خديجة مسروق تكتب الومضة الشعرية والومضة القصصية الشكل والتجنيس.
عرف الأدب العربي المعاصر شكلا أدبيا جديدا تولد مع عصر التكنولوجيا , يتميز بالاختزال و التكثيف , يتلاءم مع ذوق القارئ المعاصر الذي أصبح يجنح لقراءة الإبداع الأدبي على شاكلة ‘ الساندويتش ‘ .هذا الشكل الإبداعي الجديد يعرف بالومضة . وسمي بالومضة لأنه يشبه الوميض الخاطف في ظهوره . و هو سليل الإبداع الغربي .
الومضة بنوعيها الشعر و القصة , اللذان يتداخلان فيما بينهما إلى درجة الصعوبة بل الاستحالة في كثير من الأحيان التمييز بينهما .كما أن القصيدة الومضة تتداخل مع الهايكو ‘ العربية ‘ و مع القصيدة القصيرة . مثلما تتداخل الومضة القصصية مع القصة القصيرة جدا .بين هذه الأشكال ضاع القارئ والناقد على السواء ,و دخل الأدب العربي في متاهة التجنيس .
فماهي حدود كل نوع أدبي من هذه الأنواع المذكورة سابقا ؟
المعروف أن لكل نوع أدبي خصائص و مميزات ينفرد بها عن غيره من الأنواع الأخرى , و قواعد يستند إليها . فهل اتفق المبدعون العرب على خصائص معينة و محددة في كتابة هذه الأنواع الإبداعية الجديدة ؟
بالوقوف على ما يكتبه المبدعون العرب الذين أرادوا خوض تجربة إبداعية جديدة , نكاد لا نجد اتفاقا في عناصر الكتابة الأدبية للتجربة الجديدة المعاصرة , سواء فيما يخص كتابة الومضة بنوعيها الشعرية و القصصية , أو القصة القصيرة جدا , أو حتى الهايكو . نجد فضاء الإبداع مفتوحا على مصراعيه , متاح للجميع في غياب قاعدة كتابية لهذه الأنواع الجديدة. حيث أصبح كل من هبّ و دبّ شاعرا و قصاصا , و ساعد على ذلك الوسائط التكنولوجية المتاحة للجميع .
الأدب العباسي المعروف بانفتاح شعرائه على الثقافات الأجنبية , كان قد عرف شعر التوقيعة , الذي أحياه الكاتب الفلسطيني عز الدين المناصرة في ستينات القرن العشرين . حيث كتب قصائد سمّاها التوقيعة , ثم عدّل عن التسمية , وأطلق عليها اسم الومضة .منها ‘ وصلت إلى المنفى في كمّي خفي حنين / حين وصلت إلى المنفى الثاني سرقوا مني الخفين ‘ . والتوقيعة بالنسبة لمناصرة هي ومضة تحكمها المفارقة , و ليست كل ومضة توقيعة لافتقارها للمفارقة . لكن توقيعة المناصرة التي سماها بالومضة, كان الناقدان إحسان عباس و عزالدين إسماعيل اعتبراها قصيدة قصيرة , و لم يشبهانها بالومضة على الإطلاق .
ويتفق كثير من الدارسين على أربعة عناصرتخص قصيدة الومضة و هي : الإدهاش و التكثيف و الاختزال و الإيحاء .و هي خصائص تقوم عليها الومضة القصصية هي الأخرى .فكيف يتم التمييز بين الومضة الشعرية و الومضة القصصية ؟ كتب الشاعر العراقي أمين جياد ‘ غاب صوتك لبؤئة مجروحة / حضر صمتي محرابا مهيبا ‘ و كتبت الكاتبة المصرية سماح عبد العليم ‘ صدحت حناجرهم بنشيد الحرية , صفقت لهم المشانق ‘ . النصان يصعب تصنيفهما , إذا كان قد اطلع عليهما القارئ للمرة الأولى . يتشكلان من ثماني كلمات , دون وجود لأدوات ربط لغوية , و هما خاصتان يؤكد عليهما كاتبا الومضتين , مع الاختزال اللغوي و التكثيف و الإدهاش و الإيحاء .غير أن النص الأول يقول كاتبه بأنه شعر ,و النص الثاني تضعه كاتبته في خانة الومضة القصصية .
جميل حمداوي يرى أن ما يميز الومضة الشعرية عن الومضة القصصية هو عنصر الشعرية الذي يميز النوع الشعري عن النوع القصصي . لكنه تناسى بأن الشعرية تقوم على الإيحاء , والإيحاء مقوم أساسي في كتابة الومضة القصصية . هذه الأخيرة التي تتشابك مع القصة القصيرة جدا .
و قد اختلف النقاد و الدارسون في نظرتهم لعلاقة القصة الومضة بالقصة القصيرة جدا .هناك من يرى أن العلاقة بينهما علاقة تماهي و تآلف .و يرفضون الفصل بينهما . لكن البعض منهم يؤكدون على انفصال و استقلالية كل نوع منهما عن الآخر .غير أنهم لم يفصلوا في مسألة خصائص و حدود كل نوع أدبي من هذه الأنواع .فهل نص ‘ للبيع حذاء طفل لم يولد بعد ‘ قصة قصيرة جدا ,أم هي ومضة قصصية ؟ و هل يمكننا أن نضعها في خانة الومضة الشعرية بالنظر إلى خصائص هذا النوع الأدبي التي لا تختلف عن خصائص القصة الومضة ؟
مجمل القول, إن القارئ المعاصر للنص المعاصر المختزل ‘ الومضة بنوعيها و القصة القصيرة جدا و الهايكو العربية ‘ يملك الحرية بأن يصنف هذه الأنواع في الخانة التي يريد , إلى حين الاتفاق على قواعد وخصائص لكتابة هذا النوع من النص , الموسوم بالاختزال والتكثيف لدرجة تربك القارئ , و تضع أمامه مساحة غامضة منفتحة على كل الاحتمالات.