي نفسه مكان كلّ واحدة من الشخصيات التي يتحدث بها وعنها.
توليد جماليات السرد بعناصره الفنية:
أهمّ عنصرين في مفصل الجمال السردي يتمثلان في: الشخصيات، والعقدة (الحبكة).
ونصل إلى ذلك عن طريق استقصاء البرامج السردية ونكتفي هنا بذكر برنامجين:
برنامج شخصية زينون وتشبهها شخصية زيناس.
البرنامج الضديد وهو لشخصية يوليانوس.
لا تهمني كثيرا دراسة المسار السردي أو البرنامج السردي وفق مخطوطة غريماس، لكن لا بأس أنْ نأتي إلى التمثيل الجزئي لغاية ضبط موضعة الشخصيات في الخطاب الروائي الذي بين أيدينا:
زينون تلك الشخصية المنضبطة، ضابط في الحامية، نحيف، قويّ البنية ومفتول العضلات، يملك من العبيد الكثير ومن الأراضي أيضًا، صاحب كلمة ونفوذ، لكنه عادل، طرأت عليه تغييرات تدريجية، مسبوقة بتساؤلات كثيرة ودقيقة، برنامجه كان:
الرّغبة ـــــــــــــــــــــــــــــــ التّحيين ـــــــــــــــــــــــــــــ الغائيّة
الرّغبة كانت الحفاظ على الدّين المسيحي وعدم الرجوع عنه، والتّحيين كان البحث والسفر للبحث عن كلّ ما يتعلّق بهذا الدين وتقديم حياته في سبيله. أما الغائيّة فهي الهدف الأسمى وهو التّطهير الذي جاء بعد الموت (في النّص).
أمّا البرنامج الضّديد، فكان ليوليانوس: ضابط يصارع زينون فينهزم لتتولد بداخله رغبة: حقد عميق، يتّخذ منه تحيينًا للوصول إلى غاية موت غريمه.
الغاية واحدة، هي موت زينون، لكنّ تحقيقَها حسب برنامج زينون كان ساميًا ومتمثلاً في التّسامي والتّطهير، وكان تحقيقه في برنامج يوليانوس بدافع الانتقام.
وفي الرّواية الكثير من البرامج السّردية الجزئية، والبرامج السّردية العامّة، فكلّ شخصية لها برنامجها الخاص، وقد يكتمل وقد يبقى غير مكتمل لخللٍ في الشّخصية أو في برنامجها.
المفارقة في هذا الصراع القائم بين الخير والشرّ، تكمن في القلق. فإسناد الصّراع للشخصيات، وعلى سبيل المثال: زينون ويوليانوس، يحركه قلق وجودي يتمثل في قلق الموت وقلق عبثيّة الحياة من جهة، وفي قلق الموت وقلق الحبّ من جهة أخرى.
أسماء الشّخصيات في هذه الرّواية لم يكن اعتباطيا، بل مقصودٌ ومحبوكٌ لإضفاء مصداقية صريحة للعمل الأدبي، حيث عمل الروائي على نصب فخاخ جميلة لقارئه وجعله يصدّق الحدث الممكن في الرواية كأنّما هو حدث تاريخيّ فعلاً، فاستخدام اسم زينون ليس مجانيًّا، إنّما هو بغرض المراوغة ومحاولة استدراج القارئ لتصديق وجود زينون حقيقي في ذلك الزمن وبتلك الأوصاف كلّها، لديه من المعطيات ما يشوِّشه ويجعله يصدّق، فزينون غالبًا ما يحيلنا إلى زينون الرّواقي، وهو أحد فلاسفة القرن الثالث قبل الميلاد، كان حكيمًا وزاهدا، ووجه الشبه بينه وبين زينون أجراس القبّار كبير إلى درجة وضع دراسة مقارنة أو مقاربة أو على مستوى التّعاليات النّصية للشخصيات فيما يخص أسماء الشّخصيات ووظيفتها، وسبب اختيارها دون أخرى. زينون الضّابط المسيحي راجح العقل ونقيّ الرّوح يحاكي الفيلسوف زينون الرواقي، وهذا فخٌّ جميل يُمكِّن الروائيَّ من الإيقاع بقارئه ويوهمه بالحقيقة، لأنَّ الخلط لديه قد حصل، وآمن بحقيقة السّرد والوقائع، تلك التخيّلات السّردية المؤطَّرة بمكان حقيقيّ بين روما وفيلادلفيا وغيرها من أماكن واقعية تمّ تثبيت معطياتها عن طريق صفحةٍ في آخر الكتاب: ((المراجع التاريخية)) وهي عتبةٌ نصّيّةٌ كما أدرجها جيرار جينيت في عتباتهPalimpsest ، وظيفة هذه الصّفحة في الرّواية، ليست تحقيقية فقط، إنّما هي محاكاة للعالم المرجعي، فيغدو الوهم هنا كالحقيقة.
“أجراس القبّار” رواية غاصت في الحقيقة من أجل اليقين، ذلك اليقين الذي أدركناه في آخر فصل بواسطة سيف السيّاف، أو بواسطة فكره، لا يهم، فكلاهما سيف (الفكر/السيف). الرّواية التي كذَبت وهي صادقة، وأوحت للقرّاء بحقيقة وقائعها (الإيهام بالحقيقة) عن طريق الكذب السّردي المحبوك الذي أضفى جمالية خيالية مبهرة في كلّ عناصره (المكان والزمان وشخصيات وهمية بأسماء حقيقية!!)
وإيغالاً في الإيهام بالحقيقة، وبمزيد من الكذب السّردي، يُدخِل الروائي بعضًا من الشخصيات الثانوية النمطية: مثل أرتاليا الضخم الأبله .. الحاقد يوليانوس، والخادم المطيع زيناس، كما قام بتسخير شخصية مساعدة تمثلت بـ(ورد) والتي تدخل فجأة لتسيير البرنامج السّردية للشّخصية الرئيسية (زينون). وتغيب فجأة هذه الشخصية عندما ينتهي دورها بالموت، كما لو حدث ذلك حقيقة، فالموت هنا تقنية تُسدِل الستار على شخصية ورد، وتضع المتلقّي في قلق حول مصير الشخصيات الأخرى (زينون وزيناس وصاحب الخان).
ولما كان العالم الممكن كالعالم الحقيقي، تحكمه العلاقات السببية المتمثلة في الوجود، ويصل إلى العدم أو الحرية المتمثلة في اليقين! فإنّ الزمان والمكان وهما الرّكيزتان الأساسيتان الحقيقيّتان اللّتان توهمان القارئ فعلاً بحقيقة الرّواية، فالمكان حقيقيّ وأسماء الأماكن حقيقية وردت كما كانت هي في الزمن الذي دارت فيه أحداث الرواية وهو كرونولوجيا القرن الثالث الميلادي، في زمن الامبراطور دقلديانوس.
لكنّ زمن السّرد كان متنوِّعا بطبيعة الحال كما هو الأمر في الأعمال السّردية عامّة، حيث جاء استخدام السّوابق أكثر من استخدام اللّواحق في مشاهدَ استذكاريةٍ متنوِّعةٍ توزّعت بين استحضار بطولة زينون على يوليانوس، وفي قصّة حياة برميدوس التي رواها لزيناس، وفي استذكار زوجة الحاكم لحياتها السّابقة رفقة مربيتها، والسيّاف الذي برَّر سبب عمله اللاإنساني!! وتلك الفواصل للزّمن السّرديّ هي التي أخرجت الرّواية من ملل الخطِّيَّة!! وهي إضفاء تلقائيٌّ لتقنية القصص المضمَّنة، كدعم لاستراتيجية الإيهام بالحقيقة.
توزيع كلاسيكي لعناصر الرواية، لكن أسلوب السّرد عند مجدي دعيبس هو الذي يعطي رواية “أجراس القبّار” تفرّدًا عن غيرها من الرّوايات التّاريخيّة.
رواية تاريخيّة بكلِّ عناصرها الشيِّقة والمحيِّرة بين الوهم والحقيقة واليقين والصّدق والكذب، تحرِّكُ جوارح المتلقّي للسعي وراء فرز الحقيقة من الخيال، واستخلاص اليقين من الحقيقة، والخيطُ بينهما شديد الدقّة. تلك هي “أجراس القبّار” للمهندس مجدي دعيبس صاحب جائزة كتارا في 2019 بروايته الوزر المالح.

 أوبرا مصر  – دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى