أخبار عاجلةدراسات ومقالات

عوني سيف يكتب ثمة أحزان صغيرة لمنال رضوان التناص بين دروب الشعر وطريق الآلام

النص:-
ثمة أحزان صغيرة ولا شيء
(١)
جُلجثة
مزدحمة طريقي إليك بالكلمات
الآلام كنقوش من أحمر قان
تئن كتفي كفك تعتصرني حد الثُّمالة
ّولا خمر لدي!!
متسىربلة بالشوك أشير إليك
وبنصف لعنة أساق إلى جُلجثة.
(٢)
لا تنزعج
ثمة أحزان صغيرة ولا شيء
ثلاث نساء
ورابعة مشدوهة عند باب القبر!
(٣)
يطيب لخطاياك
أن تئتزر بوريقات
يطيب لجسدي أن ينزع عنك غطاءك..
لتصير…
موسوما باللعنات!!
القراءة:-
عتبة النص “ثمة أحزان صغيرة و لا شيء”
فى هذه العتبة ليست لكل كلمة دلالتها الفعلية؛ عندما نتعمق فى النص نجد أن هذه الأحزان كبيرة وليست صغيرة بحال وهذا لا يعيب النص؛ إذ أن الشاعرة تقمصت النفس البشرية التى كثرت عليها الأحزان، فصارت تعتبر كل ما مضى ما هو إلا أحزان صغيرة لا تستحق عناء الذكر أو التفكر، وهذه العتبة هى عتبة كبيرة تليها ثلاث عتبات صغيرة لهذا النص القصير الممتع، الذى صاغته منال رضوان و رسمت صورة مشهدية تناصية دالة عميقة المعنى.
١ – جلجثة.
تشير الجلجثة فى الأدب إلى مكان تجمعت فيه الآلام، والناس شهود، ينتظرون ويرمون أبصارهم نحو فكرة الخلاص أو الأمل. الجلجثة ليست مكانًا للعقاب فقط، بل هى التضافر والتشابك والتلاحم للمشاعر الإنسانية المتناقضة من حزن و ألم و أمل ترنو إليه؛ لتغيير الحالة أو تصويب المصير.
النفس البشرية الملكومة والمظلومة تسير بطريق مليئة بالكلمات، ربما هذه الكلمات تصلح للموساة الذاتية. الآلام والظاهرة للعيان؛ أى المطبوعة فى الذاكرة أيضاً، لذلك طفت للخارج و أصبحت واضحة لا التباس فيها.
تشبيه الآلام و الأحزان بالنقوش من الأحمر القان، فالنقوش الحمراء يمكن تأويلها أنها علامات السوط للتجارب الحياتية التى تجلدنا طوال حياتنا، وهنا تناص مشهدى كامل لصورة جلد المسيح:
الكتف تئن مما تحمله من تجارب الحياة، ككتف المسيح عندما حُمِلَّت بالخشبة، هذا لم تقله الشاعرة صراحةً؛ وإنما هو جزء ضمنى في هذا المشهد التناصى والتكنيك الذى استخدمته أديبتنا الرائعة.
و ما الذي يخدر الآلام الجسدية وربما النفسية ويسكت أنينها إلا الخمر المعتق؟!
فى هذه الصورة الشعرية المستوحاة من تاريخ قديم يتعدى الألفي عام ، فالنفس البشرية وحيدة بدون شئ يخفف عنها ، ولهذا جاءت جملة “و لا خمر لدى”.
الأديبة و الشاعرة منال رضوان رسمت تناصاً كاملاً يحمل مخاتلة فيما بين مشهد عرس قانا الجليل وافتقار الندماء إلى الخمر، رمزا لافتقارهم الود أو الرحمة أو الخلاص من الآلام الجسدية والنفسية لتعبر عن طريق كلمتي (متسربلة – الشوك) والذي يمثل استدعاء لمشهد طريق الآلام الشهير،
وعبّرت عن تعب البشرية التى ترنو إلى ما يخفف عنها . و هذا التناص يوضح لنا توضيحاً جلياً أن الشاعرة ذات ثقافة واسعة بالأديان السماوية وكتبها المقدسة والكريمة
ونصوصها و سوّرها. فقد جاء في القرآن الكريم في خواتيم سورة البقرة ( قل آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله.. ) كما جاء فى القرآن الكريم أيضًا في سورة البلد ، أية (٤) ” خلقنا الإنسان فى كبد”.
أوضح الله جل جلاله ، تبارك وتعالى اسمه، أن النفس البشرية تعيش حالة آلام مستمرة، فما الحياة إلا عناء . وقد ذهبت أديبنا الرائعة للمعنى ذاته حينما قالت :
متسربلة بالشوك اشير اليك،
و بنصف لعنة أساق إلى جلجثة.
هذان بيتان يعطيان معنى الآية الكريمة نفسه؛ إن البشرية مهما حاولت التخلص من الأشواك ، أى الآلام سوف تساق إلى جلجثة، وربما لا تجد السعادة على هذه الأرض ، أو كما قال نيتشه “لا سعادة إلا وراء القبر”.
كما تدل الأبيات أيضاً يدل هذا على درايتها بالآداب العالمية الإنجليزية و الأيرلندية والفرنسية والروسية .
ففى الآداب الحديثة الكثير من الأدباء نجدهم وقد تأثروا بصورة آلام المسيح التى سُيّق فيها إلى الجلجثة، أو رسموا شخصية ما فى أعمالهم الأدبية تتناص مع شخصية المسيح، و الأمثلة كثيرة، لكن سوف أذكر بعضها:-
– الأبله رواية كتبها الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي في القرن التاسع عشر، بين عامي 1868 و1869، استخدم الكاتب شخصية تتناص مع شخصية المسيح وهو برنس ميشكن Prince Myshkin
– جورج مور الأديب الأيرلندي George Moore استخدم هذا التكنيك فى رواية The Brook Of Kerith.
– نيكوس كازنتاكياز Nikos Kazantzakis استخدم صورا من حياة المسيح فى روايته الأغواء الأخير .
The Last Temptation.
عزيزي القارئ، أو الناقد، هنا أبدعت الشاعرة منال رضوان فى نصها الشعرى القصير، بهذا التناص سالف الذكر ، إبداعا لم يبدع مثله إلا كبار الأدباء.
٢ – لا تنزعج.
ثمة أحزان صغيرة و لا شيء ،
ثلاث نساء
و رابعة مشدوهة عند باب القبر.
هنا التناقض الجميل يفهمه من فهم التناص السابق.
عندما تجتمع أربع نسوة، إذن هناك ما يستحق بالتأكيد.
تقول الشاعرة “رابعة مشدوهة” هذا يدل على أن النفس البشرية حينما يعطيها الله الصبر حتى الشفاء ،سوف تجد كامل الأمل لكل أحزانها ولتذهب عبارة نيشه إلى الجحيم.
و نستخرج شيئاً آخر لم تقصده الشاعرة فى كلمتي “رابعة مشدوهة” إذا افترضنا هنا أنها تقصد رابعة العدوية الصوفية ، عندما عشقت الله فهل وقفت مشدوهة؟ أم تقصد تلك الخطيئة من تردد وتأرجح بين الحياة والموت، الخير والشر، يمكن أن ينفتح النص هنا على عدة تأويلات حاضرة ماثلة تنضح السطور القليلة بها.
٣- فى الجزء الثالث والأخير من القصيدة تجد النفس المتألمة تثور لكى تأخذ اليسير من حقها فى السعادة المنشودة؛ فتنزع الغطاء عن كل أسباب الآلام لكى تجعلها عارية، واضحة للجميع؛ فلا موت بعد الموت على أي حال.
تحية للشاعرة الرقيقة المثقفة، الأديبة الرائعة منال رضوان.

أوبرا مصر – دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى