محمد عطية يكتب مصطفى نصر وجه إسكندرية المبدعة البشوش
الأديب والإنسان وجهان لعملة واحدة، لا ينفصلان ولا يغمط أحدهما حق الآخر ولا يجور عليه، تلك هي المعادلة الإنسانية/ الإبداعية التي تستولي على تفكيري عندما يُذكر “مصطفى نصر”، بارك الله في عمره، كواحد ممن تفتق ذهني وذاكرتي الإبداعية للإسكندرية عليهم، ومعه أسماء عديدة من الأساتذة المبدعين الذين رحبت الإسكندرية بإبداعهم فسكنوها، وكانوا خير ممثلين لها: الراحل “سعيد بكر”، والراحل “أحمد حميدة”، والراحل “محمد الجمل”، والباقون على قيد الإبداع والحياة متعهم الله بالصحة والعافية: “رجب سعد السيد”، و”سعيد سالم”، وغيرهم من الوجوه التي استقبلت جيلي الصاعد ونحن نتلمس أول الطريق في الإبداع..
وتبدأ تجربتي معه بهذا اللقاء العابر في قصر ثقافة الحرية، وهو يسمع إحدى قصصي التي كانت تقرأ في هذا اليوم، وإذ بي ألتقي أحد الأدباء الذين كانوا قريبين منه، بعدها، ويخبرني بأن الروائي “مصطفى نصر” الذي لم أكن قد تشرفت بمعرفته أشار إلي وأنا الشاب الصغير الجالس في حضرة كبار، جلسة المتطلع الطامح لأن أكون شيئا ما في يوم ما، وأشاد بمستوى ما أكتبه وبشر بي خيرا، هي عادة الكبار الذين لا يتاجرون بآرائهم ولا يجاملون علانية أو رياء، شيمة تعلمتها منه قبل أن أعرفه، فقد لمحت في هذا التصريح إنسانية وتواضعا؛ فالأديب والإنسان لديه مقترنان في ذهني بصورة واحدة تؤكد على مصداقية ما أؤمن به وأعتقده.. تتجلى البساطة في التعبير من خلال ملامح الوجه، كما هي من القلم عندما يعانق أسطر الورق لينتج إبداعًا يشبه ذات النفس البشرية/ الإنسان الذي تلتمس الكتابة قيمتها من قيمته الفكرية والفنية التي إن دلت على شيء فإنها تدل على إنسانيته المفرطة، وحساسيته تجاه الكون، وهذا شأن المبدعين الحقيقيين أينما كانوا وحسبما اختلفت ميولهم ومشاربهم.
حينما تقترب من “مصطفى نصر” الحكَّاء البارع الهادئ الوجه ونبرات الحديث التي تتسلل إليك دونما ملل، أو إطناب، وتدخل في عالمه السردي تجد نفسك أمام إنسان ينطق إبداعًا، وهو الحال عندما تقرأ رواياته وقصصه تشعر بأنه يقرأها لك وتسمعها بصوته وبنفس طريقته في الحكي والإلقاء الذي يأتي على استحياء ليميط اللثام عن مخبوء النفس البشرية، تمامًا كما ينفض الغبار، وهو يكتب عن كل ما تواريه وتغيره من سمات سعيا نحو استجلاء حقيقة كونية من عمق البداهة والبساطة الفطرية التي يتستنطق بها شخوصه.
أحيانا الكاتب يشبه شخوصه، وأحيانا هم يشبهونه، لكن “مصطفى نصر” يشبه حكاياته بالمعنى الأعمق والأنفذ لهذا المفهوم الكلي المتسع، فهو “مصطفى نصر” الذي توغل في أحياء الإسكندرية القديمة: “غربال”، و”جبل ناعسة”، و”الهماميل”، وغيرها في رواياته التي تعددت لتغطي مساحات واسعة ودروب باطنة من هذا الوطن الصغير “الإسكندرية” وفضائها وأجوائها العبقة بسحر خاص يميزها سواء بالقرب من البحر أو بعيدا عنه، حتى لتكاد تشم عبق هذه الأماكن يتنفس عبر سطوره، ومن خلال عينيه الوادعتين اللتين ترصدان الكثير والكثير من سمات هذا المجتمع التحتي، وتعبران عنه أيما تعبير حتى ليتجسد على الورق كما يتجسد من حكيه ساردًا بلسانه العليم..
وهو “مصطفى نصر” الموظف/ الإنسان الذي يعانق في قصصه القصيرة كل هموم الموظفين من البيروقراطية والتحجر وقلة موارد العيش، وكذا المواقف الإنسانية والحياتية، لينقلك بأجوائه التي عايشها أو عاصرها حتى لتكاد تستنشق هواء المكاتب المغلقة للموظفين ورائحة الورق والدوسيهات وأحبار الكتابة، وتسمع تكات الآلة الكاتبة في شركاتنا القديمة التي هرسها غول الخصخصة ومصائب الانفتاح، وهوس العلاقات الاجتماعية بين الجنسين في كل من المستويين اللذين يرفد أحدهما الآخر وربما يوازيه.
حينما أتحدث عن المرأة التي تكاد تكون موجودة وفاعلة في كل قصصه (تحديدا) كبطل للعمل السردي؛ فإنني أشم كل تلك الروائح المنطلقة من الأزقة والشوارع الجانبية للإسكندرية ومرتفعاتها ومنخفضاتها التي تسكنها الغواية والبراءة معا، والتي يسكنها الوافدون من الهجرة الداخلية التي جلبت للإسكندرية طعما ولونا مغايرا لنزعتها الكوزموبوليتانية التي خلفها الخواجات والأجانب والشوام وغيرهم، في تلك التوليفة التي تعبر عن الحياة بنبضها وسكونيتها على حد السواء، فالنماذج التي يسوقها الكاتب الواعي لا تعبر عن شريحة واحدة في مستوى متدن من العلاقات الإنسانية، بل تمتد لتشكل طبقات داخل تلك الطبقة التحية لتبرز الجوانب كلها بمتناقضاتها وسعيها نحو تكوين مساحة عريضة من الموزاييك..
في تحليلي المتواضع لإحدى مجموعاته القصصية الفاتنة “وجوه” اسنشعرت بحس الناقد والمتذوق معا تلك الموتيفات التي يلعب عليها إبداع “مصطفى نصر” القصصي التي تتفاوت درجات تأثير المرأة فيه بحسب الحالة الإنسانية/ الاجتماعية المرتبطة بالفضاء المكاني للإسكندرية، والمعبرة عن تلك العادات والتقاليد الجديدة التي انسجمت بها علاقة المدينة مع من وفدوا/ وفدن عليها ربما ليصبغوها بملمح من عاداتهم وتقاليدهم، ولتلونهم هي بعادات جديدة يتحكم فيه جو البحر وجو المناطق العشوائية التي ترتادها تلك الشخصيات فتسكنها أو تسكنها إياها.. لتخرج تلك الكائنات إلى النور من خلال النصوص القصصية التي تستمد قوة حضورها من سرد متماسك أقرب إلى الحقيقة وأكثر التصاقا بخيال كاتب لا يؤلف بقدر ما يشعر بنبض تلك الشخصيات وشجونها وإيقاعها النفسي المتحكم فيها..
هذه البراعة الإنسانية التي تلتقط خيط الحكاية لتصوغ على منوالها إبداعًا موازيًا ربما عبر عن الحقيقة أكثر مما عبرت عنه الحالة الحقيقية، كديدن الإبداع بقماشته الفضفاضة التي تشرح وتشرِّح ما لا تقدر العين المجردة على شرحه أو فضحه على حد السواء، تلك المساحات التي انفتحت على أوسع أبوابها بصورة ما أو بأخرى في مجموعته القصصية “حفل زفاف في وهج الشمس” التي استنهضت روح الشارع المكشوف لمرتاديه لتجسد ملمحا مغايرا ربما انطلى على كثير من الملامح الشائهة التي يرفضها المجتمع، ولا تعبر عنه إلا بتلك الصورة الصارخة الصادمة، ولكنها مشيرة في الوقت ذاته إلى الخلل الذي تعاني منه تركيب الطبقات في مجتمع ازدحم بكثير من الإشكاليات، وبالمزيد من ملامح القبح التي ربما توارت أحيانا وظهرت أحيانا أخرى بتلك الصورة الكاشفة..
في المقابل من جمالية القبح تلك يواجهك دائما “مصطفى نصر” كصوت باش بروح وبراءة طفل، تسمعه على الهاتف يهش لك وترى بسمته الودودة قبل أن ينطق “أهلا بيك”، وقبل أن يعرف من معه بالتحديد على الهاتف، فهكذا المبدعون أرواح وأطياف تعانق بعضها، كما تعانق الإنسانية سواء على الورق بالحبر والمداد، أو على صفحات الوجود بالحس الراقي المعبر وغير المنفصل، وهو ما يجعل هذا المداد مستمرا، ومتوغلا في الواقع والواقع الموازي الذي ربما أشار إلى تلك الهنات التي يقع فيها المجتمع، بل ويستشرف ما تؤول إليه العلاقة الآنية من انحدار، أو سبيلها لالتماس ضوء ما في نهاية النفق..
فهكذا الإبداع لا ينفصل عن صاحبه، وهو يدق هذا الناقوس للخطر من خلال تلك الجدارية العريضة التي تجتمع فيها كل السلبيات إلى جانب الإيجابيات لتصنع واقعا مأمولا أو غير ذلك لا بد من توجيه الإنذارات إليه ربما كي يضع حلولا لما فيه، وما جبل عليه، وربما ليستيقظ وعي جديد وحاد يعبر عن رفض المبدع لكل آليات القبح، من خلال نماذج إنسانية ربما كانت المرأة بصورها العديدة عنصرا محوريا وبؤرة مركزية فيها بفعل موازاتها لمعنى الحياة.