دراسات ومقالات

زكريا صبح يكتب التاريخ الخاص والتاريخ العام في رواية التاريخ الذكوري لـ دُرَّة

التاريخ الذكوري  لـ دُرَّة

للكاتبة/  منى خليل

 

منذ اللحظة الأولى للقراءة ناصبت هذا الرجل العداء، والسبب في ذلك ما فعلته الكاتبة، هي التي صورته في هذه الصورة البشعة، فجعلته معاديا شرسًا للنساء، ألصقت به كل النقائص، رجل مكر بوالده كي يكتب له كلَّما يملك في خطوة ذكورية بحتة، رجلًا يعطي آخر مال يستحق متغافلين عن الفتاة التي تستقبل الحياة بقلب نقي، ولأن الأقدار كانت تتربص بهذه الدُرة التي جعلتها الكاتبة رمزا لكل امرأة تعاني القهر والاضطهاد، فإن الموت كان متربصًا بوالديها لتجد نفسه وجها لوجه أمام أخيها مروان؛ الذي جعلت منه الكاتبة رمزًا لكل رجل متجبر متكبر، لا يعرف من الرجولة إلا مظهرًا ذكوريًا، أما معاني الرجولة الحقة المتمثلة في احترام المرأة بصفة عامة، والحنو على أخته بصفة خاصة فقد كانت هذه المعاني بعيدة كل البعد عنه، حتى إن مشهدًا واحدًا من مشاهد الرواية لم يخلُ من فعل شائن تجاه أخته، فقد طمع في كل ميراثها وحقد عليها لأنها تتمسك برغبتها في استكمال تعليمها، واتسمت كل تصرفاته بالغلظة والعنف لدرجة الإيذاء النفسي والمعنوي.

ربما كانت القضية المثارة هنا في هذه الرواية قديمة قدم آدم وحواء، لكن التناول وزاوية الرؤية كانت مختلفة عن معالجات كثيرة للقضية ذاتها، وربما بدا التصاعد الدرامي في الرواية من الوهلة الأولى بالنظر إلى العنوان (التاريخ الذكوري لـ دُرَّة)

ربما كانت أمنية تضمرها كل أنثى بعد أن ترى القمع والظلم من ذكور المجتمع، فتقول في نفسها (ليتني ولدت ذكرا) لأنها ترى أن الذكر يستأثر بكل شيء ويكاد المجتمع يقره على ذلك؛ فِهمًا خاطئًا للدين والأعراف والتقاليد والثقافة، لكن في النهاية فإن المجتمع يكاد يكون متسمًا بالذكورة، كأنه اتفاقًا ضمنيًا وقعه أعضاء المجتمع من الذكور في لحظة تواطؤ وخيانة على استبعاد المرأة واستعبادها، لتكون له اليد الطولى في المجتمع، يعيش لا يزاحمه في الحياة أحد غيره، بدا التصاعد الدرامي بدءًا من الغلاف، لأن القضية على النحو الذي طرحناه تبدو صراعا تقليديًا بين الذكر وبين الأنثى، ومحاولة من الأنثى لنيل حقوقها المسلوبة، وقد يكون مفهومًا

– والأمر كذلك- أن يتسم المجتمع بالذكورة لكن أن يوصم التاريخ أيضا بالذكورة فهذا منحى أظنه فريدًا في حدود علمي.

*فرضية تحتاج إثبات *

لست أدري لماذا انتابني شعور بأن الكاتبة أرادت أن تقول إن الظلم الذي مارسته المجتمعات، امتد أثره إلى التاريخ، وكأنها أرادت أن ترد على من أنكر ذلك. كأني بها وقد بلغ بها الإحساس بالظلم مبلغًا عظيمًا فراحت تبحث في التاريخ عن النساء اللاتي أنصفها التاريخ، وهي لم تفعل ذلك إلا بعد أن وضعت فرضيتها بطريقة رياضية، وراحت تبحث لها عن أدلة تؤكد صحة هذه الفرضية، كأني بحوار دار في نفسها أو مع أخرين أنكروا عليها هذه الفرضية قائلين “التاريخ محايد لا يعرف الانحياز”  كأني بها بحماسة امرأة في المقام الأول، وكاتبة في المقام الثاني راحت تدلل بأمثلة كثيرة على طول الرواية وعرضها، بداية من العصر الفرعوني وانتهاء بالعصر الحديث على صحة فرضيتها، صرختها كانت واضحة، فلم تهتم لأمر البطلة (دُرَّة) ولا لقضيتها، بل راحت تقص علينا طرفًا من هذه النساء اللاتي أغفل التاريخ ذكرهن فيمَا احتفى بالرجال فقط.

وليس غريبًا على بطلة جعلتها الكاتبة القصة الرئيسة في الرواية، ربما انتصارًا لها كأنها أرادت أن تقول لها “إذا كان العالم تغافل عنك، فأنا سأجعل صوتك مسموعًا في الأرجاء، لذا كانت هي صاحبة المبادرة في نقل أحداث الرواية، وهذا تقدير لدرة كنموذج للنساء.

ليس غريبًا على هذه البطلة التي تدرس في كُلَّية الآثار والمهتمة أساسًا بالتاريخ. ليس غريبًا عليها أن تسوق كل هذه النماذج النسائية التي غفل عنها التاريخ، فقد كان ذلك منطقيًا جدًا في أثناء قراءتنا للرواية، ولذا فقد ضفرت الكاتبة التاريخ العام والمتغافل عن الاحتفاء بالنساء مع التاريخ الخاص لدرة التي يتغافل عنها المجتمع، مُتمثلًا في أخيها الجاهل الجهول، غليظ القلب والذي اختارت له اسمًا مُشتقًا من غلظته، فأسمته أبا حطب، بما للاسم من دلالة قاسية منفرة.

نعود إلى البطلة المهتمة بالتاريخ، والتي ضفرت العام بالخاص، وطرحت الأدلة الدامغة على صدق فرضيتها القائلة بأن التاريخ أيضا ذكوري النزعة، والدليل على ذلك كل الأسماء التي طرحتها مثل جاذبية صدقي، وعاتكة الخدرجي، ونفرتيتي، وزينب فواز، وأليفة رفعت، وجليلة رضا وصوفي عبد الله، وفلوري عبد الله، والمهندسة ليلى عبد المنعم، والملكة نيتوكريس، و لالا فاطمة نسومر، الأميرة شويكار، الأميرة سميحة، واوليفيا عبد الشهيد، وإنجى أفلاطون، نازك الملائكة، لبيبة هاشم.

هل فغرت فاهك بعد قراءتك لكل تلك الأسماء؟

هل تعجبت كيف لا نعرف عن كثير منهن إنجازاتهن؟

أظن أن هذا يكفي الكاتبة، وكأنها تقول في نفسها “هل صدقتم الآن! العالم كله ذكوري النزعة بما في ذلك التاريخ؟

الكاتبة إذن تطرح كل هذه الأسماء ليس على سبيل الفخر بمعلوماتها ولا التباهي بقدرتها الهائلة على البحث، بل تطرح كل هذه الأسماء لأنها شعرت مع كل واحدة منهن أنها امتداد لها، كأنها كانت تحلم أن تكون إحداهن؛ بما لها من إنجاز وبزوغ، ولكن ما يفيد اذا كان التاريخ نفسه ذكوريَا، انظر معي إلى هذه الجملة التي تلخص بها الكاتبة موقف البطلة من التاريخ (ماذا سيكتب عني التاريخ الذكوري؟ أنا دُرَّة؛ ربما أكون لا شيء ولكن التاريخ الذكوري لا يعبأ بتاء التأنيث، لا يسود صفحاته بكلمات مثل: هي، هن).

انتهى الاقتباس الملخص للفرضية التي أثبتت الكاتبة صحتها، ولكن يبقى سؤالًا محددًا: إذا كان التاريخ ذكوريًا إلى هذه الدرجة في التغافل عن ذكره للنساء، فمن أين استقيت كل هذه المعلومات لولا أن التاريخ احتفظ بها لنا؟

ربما كانت الكاتبة تقصد أن تناول التاريخ هو تناول ذكوري، أما التاريخ نفسه فإنه لا يعرف الانحياز، فالتاريخ دفتر كبير يقبل كل من يدون فيه حكايته وإنجازه.

ولأن الكاتبة تتبنى قضية المرأة المظلومة من الذكور والمجتمع والتاريخ، فقد كان لا بد من انتصار معنوي تمثل في عذابات شديدة، لقيها مروان ذلك الذكر المتجبر، فقد صنعت الكاتبة مصيرًا مأساويًا له، عندما جعلته لا يهنأ بما جمع من مال أكله سُحتًا من حقها في ميراث أبويها، ثم جعلته لا يهنأ بنوم ولا ينعم بهدوء، بعد أن تكالبت عليه الكوابيس والأحلام المفزعة، ثم كان الانتصار الأكبر متمثلًا في أمرين: الأول أن كل هذا العذاب كان على أيدى بعض النساء التي يحتقرهن البطل. والثاني أنه تحول إلى امرأة ذات صوت رفيع لها نهدان كبيران.

رحلة شيقة حلقت بنا فيها الكاتبة في سماء الألم النفسي والمعنوي، الذي تعاني منه المرأة العربيةعمومًا.

لحقت بنا في لغة فصيحة في جل الرواية، فيمَا عدا بضعة أسطر متناثرة هنا وهناك.

حلقت بنا بين قصة حب عفيف بين مدرسها الجامعي، وبينها ذات الروح المحلقة بالتوازي. حكت لنا من تاريخ الفراعنة التي تعتز بهم البطلة، وأظن أن الكاتبة تبادلها الإعزاز نفسه.

أعجبني أن الكاتبة قسمت الرواية إلى قسمين: القسم الأكبر كان من نصيب دُرَّة، وهو انحياز مقبول لبني جنسها. والقسمة الأصغر الذي لا تتجاوز أربعة فصول صغيرة.

 فيمَا تمتعت دُرَّة بعشرين فصلًا كاملًا تامًا.

أزعجتني الأخطاء اللغوية التي لم تخل صفحة في الرواية منها.

 لم أتعاطف بقسمة العمل إلى قسمين.

 شعرت في النصف الثاني من الرواية كأني بصدد قصة قصيرة تخص مروان، وددت لو دار الصراع جليًا على عيني دُرَّة، لتشهد كيف أصاب أخوها لعنتها المتصلة مباشرة، بلعنة أجدادها الفراعنة.

أوبرا مصردراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى