دراسات ومقالات

جدلية الماضي والحاضر في قصيدة إليها وهي في ريعان تألقها الفائق

للشاعر العراقي ثامر جاسم

د. محمد سعيد شحاتة

(الجزء الأول)

(الجزء الثاني)

تحدثنا في الجزء الأول من الدراسة عن العنوان وارتباطه بعالم النص ارتباطا عضويا، بحيث لا نستطيع فهم العنوان ودلالاته إلا بالرجوع إلى النص، ولا نستطيع استكشاف النص إلا عن طريق فهم العنوان؛ فالعنوان هو عتبة الولوج الأولى إلى عالم النص، ثم تحدنا عن حركة المعنى والبناء الرأسي للنص، وحاولنا استكشاف كيفية بناء الرؤية الفكرية في النص لبنة بعد لبنة، وكيفية تشكيل زوايا الرؤية، والرموز التي وضعها الشاعر مصابيح تضيء للمتلقي زوايا الرؤية المختلفة بحيث تتكشف تلك الرؤية في كل خطوة يخطوها المتلقي حتى يغلق النص قوسيه، وفي هذا الجزء نتحدث عن البناء الأفقي للنص، وسوف نقتصر في هذا الجزء على الحديث عن الصورة التي ارتبطت بالرؤية الفكرية؛ لتكون العلاقات البلاغية عنصرا أساسيا في بناء الرؤية الفكرية إلى جانب شبكة العلاقات اللغوية، على أن نستكمل دراسة بقية العلاقات البلاغية لاحقا، إلى جانب العلاقات اللغوية.

البناء الأفقي للنص:

سوف نتوقف في هذا الجزء من الدراسة عند تشكيل الرؤية من خلال العلاقات البلاغية وتشابكها مع العلاقات اللغوية في النص، وسوف نتخذ نقطة ارتكاز لكل بؤرة بلاغية، أو بؤرة لغوية، ونحاول توسيعها من خلال ربطها بغيرها، أو بامتداداتها بحيث نرى كيفية عملها في إنتاج الدلالة؛ فنحن نرى أن العناصر المختلفة تشكل علاقات متداخلة ومترابطة مع بعضها البعض، وتكشف بطرق مختلفة ملامح الرؤية الفكرية في النص، وتؤكد كل مجموعة من العناصر ما كشفته العناصر الأخرى، أو تزيد ملامح الرؤية وضوحًا، وسوف نبدأ هذا البناء الأفقي بالحديث عن شبكة العناصر البلاغية ودورها في تشكيل الرؤية وإنتاج الدلالة.

أولا: الصورة الفنية

احتلت الصورة الشعرية مكانة تقف دونها كل الوسائل التعبيرية الأخرى، وامتدت تلك المكانة عبر القرون المختلفة والثقافات المتباينة، واللغات المتعددة، ومن ثم وجدنا القول “إن الصورة الشعرية كيان يتعالى على التاريخ” (الصورة الشعرية في الخطاب البلاغي والنقدي، ص 7) وقد ميَّزها أرسطو عن باقي الأساليب التعبيرية فقال: “ولكن أعظم هذه الأساليب حقا هو أسلوب الاستعارة؛ فإن هذا الأسلوب وحده هو الذي لا يمكن أن يستفيده المرء من غيره، وهو آية الموهبة، فإن إحكام الاستعارة معناه البصر بوجود التشابه”.( كتاب أرسطو طاليس في الشعر، ص 128) واستمر الاهتمام بالصورة ودورها في إنتاج الدلالة، وتشكيل المعنى حتى العصر الحديث، فقد أشادت الحركة الرومانسية بالصورة، وارتفع شعار “الشعر تفكير بالصورة” ويرى س. د. لويس أن “المنبع الأساسي للشعر الخالص هو الصورة” ويقول: “إن كلمة الصورة قد تم استخدامها خلال الخمسين سنة الماضية، أو نحو ذلك كقوة غامضة، وهذا ما فعله ييتس بها، ومع ذلك فإن الصورة ثابتة في كل تلك القصائد، وكل قصيدة هي بحد ذاتها صورة، فالاتجاهات تأتي وتذهب والأسلوب يتغير كما يتغير الوزن، حتى الموضوع الجوهري يمكن أن يتغير بدون إدراك، ولكن المجاز باق للحياة في القصيدة، وكمقياس رئيسي لمجد الشاعر” (الصورة الشعرية، ص 20) ويبدو التشديد نفسه على أهمية الصورة لدى أصحاب النقد الجديد، فنجد جون كوين يرى أن الاستعارة “تشكل الخاصية الأساسية للغة الشعرية”.( جون كوين، بناء لغة الشعر، ص 106) ولا ينقطع الحديث عن الصورة ودورها الفاعل عبر العصور والمناهج النقدية المتعددة والمختلفة، كما حظيت الصورة الشعرية بالمكانة نفسها عند عبد القاهر الجرجاني في كتابه (أسرار البلاغة) إذ يقول عنها: “وأملأ بكل ما يملأ صدرًا، ويمتع عقلا، ويؤنس نفسًا، ويفر أنسًا، وأهدى إلى أن تهدى إليك أبدا عذارى قد تخيَّر لها الجمال، وعني بها الكمال، وأن تخرج لك من بحرها جواهر إن باهتها الجواهر مدت في الشرف والفضيلة لا يقصر، وأبدت من المعاني الجليلة محاسن لا تنكر وردت بصفرة الخجل، ووكلتها إلى نسبتها من الحجر، وأن تثير من معدنها تبرًا لم تر مثله” (أسرار البلاغة، ص 40) وعندما يناقش الذين يرون قيمة العمل الأدبي في ألفاظه فقط أو في معانيه فقط يرى أن هؤلاء وأولئك قد جانبهم الصواب؛ إذ جهلوا عنصرا ثالثا يجمع بين هذه الألفاظ وتلك المعاني، وهو الصورة، فيقول: “إنهم لما جهلوا شأن الصورة وضعوا لأنفسهم أساسًا، وبنوا عليها قاعدة، فقالوا إنه ليس إلا المعنى واللفظ ولا ثالث”.( دلائل الإعجاز، ص 311) فإذا انتقلنا إلى قصيدة النثر العربية فإننا نجدها قد انفلتت من أسر التقليد، واتجهت بقوة نحو إيجاد شعرية جديدة منطلقة من سياق ثقافي وحضاري فرض عليها كسر القيود والأعراف المتوارثة من غنائية مفرطة إلى تدفق هادئ ينبني على تشكيلات فكرية عميقة للمعنى، ونزع الصفة الاعتيادية عن كل ما هو يومي وعادي وهامشي والدفع به إلى متن الفعل الشعري؛ ليشكِّل أساسا متينا في إنتاج الدلالة ، و الكشف عن وعي الشاعر الحداثي بالعالم المحيط به، والمتفاعل معه، والمندمج مع أنسجته الفكرية والاجتماعية والإبداعية، والكاشف عن انحيازاته الجمالية المبتعدة عن المتوارث من حيث الشكل والرؤية، ومن ثم كان البناء بالصورة، فاستخدم الشاعر لغة سردية تعتمد على الوصف في بناء الصورة مع استثمار كل المدركات في تشكيل الصورة الشعرية، وأصبحت قيمة العناصر المشكِّلة للصورة مستمدة من قدرتها على التمازج فيما بينها لإنتاج صورة شعرية قادرة على منح القصيدة النثرية الصفة الدلالية المنعتقة من أسر التقليد؛ فهي قصيدة دلالية في المقام الأول، ومن ثم فإن عناصر الصورة لا قيمة لها في ذاتها، ولا يمكننا فهم قصيدة النثر بعيدا عن فهم طبيعة الصورة؛ لأن قصيدة النثر حررت البناء الشعري من الإطار الموسيقي وألحقته بالإطار التصويري، وبذلك أصبحت الصورة مشكِّلة للرؤية (ينظر بالتفصيل: د. محمد سعيد شحاتة، أنطولوجيا، دراسات تطبيقية في قصيدة النثر، ص13) ويقول إبراهيم عاطف إبراهيم “وجاء بناء الصورة داخل قصيدة النثر أكثر حسية وجمالية حيث تميزت بحشد التفاصيل، ونقل الأشياء عبر وعي الشاعر، وبناء صورة مستمدة من الحواس مما يساهم في رسم صورة بصرية تعتمد على تحديد اللون بدقة ورسم الظلال والضوء داخل القصيدة، وبذلك تستمد الصورة قدرتها في التأثير على المتلقي عبر جدلية بناء القصيدة ” (قراءة في خصائص بناء الصورة الشعرية، قصيدة النثر المصرية أنموذجًا، https://alketaba.com) وإذا انتقلنا إلى النص فإننا نلاحظ أنه ينبني على ثلاث صور أساسية، تمثل كل واحدة بؤرة بلاغية تنطلق منها امتدادات لصور فردية وتتشابك مع بعضها البعض؛ لتشكل الصورة الكلية الكاشفة عن ملامح الرؤية الفكرية، وأولى هذه الصور وردت في قوله:

أعدو     

 كما نافرٍ من مساء بغيض المضاجع

أعدو

كمن لاحقته النار ألسنة وأضراساً 

 وأرنو

فلا وجه يشي بالهداية وحتى في التماع الفنارات

شَرودٌ،

ولا جنة تأوي 

ولا نهلة من فرات مياه

أعدو الى ضوئها

أعدو

واحتلام هذا الصباح الفتيّ خيال

تتميز الصورة في السطور السابقة بالطابع الحركي الناشئ عن استغلال الطاقة الحركية للفعل (أعدو) الذي يبدو للوهلة الأولى محور الصورة الشعرية؛ فهو يمثل بؤرة الانطلاق لتشكُّل عناصر الصورة، وتدور حوله كل العناصر الفردية، وكل عنصر يكشف عن ملمح من الملامح، ففي البداية نتخيل صورة شخص يعدو، وهذه هي الصورة الأساسية، ولكننا في الوقت نفسه نتخيل ملامح هذا الشخص الذي يعدو؛ إذ يبدو عليه السأم (كما نافر من مساء  فلا وجه يشي بالهداية وحتى في التماع الفنارات ) كما يبدو عليه التشرد (شرودٌ ولا جنة تأوي) وكذلك يبدو عليه العطش (ولا نهلة من فرات مياه) وبذلك نرى أن كل الصور الجزئية تدور في فلك الصورة الكلية الناشئة عن الفعل (أعدو) وقد توافقت حركية الفعل (العدْو) مع الطاقة الحركية الناجمة عن استخدام الفعل وليس الحركة؛ فهو فعل مضارع ومن المعروف أن الفعل المضارع يدل على الحركة والتجدد والاستمرار، ولكننا في الوقت نفسه نجد هذا الفعل يمارس الحركة في الواقع العملي، تلك الحركة الناتجة عن الفعل نفسه؛ فالعدْو حركة، والفعل مضارع دال على الحركة، وبذلك تتطابق دلالة الفعل مع أدائه الواقعي، ومن الملاحظ كذلك أن الصور كلها حسية، ابتداء من الإطار العام للصورة الناشئ عن الفعل (أعدو) وامتدادا إلى الصور الجزئية (نافر من مساء – لا حقته النار – لا وجه يشي – فرات مياه) وهكذا اتكأت الصورة على الجانب الحسي للكشف عن الرؤية وإنتاج الدلالة، فإذا انتقلنا إلى التكييف البلاغي للصورة فإننا نلاحظ أنها صورة تشبيهية مكتملة الأركان (مشبه/ الشاعر – مشبه به/ نافر/ لاحقته النار …. – أداة تشبيه/ الكاف) وهذه الصورة تستمد عناصرها من الواقع المعاش؛ فالمشبه هو الأنا الشاعرة، والمشبه به هو صورة النافر من المساء البغيض المضاجع، ومن الملاحظ أن الشاعر عبَّر عن المساء/ الليل بأنه بغيض المضاجع، ومن ثم ابتعد عن طريقة العرب في تشبيه الليل بالبطيء كما في قول النابغة الذبياني:

كليني لهم يا أميمة ناصب      وليل أقاسيه بطيء الكواكب

كما ابتعد عن صورة الغروب/ المساء التي تواترت عن العرب، والتي عبَّر عنها خليل مطران في قصيدته المساء، في قوله:

يا للغروب وما به من عبرة        للمستهام وعبرة للرائي

ومن ثم لا يعنيه إن كان المساء بطيئا أو سريعا، ولكن الذي يعنيه أن هذا المساء يحمل الهموم والكآبة، وعدم الارتياح والقلق والسأم؛ فهو بغيض المضاجع، ولنا أن نتأمل صورة المضجع البغيض الذي لا يرغب صاحبه أن يرقد فيه؛ لما يحمل في نفسه من بغض له ونفور منه، وإذا جاز لنا التأويل بأن المراد من المساء هو الواقع المأساوي الذي تعانيه البلاد فإن البغض هنا يكون ناشئا عن كراهية الشاعر لهذا الواقع الذي يمثل مساء بالنسبة لبلاده التي اعتادت الأمجاد، ومن ثم يكون البغض مبرَّرا من هذه الزاوية التأويلية، وما يمكن أن يبرر هذه الزاوية التأويلية ما أشار إليه الشاعر نفسه من أنه يعدو إلى ضوئها/ بلادي العتيقة، ومن ثم فإن العدْو هو انتقال من مكان إلى مكان فإذا كان يعدو إلى ضوئها فإن المساء الذي ينفر منه هو مساء بلاده/ واقعها المعاش، وهو ينتقل من هذا الواقع المعاش الذي يبغضه إلى ضوئها الذي يعشقه، فإذا انتقلنا إلى مكونات الصورة فسوف نلاحظ أنها تتكون من أكثر من صورة جزئية، فالصورة الجزئية الأولى هي في قوله: (أعدو كما نافرٍ من مساء بغيض المضاجع) وهي صورة تشبيهية تصور الشاعر إنسانا يفر من المساء البغيض، والصورة الجزئية الثانية هي في قوله (أعدو كمن لاحقته النار ألسنة وأضراساً ) وهي أيضا صورة تشبيهية، أما الصورة الثالثة فهي في قوله (لا وجه يشي بالهداية) وهي كناية عن الضلال والضياع، والصورة الرابعة في قوله (لا جنة تأوي) وهي كناية عن  عدم الراحة ورغد العيش؛ فالجنة مكان للراحة بعد التعب، والاستقرار بعد التشرد ومعاناة مآسي الحياة، ونفي وجود جنة تأويه هو نفي لوجود الراحة والاستقرار، ثم تأتي الصورة الجزئية الخامسة في قوله (لا نهلة من فرات مياه) وهي كناية عن العطش، واستخدام لفظ فرات له دلالتان، الأولى إشارة صريحة إلى الفرات وهو نهر من نهرين يميزان العراق، والدلالة الثانية هي المياه الصافية الصالحة للشرب التي يمكن أن تحيي الإنسان، وعدم وجود المياه الفرات هو تهديد بالموت والفناء؛ لأن الله جعل من الماء كل شيء حي، ومن الملاحظ أن الصور الجزئية كلها تثبت الصفات السلبية وتنزع الصفات الإيجابية، مما يوحي بالسلبية للصورة الكلية التي تتضمن الصور الجزئية كلها. أما الصورة الثانية من الصور الأساسية التي ينبني عليها النص فهي في قوله:

ألا أيها الآكلون قمح البلاد بهذي البلاد

صرير النواعير صرصرت أبوابنا فاستحالت غثاءً.. بحة

وندوب المرايا دموع الأمهات الصادقات

عرّجوا نحو تلك التخوم العتيقة عرّجوا..

سائلوا كل بخّاتٍ -عشقه الرمل- عن سيرة السالفين

قبل لعنات النفوط

ثابت ذلك الرمل.. وهو للان

ومهما تحوّل او تغوّل القارُ إسفلتا للصِلات الحديثة

هذي الارض سِفرٌ بمسمار ومزمارٍ

لوجد وعهد ورمل وسهل ومهدٍ وحرف

تكور قصة قصـــة قصة المجد القديم

إن اللفظ المركزي في هذه الصورة هو (الآكلون) وهو يمثل صورة تعبر عن رؤية فكرية محددة، فإذا أضفناه إلى ما بعده من الألفاظ انصرفت هذه الصورة إلى مكان محدد في زمن محدد أراده الشاعر، وهنا نتوقف أولا حول الدلالة العميقة للفظ (الآكلون) وامتداداته في الذاكرة الثقافية العربية، ثم نتتبع دلالته في النص؛ حتى نرى مدى امتحائه من الذاكرة العربية، سواء الثقافية أو المجتمعية. ومن الملاحظ أن هذا اللفظ استخدم دالا على الصورة السلبية في كل استخداماته مع الملحقات التي أشار إليها الشاعر في النص، وقد تحدثنا سابقا حول استخدام النص القرآني لهذا اللفظ دالا على الصورة السلبية، وهنا نضيف أن الشعر العربي منذ القدم قد استخدم هذا اللفظ/ الصورة (الآكلون) دالا على السلبية حين استخدمه في صورة الهجاء، ودالا على النهب والسلب حين استخدمه في مهاجمة الظالمين والفاسدين في المجتمع، ففي الدلالة الأولى/ السلبية في الهجاء يقول الأخطل في قصيدة يمدح فيها عبد الملك بن مروان، ويهجو أعداءه:

قومٌ تناهت إليهم كل فاحشة
على العِيارات هدَّاجون فد بلغتْ
الآكلون خبيث الزاد وحدهم
وكل مخزية سُبَّتْ بها مضرُ
نجرانُ أو حُدِّثتْ سوءاتهم هجرُ
والسائلون بظهر الغيب ما الخبر؟

ومن الملاحظ أن الشاعر أشار بوضوح إلى الدلالة السلبية لهذا اللفظ في موضعه حين قال (تناهت إليهم كل فاحشة، وكل مخزية) ثم ذكر بعد ذلك أوصافهم (الآكلون خبيث الزاد) وهنا لا تخرج دلالة هذا اللفظ/ الآكلون عن كونها دلالة عادية للفظ مفرد، وهي دلالة الأكل بدليل استخدام لفظ الزاد بعده؛ ليدل على الطعام، فهؤلاء القوم لا يأكلون من الزاد/ الطعام إلا كل ما هو خبيث، وهو بذلك يشوه صورتهم، ولكن الدلالة العميقة للفظ/ الزاد لم تتحول إلى دلالة السلب والنهب، بل ظلت في دلالتها المباشرة، وهي تناول الطعام، وهنا يأتي جرير بن عطية ليرد على الأخطل بقصيدة من نقائضه يهاجم فيها بني تغلب قبيلة الأخطل، ويرد عليه اتهامه، فيقول:

خابت بنو تغلبٍ إذ ضلَّ فارطهم
الظاعنون على العمياءِ إن ظعنوا
الآكلون خبيث الزاد وحدهم
حوضَ المكارم إن المجد مبتدرُ
والسائلون بظهر الغيب ما الخبر؟
والنازلون إذا واراهمُ الخَمَرُ

وهي الصورة نفسها التي وردت عند الأخطل؛ إذ عبَّر جرير بن عطية بلفظ (الآكلون) عن الدلالة العادية للفظ، وهو المعنى نفسه الذي ورد عند الأخطل، ثم يأتي اللفظ/ الآكلون في قصيدة أبي إسحاق الإلبيري التي يصف فيها المعاناة حتى يصل إلى الصورة التي تكاد تكون محفورة في الذاكرة الجمعية للإبداع العربي، والتي عبَّر عنها الشاعر في قصيدته محلّ الدراسة مستقيًا إياها من الذاكرة الثقافية الجمعية العربية، يقول أبو إسحاق الإلبيري:

وهم يقبضون جباياتها
وهم يلبسون رفيع الكسا
وهم أمناكم على سرِّكم
ويأكل غيرهم درهما
وقد لابسوكم بأسحارها
وهم يذبحون بأسواقها
وهم يخضمون وهم يقضمون
وأنتم لأوضعها لابسون
وكيف يكون خؤونٌ أمين
فيقصى ويدنون إذ يأكلون
فما تسمعون ولا تبصرون
وأنتم لأطرافها آكلون

وعلى الرغم من أن دلالة اللفظ (آكلون) في نص الإلبيري دلالة عادية تتماشى مع الدلالات السابقة فإن الصورة الكلية للأبيات تحيلنا مباشرة إلى تطور دلالة اللفظ (آكلون) في الاستخدام الشعري العربي، ولسنا هنا معنيين بدراسة ذلك التطور الدلالي، ولكننا معنيون بما ورد في النص محلّ الدراسة، ومعنى ذلك أن لفظ (الآكلون) قد استخدم دالا على الهجاء، وسلب الصفات الإيجابية من المهجوّ في مجال الصفة المرادة/ الأكل، ولكن الشاعر في القصيدة محل الدراسة يحيلنا إلى دلالة أخرى أوسع للفظ (الآكلون) وهي دلالة السلب والنهب متكئة على الفساد الذي أصاب نفس ذلك الآكل، ومن ثم فإن اللفظ يحيلنا إلى زاويتين مرتبطتين ببعضهما: الأولى السلب والنهب لحقوق الآخرين، والثانية الفساد الذي دفع صاحبه إلى ارتكاب السلب والنهب، ونقول ذلك؛ لنستبعد دلالة السلب والنهب الناشئة عن الخروج عن القانون؛ لأن الناهبين والسالبين المشار إليهم في النص ليسوا خارجين عن القانون في عرف المجتمع، بل هم يدافعون عن القانون من وجهة نظرهم، وهنا تكمن المفارقة التي أرادها النص؛ فالشاعر يوجِّه إليهم النداء (ألا أيها الآكلون قمح البلاد بهذي البلاد) ويطلب منهم أن ينظروا إلى الواقع المعاش ، وهنا نرى أن هؤلاء الآكلين قمح البلاد لهم قاعدة مجتمعية يستندون إليها، كما أن لهم قدرة على تغيير هذا الواقع الذي يشير إليه النص حين يقول:

صرير النواعير صرصرت أبوابنا فاستحالت غثاءً.. بحة

وندوب المرايا دموع الأمهات الصادقات

عرّجوا نحو تلك التخوم العتيقة عرّجوا..

سائلوا كل بخّاتٍ -عشقه الرمل- عن سيرة السالفين

قبل لعنات النفوط

إن هذه الصورة مرتبطة ارتباطا وثيقا بصورة (الآكلون قمح البلاد) فلولا أنهم أكلوا قمح البلاد ما كان لتلك الصورة السلبية وجود، بمعنى لولا أنهم أكلوا قمح البلاد/ خيراتها ما كانت دموع الأمهات، ولا كانت النواعير صرصرت الأبواب، ومن ثم فإن الصورة المركزية في هذه اللوحة البلاغية هي صورة (الآكلون قمح البلاد) وهي صورة كنائية، وترتبط بها وتتشابك معها بقية الصور التي تساعد في تشكيل الصورة الكلية لهذا المقطع من النص، وهنا نسوق الصور المفردة؛ لنرى مدى ارتباطها بالصورة المركزية (الآكلون قمح البلاد) فمن الصور المفردة داخل الصورة الكلية (النواعير صرصرت أبوابنا فاستحالت غثاء) هي صورة تعبر عن الفقر الذي أصاب المجتمع؛ فالنواعير واحدها ناعورة، وهي ساقية، أو دولابٌ ذو دِلاء أو نحوها يدور بدفع الماء أو جَرِّ الماشية فيخرج الماء من البئر أو النهر إلى الحقل، ومن ثم فإن النواعير مرتبطة بالزراعة وسقاية الماء، فإذا كانت هذه النواعير صرصرت الأبواب واستحالت غثاء فإنها لم تعد ذات الدلالة السابقة، وفقدت أهميتها، أو فقدت وظيفتها؛ فهي لم تستحل غثاء فقط، بل استحالت أيضا بُحَّة، والبُحّة هي  غِلَظ الصوتِ وخُشونَتُه من داءِ، أَو كثرةِ صِياح، أو تَصَنُّع في غِناء، ومعنى ذلك أن النواعير لم تعد تُخرج ماء، ولكنها أصبحت مصدر أصوات خشنة مزعجة، وهذه الصورة الجزئية مرتبطة بالصورة المركزية (الآكلون قمح البلاد بهذي البلاد)؛ فنتيجة هذا الأكل لقمح البلاد/ خيراتها استحالت النواعير بُحَّة وغثاء، وورود لفظ بحة مقترنا بلفظ غثاء يدل ذلك على ما أشرنا إليه من تحول النواعير عن وظيفتها من سقاية الماء ومصدر الخير إلى مصدر إزعاج وفقدان القيمة؛ ذلك أن الغثاء هو ما يحملُه السَّيلُ من رغوة ومن فُتات الأَشياء التي على وجه الأرض، وهو دال على ما لا قيمة له، وكثيرا ما نردد عن الشيء التافه بأنه غثاء كغثاء السيل، ثم تأتي الصورة الثانية المرتبطة بالصورة المركزية/ الآكلون قمح البلاد هي الصورة الواردة في قوله (وندوب المرايا دموع الأمهات الصادقات) فدموع الأمهات الصادقات تساقطت على وجوه المرايا فأحدثت فيها ندوبا؛ لتكون شاهدة على المعاناة التي تعانيها تلك الأمهات، ومعاناة الأمهات مرتبطة بمآسي أبنائهن، ومن ثم ينقلنا النص إلى معاناة الأسر والمجتمع بأسره من أولئك الآكلين لقمح البلاد، وهكذا نجد الصورة المركزية (الآكلون قمح البلاد) تستقطب مجموعة من الصور الجزئية التي تساعد في إنتاج الدلالة، والكشف عن جانب من جوانب الرؤية الفكرية.

أما الصورة الثالثة من الصور الأساسية التي ينبني عليها النص فهي صورة البلاد في ماضيها الزاهر؛ لتكون مقابلا لصورة البلاد في حاضرها المأساوي، وبذلك ينجح الشاعر في الكشف عن الواقع من خلال وضعه في مقابلة الماضي؛ لتتكشَّف صورة الحاضر بملامحه السلبية، وهنا نشير إلى أن الإتيان بصورة الماضي ليس هدفا في حد ذاته، ولكنه ترتيب منطقي لكشف صورة الحاضر؛ فالهدف الأساسي هو الحاضر وليس الماضي؛ فبضدها تتميز الأشياء، ولذلك كانت صورة الماضي أكثر الصور انتشارا في النص وامتدادا على فضاء النص، ويمكن انتزاعها من أماكن متعددة من النص، وليست واردة في مكان واحد في الفضاء النصي، وهو ما يوحي بأنها الصورة المعنية بالتركيز عليها من الشاعر؛ لأن كل جزئية في هذه الصورة تحيلنا مباشرة إلى النظر في الحاضر؛ لنرى كيف تغيرت ملامح تلك الجزئية، وتبدلت العناصر، وكيف فعل الآكلون قمح البلاد، ومن ثم كان لهذه الصورة/ الماضي الحيِّز الأكبر على مستوى الفضاء النصي، يقول الشاعر:

كلما تذكرت أشجارها تذكرت أعمارها..        

وحُوْبَ رماح سمهريات قدَّدتها فؤوس

……………………..

هذي الأرض سِفرٌ بمسمار ومزمارٍ

لوجد وعهد ورمل وسهل ومهدٍ وحرف تكور قصة قصـــة

قصة المجد القديم

…………………………………………..

هبي أن عينيك مهماز قلبي الضعيف

وشعرك تلك الحدائق، والحرائق، والكرنفال

هبي أن أرجوحة الضوء

ميس الجميلات في موئل الظل

وأن اكتحالك أضفى على المجد نشوة الارتقاء

وأن نهديك كانا رباي القديمة خلف ذكراي المقيمة

 مذ كنت طين

…………………………………….

يا نبضًا تأطر بالسنابل والحقول

آية.. أنت يا بيرق الاخضرار

راية في سماء البلاد المشرقية تهفو لها الشمس

والإشراق والأشواق

يا بنت الأُلى يمَّموا شطر أسلافهم

واستنهضوا نبض الحجر

تبدأ الصورة بأول ملمح من ملامحها وهو رصد التاريخ الضارب في القدم للبلاد، والتي ما زالت شواهده صامدة أمام ضربات الزمن، وشاهدة على الامتداد التاريخي، حيث يقول:

كلما تذكرت أشجارها تذكرت أعمارها..        

وحُوْبَ رماح سمهريات قدَّدتها فؤوس

واستخدام لفظ (كلما) يدل على التكرار، وهو ما يوحي بأن ذاكرة الشاعر لا تغفل عن الوطن لحظة واحدة، كما يدل أيضا على ارتباط وثيق بين تذكر الأشجار وتذكر الأعمار، ولكن لفظ (تذكرت) يدل أيضا على أن الشاعر المتذكر بعيد عن وطنه؛ لأنه لو كان في وطنه لقال (كلما نظرت إلى أشجارها تذكرت أعمارها) ومن ثم فإن في ذلك إشارة من النص إلى أن المخلصين من أبناء الوطن الحريصين على تاريخه وحضارته بعيدون عنه، وهو ما سيكون مقدمة لما آل إليه حال الوطن في الحاضر، والربط بين الأشجار والأعمار يوحي بملمحين الأول القدم وهو ناتج عن أن الأشجار ثابتة الجذور في الأرض، وكذلك البلاد، والثاني الجمال والعطاء؛ فالأشجار رمز للخضرة والجمال، وأيضا رمز للعطاء، وكذلك البلاد بحضارتها هي رمز للفخر والجمال والبهاء، وأيضا رمز للعطاء المتجدد، ثم يأتي الملمح الثاني من ملامح الصورة في قوله:

ثابت ذلك الرمل.. وهو للان

ومهما تحوّل او تغوّل القارُ إسفلتا للصِلات الحديثة

هذي الأرض سِفرٌ بمسمار ومزمارٍ

لوجد وعهد ورمل وسهل ومهدٍ وحرف تكور قصة قصـــة

قصة المجد القديم

ونلاحظ أن الملمح الثاني من الصورة/ صورة البلاد هو امتداد للملمح الأول، وتفصيل له؛ فهو يذكر صراحة التاريخ وحضوره في الذاكرة الحاضرة (ثابت ذلك الرمل … وهو للآن) ثم يؤكد أن هذا الثبات مستمر مهما تغيرت الأحداث واشتدت الصراعات، وتبدلت القوى، وظهرت ملامح جديدة (ومهما تحوَّل أو تغوَّل القار إسفلتا للصلات الحديثة …) في إشارة واضحة إلى أسباب الغنى الحديث، وأسباب الهيمنة المعاصرة المتمثلة في القار/ النفط الذي أصبح يحكم العلاقات الدولية، ويتحكم في صراعات العالم في العصر الحديث، كما أصبح مصدرا للقوة بدلا من مصادر القوة القديمة، ولكن الشاعر يشير إلى أن الحضارة التي شهدت قوة البلاد في ماضيها هي أيضا التي ستكون قوة للبلاد في حاضرها، ولذلك يغلق الشاعر هذا الملمح بقوله (هذي الأرض سِفرٌ بمسمار ومزمارٍ لوجد وعهد ورمل وسهل ومهدٍ وحرف تكوَّر قصة قصـــة، قصة المجد القديم) ليؤكد على أن الماضي مازال هو مصدر القوة والعظمة للبلاد مهما تبدلت وسائل العظمة في العصر الحديث المتمثلة في الغنى المادي، ثم يأتي الملمح الثالث من ملامح الصورة/ صورة البلاد في قوله:

هبي أن عينيك مهماز قلبي الضعيف

وشعرك تلك الحدائق، والحرائق، والكرنفال

هبي أن أرجوحة الضوء

ميس الجميلات في موئل الظل

وأن اكتحالك أضفى على المجد نشوة الارتقاء

وأن نهديك كانا رباي القديمة خلف ذكراي المقيمة

 مذ كنت طين

وهنا ينتقل الشاعر إلى جانب آخر من الصورة/ صورة البلاد، وهو العلاقة بين البلاد وأبنائها؛ إذ يقول (أن عينيك مهماز قلبي الضعيف – شعرك تلك الحدائق – أرجوحة الضوء – ميس الجميلات …) وهذه الصورة تشتمل على مجموعة من الصور الجزئية تتنوع بين صور تشبيهية وأخرى استعارية وكنائية، وكلها تتمحور حول صورة البلاد في نظر أبنائها، ثم يأتي الملمح الثالث من ملامح الصورة/ صورة البلاد، حيث يقول الشاعر:

يا نبضًا تأطر بالسنابل والحقول

آية.. أنت يا بيرق الاخضرار

راية في سماء البلاد المشرقية تهفو لها الشمس

والإشراق والأشواق

يا بنت الأُلى يمَّموا شطر أسلافهم

واستنهضوا نبض الحجر

وفي هذا الملمح نجد الشاعر يتوجه بالخطاب إلى البلاد مجسدا إياها، وخالعا عليها الصفات الإنسانية؛ حيث يخاطبها مباشرة، ثم يختار لها من الأوصاف ما يضفي عليها البهاء والجمال والجلال، ولكنه في الوقت نفسه لا يخرج عن الإطار العام الذي يستقي منه الصورة الكلية، وهو إطار الجلال المتمثل في الماضي العريق، والجمال المتمثل في الاخضرار والعطاء، وهي مجموعة من المعاني المتكررة لدى الشاعر، ففي البداية يقول (يا نبضا تأطَّر بالسنابل والحقول.. آية أنت يا بيرق الاخضرار) يصفها بالنبض في إشارة إلى مكانتها، ثم يجعل هذا النبض متأطِّرا بالعطاء/ السنابل والحقول، ومعنى ذلك أنها تسكن القلب بعطائها المتجدد، وهو ملمح تحدثنا عنه سابقا في إشارتنا إلى اتصاف البلاد بالخصوبة، ثم يؤكد هذا المعنى في قوله (آية أنت يا بيرق الاخضرار) وفي هذه الصورة الجزئية استخدم الشاعر طريقتين في التعبير عن قرب البلاد من نفسه وبعدها عنه في الوقت عينه؛ فقد خاطبها بقوله (آية أنت) فجعلها مخاطبا – بفتح الطاء – وهذا يعني أنها ماثلة أمامه لحظة الخطاب؛ لأنه وجَّه خطابه إليها مباشرة، ولكنه في الوقت نفسه استخدم حرف النداء (يا) الدال على البعد والقرب في قوله (يا بيرق الاخضرار) فهي إن كانت بعيدة مكانيا فإنها قريبة للقلب، وبذلك حققت الصورة بمكوناتها اللغوية الهدف المراد، كما حققت هذا الهدف أيضا بمجازها؛ حيث استخدم الاستعارة في جعلها إنسانا يناديه، ثم جعل ذلك كناية على الخصوبة والعطاء باستخدام لفظ الاخضرار، ثم ينتقل إلى الجانب الآخر من الصورة حين يخاطب البلاد، وهو جانب المجد (راية في سماء البلاد المشرقية تهفو لها الشمس والإشراق والأشواق/ يا بنت الأُلى يمَّموا شطر أسلافهم/ واستنهضوا نبض الحجر) فإذا كان وصفها في الخصوبة والعطاء والجمال بأنها آية فإنه يصفها في الجلال والمجد بأنها راية، وإذا دققنا النظر فسوف نرى أن وصفها بالآية إشارة إلى أن جمالها وعطاءها يفوق الوصف؛ فهي آية في هذا الجانب، وأما في المجد فإنها راية في إشارة إلى أن لا أحد ينكر عليها ماضيها المجيد، وأن هذا المجد مشهور؛ فهو راية دلالة على شهرته، ثم يجعل هذه الراية في سماء البلاد المشرقية في إشارة على مكانتها في الشرق كله، وأن لا أحد ينكر عليها هذه المكانة، وشواهد حضارتها باقية وشاهدة على عزيمتها القوية وإرادة أهلها التي لا تلين (واستنهضوا نبض الحجر) ومن الملاحظ أن النص منذ البداية إلى النهاية تحكمه زاويتان في حديثه عن البلاد، الأولى الجانب الجمالي المتمثل في الخضرة والزراعة والخصوبة والعطاء المتجدد الذي جعل البلاد تعيش في رغد من العيش، والجانب الثاني هو العظمة والمجد والجلال الذي تتسم به حضارتها، والتي تشهد عليها البلاد المشرقية؛ فهي راية في سماء البلاد المشرقية، ومعنى ذلك أن النص يدور في فلك الغنى المادي المتمثل في رغد العيش الناتج عن الخصوبة والاخضرار، والغنى الحضاري، وهما جانبان يقوم عليهما النص منذ المقطع الأول حتى النهاية.

إليها وهي في ريعان تألقها الفائق

ثامر جاسم

أعدو            

 كما نافرٍ من مساء بغيض المضاجع

أعدو

كمن لاحقته النار ألسنة وأضراساً 

 وأرنو

فلا وجه يشي بالهداية وحتى في التماع الفنارات

شَرودٌ،

ولا جنة تأوي 

ولا نهلة من فرات مياه

أعدو الى ضوئها

أعدو

واحتلام هذا الصباح الفتيّ خيال

بلادي العتيقة

 كلما تذكرت أشجارها تذكرت أعمارها..       

وحُوْبَ رماح سمهريات

 قدَّدتها فؤوس

ألا أيها المجد المفخَّخ بالأباطيل اللعينة والأساطير عَنّا

إليك

عنا

قليلاً

لتبدو المرايا غير معوجة 

بسبق إصرارٍ

صريرٌ

ببيبان أزماننا لم يكن من قلة الآيبينَ  

والراحلين

فتلك المقابر اعتلتها مقابر

والسواتر أتبعتها سواتر

والمنابر فوق الجموع..

ألا أيها الآكلون قمح البلاد

بهذي البلاد 

صرير النواعير صرصرت أبوابنا فاستحالت غثاءً.. بحة

وندوب المرايا دموع الأمهات الصادقات

عرّجوا

نحو تلك التخوم العتيقة عرّجوا..

سائلوا كل بخّاتٍ -عشقه الرمل- عن سيرة السالفين

قبل لعنات النفوط

ثابت ذلك الرمل.. وهو للان

ومهما تحوّل او تغوّل القارُ إسفلتا للصِلات الحديثة

هذي الارض سِفرٌ

بمسمار ومزمارٍ

لوجد وعهد ورمل وسهل ومهدٍ وحرف تكور قصة قصـــة

قصة المجد القديم

أعدو

وأعدو

وأعدو

 إلى/ ناقة العشق خلفي وقدامي الهوى

 وأجتثُّ هذا الفراغ اللعين

أعدو

وأعدو

هبي              

أنني الآن لا أعدو

هبي

أن عينيك مهماز قلبي الضعيف

وشعرك تلك الحدائق،

والحرائق

والكرنفال

هبي أن أرجوحة الضوء

ميس الجميلات في موئل الظل

وأن اكتحالك أضفى على المجد نشوة الارتقاء

وأن نهديك كانا رباي القديمة خلف ذكراي المقيمة

 مذ كنت طين

هبي أنى..  بأحلام جدي

 كروح الزواجل راودتها المعارج قبل المدارج

نحو بيت يممته القبائل اسمه البيت العتيق..

وللآن حتى، وحتى للقياك في عرفات

عتيقٌ من الاحلام الا من الشجن المعطر

يا نبضًا تأطر بالسنابل والحقول

آية.. أنت يا بيرق الاخضرار

راية في سماء البلاد المشرقية تهفو لها الشمس

والإشراق والأشواق

يا بنت الأُلى يمَّموا شطر أسلافهم

واستنهضوا..

 نبض الحجر

 أوبرا مصر  – دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى