د. مرسي عبد العليم يكتب عامل معلّق أعلى لوحة اعلانات معتمة

اليوم الاثنين.. الساعة الخامسة مساء.. استعد للذهاب للعمل؛ لارتباطى بنوبة عمل مسائية تبدأ فى الثامنة.. وعلّي أن أصل فى الموعد؛ فالهواء لاينتظر أحدا..
أمارس طقوس ما قبل النزول .. احتسى شاى الخامسة ..أرتدى بدلة كحلي تليق بأمسية ثقافية مع شاعرة فاتنة.. وأختار رابطة عنق ( نبيتى ) لزوم السيمترية.
أندهش من نفسى.. فقد صرت أربطها بسهولة جدًا ..وأتذكر أول مرة ارتديت رابطة عنق ..واستغرق الأمر ليلة كاملة للتدريب!!
آه.. كدت أن أنسى دواء الضغط .. أضعه فى حقيبتى؛ لأن موعده الساعة 7 مساء..أ ول مرة ارتديت رابطة عنق لم أكن أتعاطى دواء للضغط المرتفع..!
استقل سيارتى ..أسير فى شوارع مدينة نصر حتى أصعد كوبرى اكتوبر لتبدأ رحلة المساء.. إذاعة الأغانى ترافقنى وصوت فايزة أحمد يصنع مساءً شجيا..
كعادتى اندمج معها وأتخيل نفسى فى بروفة (جنرال.).وأغنى بصوت عال.. أتجاهل نظرات الاستغراب من السيارات المجاورة. وتساؤلاتهم من هذا المجنون ؟!
الآن أنا على كوبرى أكتوبر الذى يتحرك كسلحفاة فرعونية..امر على شارع صلاح سالم..وعينى تقع على مستشفى العباسية للامرض العقلية ..أسرح بعيدا ..وافكر فى الذين بداخلها ..والذين هم اولى بسكناها !
تقذف بى حركة السيارات إلى غمرة..وينما أنا سارح مع الكروان .وهى تغرد.. (ياللى وخداك الليالى بعيد..وغايب عن حبايبك…يااللى وحشانى عينيك ..وياريتنى طول العمر جنبك..حبيبى يامتغرب.) سمعت صوت اصطدام ..فقد صدمت السيارة التى امامى..وانا مندمج..فقد توقفت حركة الكوبرى فجاة.
:فى ايه ياعم الفنان الحمار؟!
مش تفتح يابهيم..
انت فاكر نفسك فى الأوبرا؟!
خرجت هذه الجمل من قائد السيارة التى أمامى ..فى تناغم ..رجل أربعينى مهزوم.. نزلت من سيارتى ..ولم اتكلم ..أنا لا أجيد خناقات الشوارع ولا الكبارى ..فى الواقع أنا لا اجيد اى خناقات..فاسلوبي فى الكلام ..يكشفنى ..وبعد جملتين عن السياق والتسامح..يكتشف غريمى انى (لُقطة) وراجل خام..وممكن اكون فريسة مناسبة..! تدخل اصحاب السيارات المجاورة ..وانه حصل خير..واقنعوا الرجل الاربعينى انه يسامحنى ..فانصرف وهو يقول..عامللى فيها فنان وهو حمار!!!
لاحظت ابتسامة على وجوه المحيطين ..حتى ان حسناء فى سيارة مجاورة لم تمنع ضحكة صافية ..عدت إلى سيارتى معتل المزاج. وتساءلت أين الحوادث التى نشاهدها فى السينما ان تحتك سيارتى بسيارة فتاة يانعة ونتبادل بعدها التعارف وتصبح قصة .! وما محبة إلا بعد عداوة.. لماذا دائما احتك بالاجلاف الخناشير.. حتى الآن أجد العداوة فمتى تاتى المحبة ؟!
يصل بنا الكوبرى السلحفاة إلى رمسيس..لفت نظرى ان لوحة الاعلانات الكبيرة التى تعلو الكوبرى وتحمل صورة مرشح شاب للبرلمان..(ينز)من وجهه البوتكس..هذا المرشح الشاب يرث اباه فى الدائرة وناخبيها.. كانت اللوحة مطفاة واعلاها عامل كهل يفك الصورة فقد انتهت الانتخابات..وفاز النائب البوتكس….قفز الى ذهنى اسئلة عن العامل المعلق..وماذا لو افلتت قدمه وهوى وغطى الارض اشلاء..كان العامل يتحرك بخفة ودربة وبدا فى فك البانرات..فبدات صورة المرشح فى التفتت..اعجبتنى اللقطة ..فالان المرشح بلا راس..ولا ذراعين ..الان تسقط الصورة كاملة على الارض..! فرحت بهذا الانتقام الرمزى ..لكنى حزنت ان لافتات المرشحين لم تعد تصنع من القماش ..فقد كانت تستر عورات الغلابة بعد انتهاء مولد الانتخابات ..حيث يصنعون منها .ملابس داخلية. .
الاعلان هو فن صناعة الكذب.. ومخاطبة الغرائز كما درسنا فى كلية الاعلام..هكذا كانت صورة المرشح الذى يعد الناس بانه على العهد دائما .. مثل اعلان عن سيارة ومعها صورة فتاة حسناء مكتوب بجوارها .. القوة والمتانة !
الان… أصل الى ميدان عبد المنعم رياض.. اترك السيارة ألقى السلام على الجنرال الذهبى ..أقرا الفاتحة ..
واسير على النيل .بدات السماء فى المطر..والنيل يرسم لوحة بديعة ..ادلف الى المبنى العجوز القابع على النيل كشاهد كتوم..اصافح ثمثال عبد الناصر فى البهو العتيق..وادخل الى الاستديو .. تضئ اللمبة الحمراء..وابدا اللقاء وانا اترنم برائعة امل دنقل.. معلّق انا على مشانق الصباح وجبهتى بالموت محنية ..لاننى لم احنها حية..بينما تنداح مقطوعة موسيقية (آسيانة) لميشيل المصرى فى الخلفية..ووجه عامل معلق اعلى لوحة اعلانات معتمة يتلاشى فى الافق..