بقلم/ حسام عبد القادر مقبل
“الحياة ذكريات جميلة وحزينة، سعيدة ومؤلمة، قد تكون مليئة بالإنجازات، أو بالإخفاقات.. وتبقى الصورة هي التي تسجل هذه الذكريات وتحتفظ لها لتصنع تاريخنا”.
ناجي أنس.. صداقة لم تنته
في أواخر عام 2009 أنتدبت من مجلة أكتوبر للعمل مستشارا ثقافيا وإعلاميا بمكتبة الإسكندرية، وكان من أهم المهام التي طلبت مني هي تنظيم فعاليات معرض مكتبة الإسكندرية للكتاب كل عام، وطلب مني الدكتور خالد عزب رئيسي وقتها أن أبدأ في وضع تصور للبرنامج الثقافي، لمعرض 2010 وبالفعل بدأت التحضير مبكرا، وطلب مني ألا أنسى وضع لقاء للشاعر ناجي أنس ضمن البرنامج.
كنت أعرف ناجي أنس كاسم، وهو أيضا يعرف اسمي كصحفي، ولكننا لم نتقابل، وكان هو وقتها منتدبا من وزارة الداخلية كنائب مدير إدارة الأمن بمكتبة الإسكندرية، ولم أكن قرأت له من قبل رغم معرفتي أنه شاعر وأصدر عدة دواوين، فطلبت من الدكتور خالد أن أقرأ أولا لناجي أنس وأتعرف عليه حتى استطيع تنظيم فعالية له، فرفع السماعة وكلمه، وقال له ضاحكا “المسؤول عن البرنامج الثقافي للمعرض مش موافق ينظم لك فعالية”، وأكمل ضاحكا: “خلي بالك أنا فاتح المايك عشان متغلطش”، رد قاله “أنت بتدبسني يعني” هو مين المسؤول اللي بتتكلم عنه ده؟ رديت أنا ضاحكا والمايك مفتوح “أنا اسمي حسام عبد القادر”، وعايز اتعرف عليك واقرأ شعرك، قالي “أنا مبعرفش أكتب”، قولت له وماله “اعتبرك مبتدئ.. ونشجعك.. عندك شاي يعني” ضحك وقالي ينفع كركديه بالموز، قولتله ينفع.
أول ما فتح باب مكتبه ورآني قالي “يا خبر هو أنت”، وأخدنا بعض بالأحضان، وكانت بداية صداقة قوية جدا مع اللواء ناجي أنس رحمه الله، صداقة نادرة جدا، توطدت علاقتنا حتى أصبح أول حاجة أعملها بالمكتبة يوميا هو شرب الكركديه بالموز في مكتب ناجي أنس، أبدأ به يومي، ثم انطلق لعملي، ولو تأخرت عليه أجد صوته على تليفون مكتبي يخبرني أن علي غرامة تأخير.
ناجي أنس موهبة غريبة من نوعها، وكتبت مرة مقالا عنه بعنوان “ناجي أنس.. موهبة تمطر شعرا”، فهو لديه قدرة رائعة على تأليف الشعر في ثواني معدودة، وأحيانا أكون معه ونتحدث، وأجد ورقة بيديه يكتب عليها وهو يكلمني وتكون قصيدة جديدة، ولو مثلا قولت له فكرة أجده كتبها قبل أن أغادر مكاني، والجميل أن أسرته كلها محبة للفن، وابنته الطفلة الجميلة – وقتها- نور صوتها رائع جدا، والدكتور إسلام وكان ما زال طالبا بكلية الطب، يخرج الأعمال الفنية ويقوم بالمونتاج، فكانت القصائد تكتب وتصدر في دواوين وتنتج وتغنى بأصوات مختلفة وتقدم في حفلات، فكان ناجي أنس مؤسسة فنية متكاملة.
ورغم أنه شاعر مرهف الحس، وفنان بامتياز، إلا أنه على النقيض في عمله بالشرطة، فله صولات وجولات في الداخلية يشار لها بالبنان، فهو خدم في الصعيد وحارب الإرهاب وتعرض للموت مرات عديدة في فترة زمنية من أصعب الفترات التي مرت على مصر، وهو أيضا حارب مهربي الآثار واستطاع القبض على كثير من مهربي الآثار في عمليات في منتهى الخطورة تصلح لأفلام سينمائية وقت أن خدم في شرطة الآثار، وكان سريع البديهة بشكل غير طبيعي، وعقله يعمل 24 ساعة دون توقف.
كان لديه استوديو خاص هو ملتقى لكل فناني الإسكندرية، وفي هذا الاستوديو الصغير كانت تخرج روائع فنية وأوبريتات غنائية على أعلى مستوى، كنت شاهد عيان على كثير منها، وداخل هذا الأستوديو كانت لي ذكريات كثيرة معه، وكنا دائما نقارن عمل الضابط والصحفي، حيث أن هناك الكثير من الصفات المشتركة بين الوظيفتين، خاصة أن كلانا يبحث عن الحقيقة.
كانت الثروة الحقيقية لناجي أنس هي حب الناس، ولم يكن لمنصبه علاقة بهذا الحب، فعلى مدار حياته العملية وكل المناصب كان حب الناس يزيد له، ولا أنسى أنه دعمني أثناء عملي بالمكتبة كثيرا، وذلل لي كثير من المصاعب، لأنه كان مؤمنا بما أقدمه من نشاط، وكان يرى أنه يجب دعم هذا النشاط.
ولا أنسى أبدا عندما طلب مني إدارة وتقديم لقاء له بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، فرحبت وذهبت سعيدا وفوجئت بأتوبيس سياحي كامل قادم من الإسكندرية محمل بمحبين ناجي لحضور اللقاء بالقاهرة.
واستمرت العلاقة بعد أن انتهى انتدابه من المكتبة، وتولى إدارة العلاقات العامة بمديرية أمن الإسكندرية، وفي معرض 2017 كان رافضا طلبي لتنظيم لقاء له بالبرنامج الثقافي، وشعرت بحرجه ولكني ألحيت عليه وقولت له لا مجال للرفض وأنا وضعت البرنامج وتم طباعته وأصريت بشدة على وجوده، وفوجئ بالمسرح مليء عن آخره بكل محبي ناجي أنس، وكان لقاءا رائعا، ولكن للأسف تمكن منه المرض بعدها وعزله عن أحبابه، وعلمت بوفاته وأنا بكندا، في خبر صدمني وأحزنني أنني حتى لم أكن في وداعه وسط محبيه وأسرته، ولكن الذكرى الجميلة تدوم وحب ناجي في قلوب كثيرين يكفيه، ورغم مرور السنوات إلا أنه دائما في بالي بابتسامته ومواقفه الرجولية وسخريته اللاذعة.
حسام عبد القادر مقبل – صورة في حدوتة