الرسالة الزياتية (1-2)
تلك خزانة تراثية، وديوان معرفي من دواوين العرب الحديثة، وتحفة أدبية في عصر نهضة الأدب الحقيقية، لم تستطع أيّ مجلة أن تملأ فراغها بعد توقفها، فهي حالة فريدة من المجلات الأدبية الأصيلة التي لم تتكرر، أصدرها الأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات عام 1933م، فصارت صوت الثقافة، ونداء المعرفة، وحاضرة العربية في مصر والعالم العربي أكثر من ربع قرن في مرحلتيها الأولى والثانية بأعدادها التي بلغت في المرحلتين (1121)، صدرت في بداية أمرها نصف شهرية من العدد الأول إلى العدد الحادي والعشرين، ثم صارت أسبوعية تصدر كلّ يوم الاثنين، يتلهف محبو الأدب والثقافة وقت صدورها بكل شوق.
وإذا كان حالي أثناء قراءة “الرسالة” أنني أنتظر انتهاء المقال بفارغ الصبر لأدخل في مقال آخر، أو أكمل الموضوع في عدد آخر، وهي مطبوعة بين أيدينا يمكن تصفحها بسرعة، لكن يبقى أن بين كل عدد وعدد آخر اشتياقاً ومحبة بالغة، فأعاملها معاملة المجلات المطبوعة الأسبوعية؛ لأعيش حالة من الأمان الفكري، والسلام الثقافي، أعترف أني لم أجدهما في غير “الرسالة”، وأتساءل كيف حال هؤلاء الذين عايشوا الرسالة، وأخذوا من معين كتابها الكبار، وصحبوا روادها، وتلقوا عنهم، وكانوا ينتظرون صدور “الرسالة” مع كل أسبوع، وقد أخبرني أستاذي الراوية محمد رجب عن حالته النفسية مع أصحابه وهم ينتظرون بكل شوق وتلهف العدد الجديد من المجلة.
احتجبت “الرسالة” في مارس عام 1953م، فبكاها الأدباء وندبها القراء، ثم عادت مرة أخرى عام 1963م إلى أن توقفت نهائياً بفعل عوامل كثيرة أرادت لها الحجب والتوقف عن عمدٍ عام 1965م، وفي مدة احتجابها الأولى صدرت مجلة “الرسالة الجديدة” لتسدّ مسدّ رسالة الزيات، فصدرت شهرية عام 1954م حتى عام 1958م برئاسة تحرير يوسف السباعي، لكنّها لم تستطع أن تملأ الفراغ الثقافي الذي أحدثه رسالة “الزيات”، فهيهات هيهات.
ومما يجدر إليه التنبيه أن مجلة الرسالة من العدد (22) إلى العدد (238) صدرت باسم “الرسالة الشابة”، وكتب في العدد (22) تحت مقال الزيات الافتتاحي تنويه، جاء فيه: “ابتداء من هذا العدد تصدر الرسالة يوم الاثنين من كل أسبوع”، وفي سنة 1940م ضمت إليها مجلة “الرواية” وهي أيضاً للزيات، ليصبح اسمها “الرسالة والرواية”، وهي الرسالة خلال الحرب العالمية الثانية، وظلت تصدر أسبوعية إلى أن توقفت.
قامت محاولات دقهلية جادة فيما بعد بسنوات من أهل “المنصورة” -بلد الزيات ومخزن الحضارة ومنبع الحياة الثقافية- لإعادة إصدار مجلة “الرسالة” مرة أخرى؛ إكمالاً لمسيرته الثقافية، وتخليداً لذكراه، وحفاظاً على مجلته الحضارية، وإبقاءً لمشروعه الأدبيّ الفريد، فصدر أول عدد منها في فبراير سنة 1982م برئاسة تحرير أحمد أبو العلا. جاء في مقال رئيس التحرير الافتتاحي: “اليوم تعود “الرسالة” للصدور للمرة الثالثة. فقد صدر عددها الأول في 15 يناير عام 1933 واحتجبت في فبراير 1953 وفي 25 يوليو 1963 عاودت الرسالة الصدور ولم يكتب لها الاستمرار في البقاء. لكننا اليوم نعاود إصدار “الرسالة” لتؤكد أن الدقهلية التي أنجبت “أحمد حسن الزيات” الذي وقف يقدم الأنواء والعواصف في استمرار المجلة لقادرة على إنجاب العشرات من الزيات وهيكل ولطفي السيد والهمشري وغيرهم ممن أنبتتهم هذه الأرض الطيبة المعطاءة. والرسالة العائدة ستصل ما انقطع في جهادها في هذا الطريق الذي أوفى بها على هذه الغاية”.
لم تلبث “الرسالة” في إصدارها الرابع إلى أن انقطعت، بل سقطت نسياناً، وربما لعدم معرفة بها من مؤرخي الثقافة الذين كتبوا عن رسالة الزيات، فيبدو أن صدورها الإقليمي كان أحد عوامل عدم إلمام الناس بها، أو الحماس لها، مع أنه كتب فيها بعض الكبار من كُتّاب الرسالة القدامى؛ كأستاذي العلامة محمد رجب البيومي، ففي عددها الأول كتب مقالاً نفيساً بعنوان: “الزيات .. صاحب الرسالة” ابتدأه بقوله: “أحمد حسن الزيات علمٌ من أعلام الأدب المعاصر، والتعريف به على قدر مكانته في العلم والأدب والصحافة والتأليف يقتضي كتاباً خاصاً يشرح مواهبه ويعد مزاياه، فقد كان الرجل في جيله ملء السمع والبصر”.
وأما عن قيمة مجلة “الرسالة” عند الأدباء فلا أجد وصفاً لها أفضل من وصف الأستاذ محمود عباس العقاد؛ إذ كتب على صفحات الرسالة في عددها (707): “كلمة الرسالة من الكلمات التي يستشهد بها على تطور الكلمات في معانيها ودلالاتها على حسب أحوال الزمن ومناسباته، فالرسالة مكتوب يرسل من إنسان إلى إنسان، والرسالة دعوة دينية يؤيدها رسول من الله، والرسالة مهمة من مهام الإصلاح والإرشاد، والرسالة في المصطلح الحديث كتاب صغير في بحث وجيز، والرسالة اسم هذه المجلة التي تجمع بين هذه الدلالات ما عدا الرسالة السماوية التي يختص بها الرسل من الأنبياء”.
ولقد أخبرني أستاذي الأكبر محمد رجب البيومي عن أستاذه زكي مبارك أنه كان يكتب المقال فاتراً مضطرباً ببعض الصحف والمجلات، حتى إذا ما كتب بمجلة “الرسالة” كان مقاله أنس الفؤاد وبهجة العين وذهاب الهمّ، وبقي السؤال المحير كيف يتفق هذا الصنيع مع اتحاد الكاتب والموضوع؟
نعم اتحد الكاتب والموضوع، لكن لا يلزم من اتحادهما أن تتحد المجلتان، فالفرق بين الرسالة وغيرها كالفرق بين الثرى والثريا، وحماس الكُتّاب لما يكتبونه في “الرسالة” ليس كحماسهم في أيّ جريدة أخرى، فإنّما ولدت الرسالة عظيمة قوية، حتى إذا ما جاء يوم حجبها حجبت وهي عظيمة عزيزة، فالرسالة تراثٌ ثقافيّ لا يبلى على مر الأيام واختلاف السنين.
الرسالة الزياتية (2-2)
كان من عادة الأستاذ أحمد حسن الزيات أن يقسم كُتّاب “الرسالة الزياتية” إلى درجتين: مبتدئ، ويوضع تحت عنوان مقاله “للأديب”. ومتمرس، ويوضع تحت عنوانه “للأستاذ”. وأما أستاذنا البيومي فقد وضع اسمه فقط تحت عنوان مقاله الأول، وهو طالب في المعهد الدمياطي، وكان رداً على الأستاذ عبد المتعال الصعيدي، ثم بعد ذلك كان يضع تحت عنوان مقاله “للأستاذ”، ووضع تحت مقاله “عمر بن الخطاب الأديب” للشيخ محمد رجب البيومي عدد ديسمبر سنة ١٩٤٦م، واستمر لقب الشيخ ملازماً لمقالاته إلى مقال “عدالة قاض” فكتب تحته “للأستاذ محمد رجب البيومي عدد ١٥ يونيو ١٩٤٩، وحينما كتب أستاذنا مقالاً عن زكي مبارك وضع الزيات تحت عنوانه “بقلم تلميذه وصديقه الأستاذ محمد رجب البيومي”.
ولعلّ سر قوة الرسالة يرجع في المقام الأول إلى قوة الزيات الأدبية وشخصيته المتميزة في الإدارة وتحمل الأعمال الجليلة بكل قوة وصبر، وتفرغه التام لمشروعه الثقافي، ثم إلى طبيعة جيل الرواد الذين أثروا الرسالة بالكثير من الأعمال والكتابات الجادة، فكتب فيها أساطين الأدب وكبار رجال الأمة العربية، ومن الصعب الشديد الإلمام بجميع أسماء الكبار الذين كتبوا في الرسالة، لكني على يقين أن ما يجول في خاطرك من أسماء الأدباء والكتّاب والشعراء والمفكرين سواء أكانوا من مصر أم من خارجها هم على اليقين من كُتّاب الرسالة وروادها، فالرسالة إذاً ليست مجلة فحسب، بل هي مدرسة لها كتابها ومدرسوها وخريجوها ومحبوها وناصروها، أضف إلى ازدهارها الحالة الثقافية المجتمعية العامة، وهو سبب قلّ من يلتفت له، وقد أشرت سابقاً في مقالي “طبقات مصححي المقالات” إلى شيء من ذلك فكتبت: “وهنا أستعير كلام عباس خضر عن حكمة ذلك في قوله: “إن أفلت خطأ برز له في “بريد الرسالة” مَن يأخذ بخناق الكاتب من أجله”، فلو فات الخطأ عليهما وَصلَه تصويبه والكلام عنه في “بريد الرسالة” من فئة القراء والمثقفين، وهذا يجرنا إلى الحديث عن وجود فئةٍ مستترة ٍكانت تتلقى هذه المقالات بالقراءة والاطلاع ونقد ما فيها، وكم وصلت رسائل كثيرة إلى الزيات من جمهور القراء في نقد أو تصحيح بعض المعلومات، وهذا يبين لنا الحالة الراهنة لجمهور القراء من التشبع بالثقافة، وامتلاك أدوات التقييم، وإبداء الرأي، مما جعل الكُتّاب يخجلون من وقوع أخطاء في كتاباتهم؛ لأنّ النقاد والقراء لن يرحموهم حين وقوع أيّ خطأ، ولو كان سهواً”.
للرسالة الزياتية أنصار ومحبون من شتى البلدان تأثروا بها وكتبوا عنها، فكتب الأستاذ علي الطنطاوي في كتابه (الحياة الأدبية في دمشق) عن الرسالة وتأثيرها الثقافي في المجتمع الدمشقي بقوله: “لا تجد في دمشق أديباً أو متأدباً إلا اعترف لك بأنّها خير مجلة أخرجت للناس، وأنّ العالم العربي لم يعرف مجلة مثلها منذ أنشئت أول مطبعة في مصر، ولا تجد أديباً أو متأدباً إلا وهو ينتظر يوم الثلاثاء ليقرأ الرسالة، وبعد ذلك كله يباع من أعداد الرسالة في دمشق كلها أقل من خمسمائة عدد”.
وكان أستاذنا (بالإجازة) المؤرخ الجزائريّ الشهير عبد الرحمان بن محمد الجيلالي منكباً على مطالعة مجلة الرسالة، ويعدها أكبر عامل في تكوينه الأدبي والمعرفي، وتقويم أسلوبه، ويحث سائليه على قراءة النصوص الأدبية من مجلة “الرسالة” بصفة منتظمة، ولشيخنا بالإجازة عبد الرحمان شيبان عناية خاصة بالرسالة ورائدها الزيات، فكان كثيراً ما يترك في معهد “عبد الحميد بن باديس” بقسنطينة الكتب المقررة على طلاب المعهد في مادة الأدب العربي، ليستبدلها بنصوص مختارة باعتناء من مجلة “الرسالة”، ومن كتاب “وحي الرسالة” للأستاذ الزيات، وقد أشار إلى ذلك أ.د مولود عويمر في مقالته “مجلة الرسالة في الجزائر”.
لعبت الرسالة دوراً مهما في حياتنا الأدبية المعاصرة، فلها في كل فرع من فروع الثقافة مشاركة وجهود، وباتت مصدراً من مصادر الأدب ودراسته، ولم تقتصر على نشر النصوص الأدبية، بل أتبعت الأدب بالنقد والتقييم والمساجلات والمعارك الأدبية، وجاوزت الأدب العربي إلى الأدب العالمي فنشرت الكثير من الترجمات للآداب العالمية المختلفة، أضف إلى ذلك الدور الثقافي والفكري والأثر الاجتماعي المنوط بالرسالة وروادها، فتعلق الكبار قبل الصغار بمحتوياتها، ولا ننسى دورها المستمر في الدفاع عن قضايا الأمة والعروبة، وموقفها من قضية “فلسطين” النابع من إيمانها الصادق.
ومن أبرز حسنات الرسالة -من وجهة نظري- خروج كثير من المصنفات من رحمها، فهي مصدر إلهام، وتحفة أدبية رائعة، ونبع عطاء منذ صدورها إلى وقتنا الحاضر، فـــ”وحي الرسالة” للزيات أصله مقالات فيها، وكذلك “وحي القلم” و”كلمة وكليمة” كلاهما للرافعي، وغيرها، بل لم تتوقف حركة النشر الحديثة المعتمدة على مجلة “الرسالة” وصاحبها وكُتّابها، فلأحمد صابر أحمد جاب الله كتابه “المقالات النحوية في مجلة الرسالة”، ولعبد الرحمن بن قائد “ذكرى عهود .. أشلاء سيرة ذاتية للأديب الكبير أحمد حسن الزيات”، جمع فيها مقالات الزيات التي تكلم فيها عن نفسه وشيء من سيرته، ورتبها على عهود حياته، وللقاضي فهد بن عبد الله آل طالب كتابه “المقالات القضائية من مجلة الرسالة”، وقد أخبرني مؤخراً صديقي الشاعر الأستاذ محمد دحروج أنه بصدد نشر المعارك الأدبية التي كانت بين كبار أدباء القرن الماضي على صفحات مجلة “الرسالة” مع التعليق عليها بشيء من التفصيل، ومن المحتمل أن يخرج كتابه في عشر مجلدات.
بعد كلّ هذا يراودني سؤال مهم، وهو لماذا تفوقت الرسالة؟ وما سرّ بقائها في النفوس إلى هذا الوقت؟ وما سبب عدم قدرة أيّ مجلة على سد ذلك الفراغ الثقافي؟
من عوامل نجاح الرسالة وبقائها كما يرى أستاذنا محمد رجب البيومي هو زمن صدورها، فالوقت كان له الأثر البالغ في تقدمها، حيث: “كانت الفترة التي ازدهرت بها “الرسالة” من أقوى فترات النهوض في أدبنا المعاصر؛ لأن الزيات ممن يعرفون حدود المقالة الناجحة، والبحث العلمي الموفق، والقصة الهادفة، والنقد المنصف، يعرف حدود هذه الأجناس الأدبية ليطبقها على ما يفد إليه من الأدباء، فهو لا يرحب بالمقالة التي تتسع مقدمتها، ويضيق عرضها، وتخفى خاتمتها، فإذا سألته عن رأيه فيما أهمل أجاب في أدب لا يخدش، وصراحة لا تؤذي، ثم هو لا يرضى بالبحث الذي يقتصر على الجمع الحاشد دون أن يضيف الجديد أو يجنح إلى التحليل والموازنة، ولا يهش إلى القصة أو القصيدة إذا نزل مستواهما عن حد يراه جديراً بعقول القارئين. وكان يصرح في كل مناسبة أنه لم يجعل “الرسالة” ميداناً للتمرين، وإذا كان لا يستطيع أن يشجع الضعيف بالنشر فهو كذلك لا يجامل القوي إذا تهاون”.
ولأنّ الزيات في المقام الأول ذو مشروع ثقافي، يمتلك أهدافاً واضحة لا يحيد عنها مهما كلفه الأمر، وحريص أشدّ الحرص على تقديم الكتابة الراقية التي تزدهر بها العقول، وتزيد من ثقافة قارئيها، فلا يجامل أحداً في ذلك، وليس عنده أدنى مشكلة أن يرجع المقال الذي يرى عدم وجود فائدة من نشره، مخبراً صاحبه بتلك الكلمات الديبلوماسية: “يا أخي أنت تكتب مقالك في الظهيرة بعد إجهاد العمل اليومي، وأنا أحب أن تعيد كتابته في هدأة الليل أو في مشرق الصباح”، فهو على حد تعبير أستاذي البيومي: “كان بذكائه في سياسة الأدباء يسلك مسلك الديبلوماسي الرقيق”.
تفرغ الزيات لأعمال المجلة، ومن عادته الأسبوعية أنّه يقرأ بريد “الرسالة” على شاطئ النيل، فإذ ما وجد رسالة نافعة حبسها، وإذا وجد رسالة تافهة رمى بها في شاطئ النيل، إلا أنّ هذا لم يُرض بعض الكُتّاب؛ كعباس خضر، فتهكم عليه بقوله: “إذا كان نهر دجلة بالعراق قد أغرق مكتبة بغداد حين قذف التتار بمجلداتها إلى النهر، فإن نهر النيل قد شارك أخاه حين رمى الزيات بمئات القصائد والبحوث في موجه المتدافع”، وتعقبه أستاذنا محمد رجب البيومي في كتابه: “من أعلام العصر” بقوله إنّ: “الزيات لم يكن يرمي غير الركيك التافه”.
كم نحاول أن يكون للرسالة الزياتية حَفَدةٌ وحفيداتٌ، لم نستطع! ولكلّ مثقف في حياته الثقافية ركن يستريح فيه، وبيت يلجأ إليه، لن يجدهما إلا في “الرسالة” القريبة إلى كلّ نفس، والحبيبة إلى كلّ قلب!