الأديب القدير عبد الزهرة عمارة يكتب بغداد لن تموت
دق جرس الهاتف …
ارتعشت يداه … أضطرب قلبه … رفع سماعة الهاتف بخوف شديد…. نطق لسانه وهو يرتجف
ــ ألو
جاءه الصوت من الطرف الأخر
ــ الأستاذ كامل
ــ نعم.. من المتكلم ؟
ـ أحضر حالا الى دائرة الطب العــــــــدلي في باب المــــعظم فورا ؟
تلعثم وبصوت خافت قال
ــ الطب العدلي !
وأراد أن يقول شيء لكن الصوت أنقطع من الطرف الأخر….
صمت قليلا … أحس بأعياء شديد .. نهض واقفا … سقطت سماعة الهاتف من يده ..
تسمر أفراد العائلة وهم يسمعون الأب يقول الطب العدلي .
تنحنح الأب وتظاهر بعدم المبالاة أمام أفراد العائلة .
لم يكترث وسرعان ما خاطبهم
ـ نطلب من الله العون والصبر … سأذهب الى دائرة الطب العدلي .. نأمل أن يكون خيرا
أستقل سيارته السوبر وأنطلق كالصاروخ … مخابرة تليفونية وقعها قاسي ..
التهم الطريق الفرعي كالأفعى وعطف على الشارع الرئيسي
أزدحم شارع الرشيد بالمركبات ..
تناثرت أفكاره .. سمع دقات قلبه المضطرب نظر الى الشارع بعمق خوفا من وقوع شيء لا يحمد عقباه .
أنهى شارع الرشيد وعرج الى ساحة الميدان ومنها ركب الطريق السريع وقلبه واجف وهو يتلو أية الكرسي والمعوذتين …
لاحت من بعيد مدينة الطب شامخة كشموخ الجنائن المعلقة وما هي ألا دقائق حتى وصل مدينة الطب التي ينزوي تحت لواءها دائرة الطب العدلي .
ركن سيارته في الكراج وهرول مسرعا … أستقبله الطبيب الذي أخذ يشد على يده وهو في طريقه الى ثلاجة الموتى.
ـ تمالك أعصابك … سيطر على أتزانك … الموقف جد خطير …
صمت الطبيب قليلا ثم تابع حديثه أما كامل لم ينبس ببنت شفة
ـ مجموعة من الجثث … أربعة من الطلاب وصلت قبل ساعات نريدك أن تتعرف على أبنك عباس …
أقترب الطبيب من الثلاجة وأردف يقول
ـ رغم أن الجثث متعفنة ومشوهه لكن بالإمكان تمييز ملامحها
ومد بيده ليفتح الجرارة الأولى …نظر كامل اليها وأدار وجهه وأشار بيده ..
فهم الطبيب معناها .. لا .
فتح الطبيب الجرارة الثانية والثالثة والرابعة وهي الأخيرة وكان كامل ينظر ويكاد قلبه يخرج من بين ضلوعه وموجة عاصفة من القلق والألم تعصف في صدره …
ـ الحمد لله … لم يكن معهم
شكر الطبيب الذي أوصله الى عتبة الدائرة…
صافحه وشكره مرة ثانية وغادر مدينة الطب قاصدا البيت بعد أن أطمأن وزال العبء الثقيل عن كاهله ولو مؤقتا حيث المصير المجهول الذي ينتظر ولده عباس الذي أختطف قبل ثلاثة أشهر .
أسترد قليلا من الثقة وتوقف عند بائع المشروبات الغازية ليشرب الببسي كولا ليطفئ النار التي استعرت في أحشائه .
عاود المسير وأقترب قليلا من البيت ..
رأى جمع غفير من الناس أمام الدار تمتم مع نفسه بصوت مسموع
ـ ربما ينتظروني لمعرفة الأخبار
أقترب أكثر فأكثر… فتح عينيه على مصراعيها … بحلق ولم يقل شيئا
سمع بكاء وعويل …. صراخ وزفرات ….
عندها ركن السيارة على جانب الطريق وهرول مسرعا نحو الدار …
أصطدم بالرجال … دارت وجوه الناس الحزينـــة صوبه . صرخ بدون وعي
ـ ما الخبر؟
جاءه الصوت خافت
ـ البقية في حياتك
لطم على وجهه … ثار وزعق وصرخ …… مرغ وجهه بالتراب .
شق طريقه بصعوبة نحو فناء الدار … رأى أبنه عباس مسجى على الفراش وأثار طلقات نارية على وجهه والتعذيب ظاهر على جسده .
أرتمى عليه … أحتضنه بقوة .. ضمه الى صدره … عانقه بحرارة والدموع تنهال على خديه ساخنة حرى
شمه بعمق .. قبله عدة مرات وصرخ بصوت حزين
المجرمون … قتلوك يا ولدي … القتلة .. لعنة الله عليكم أنتم القادمون من وراء الحدود … أنتم أصحاب اللحى الطويلة تريدون خلافة إسلامية في بلدنا … الأجدر بكم أن تؤسسوها في بلدكم يا أوغاد … تبا لكــــم اللعنــة عليكم
ثم هدأ قليلا …
رفع رأسه الى الأعلى متضرعا الى الله
ـ يا رب نطلب منك الصبر والأنتقام
تراجع قليلا وألف أم عباس تلطم على صدرها وتنوح نياح الثكالى .. نظر اليها بنظرة عين باكية دامعة وقال بلهجة حزينة
ـ لا تبكي يا أم عباس .. لا فائدة من البكاء … كل شيء أنتهى …. لقد سرقوا ابننا … سرقوا وطننا … سرقوا أرضنا .. سرقوا خيراتنا …. سرقوا أطفالنا ….. ألا لعنة الله عليهم هؤلاء القتلة
صمت قليلا واردف قائلا وبحزم
ـــــــ لكن بغداد لن تموت … لن تقتل .. ستنهض من جديد وستبقى قلعة الأسود
نهض متثاقلا وأمسك بعصا وتوكأ عليها …
ثقلت قدماه …أرتعش بدنه … سقطت العصا …
ترنح ثم سقط مغشيا عليه .