أخبار عاجلةساحة الإبداع

أ.د مصطفى لطيف عارف يكتب قصة جميل عبد حسن

فتحت عيني بصعوبة وأنا اتامل الواقفين ينظرون إلي بشفقة , نظرت يمينا شاهدت دموع أمي تنهمر بقوة وتحرق وجنتي , وأبي مبتسم بحزن عميق, وهو يمسح على إطراف شعري, لا أتذكر ما حدث بالضبط , عدت في غيبوبتي تذكرت أنني العب كرة القدم في الخامسة من عمري ,وأنا سعيد جدا العب مع جيراني من أطفال المنطقة شعرت بحرارة في جسمي ساخنة جدا فقدت الوعي على أثرها , عاد لي الوعي مرة ثانية , تثاقلت أعضائي عن الحركة هزني منظر جدي, وهو يبكي بصوت شجي, وعال يسمعه من في المستشفى , ولدي جميل أنا السبب فيما حدث لك , لن أسامح نفسي عندما تركتك في البيت ودرجة حرارتك تجاوزت الأربعين حتى حدث ما لا يحمد عقباه ,وبسبب إهمالي فقدت يدك ورجلك , أحس بالطبيب يتعاطف معي ,وهو يتحدث : قال بصوت رقيق جميل أنت بطل ؟ وفي الغد تخرج من المشفى؟ أنا لا استطيع الحركة ,والكلام كأنني في حلم أو خيال , طلبت مني أمي الرد عليها جميل تعرفني! اومت لها براسي قالت: تكلم نطقت كلمات لم يفهمها الجميع ,بدأت الحيرة عندهم أنا أتصور إنني انطق نطقا كاملا ,وهم لا يفهمون ما أقول انتابتني الدهشة , طلب مني الطبيب الوقوف والسير على أقدامي لم استطع الحركة ,والنهوض إلا بمساعدة أبي وأمي , وفي اليوم التالي حضر الطبيب ومعه كادرا طبيبا تحدث معهم بلغة لم افهمها فقط انظر إلى شفاههم تتحرك نحوي خرجت من المشفى, وأنا منهار جدا اتحرك على عكاز ,وكلما تحدثت مع أي شخص يركز في كلامي مرات عدة, ولا يفهم ما أريد انتابني الحزن والقلق , بدأت الجآ إلى الإشارات من خلال تعابير وجهي تعبر عن الغضب أو الرضا إذا أردت شيئا ,و إذا لم ينفذ لي ارمي بنفسي على الأرض ,واصرخ صراخا قويا حتى ينفذ ما أريد , أعتت على هذه العادة السيئة , وبعد مدة زمنية طويلة تعايشت مع مرضي وكأنه خلق لي ,وتلبس معي طيلة حياتي , بدأ الإحباط, والتذمر, والتشاؤم عندي ٠
تم عرضي على لجنة طبية قررت سفري إلى الهند للعلاج ,وعلى حساب الدولة بعد تحرير العراق ,وانفتاحه على دول العالم ,وتبنت منظمة إنسانية حالتي المرضية
قرر والدي مصاحبتي إلى الهند لعلاجي ,وكان موظفا بسيطا لا يملك غير قوته اليومي ,وعائلتنا كبيرة , والدخل الذي يدخلنا لايكفي لسد رمق العيش , لكن والدي كان رجلا صبورا, وقنوعا ,ووالدتي أيضا كانت على قناعة تامة بمعيشتنا البسيطة وكانت أمي تحبني كثيرا طلبت من والدي رفقته في رحلتي العلاجية ,وتم حجز مقاعد الطائرة التي تقلنا يوم الاثنين الساعة التاسعة صباحا من مطار النجف الأشراف 0
وفي الصباح الباكر وصلتنا سيارة إسعاف جميلة وقفت في بداية شارعنا الضيق ونزل منها شخص يرتدي بدله بيضاء, وطلب مني الصعود إلى السيارة فهمت من أشارته صعدت على الكرسي المتحرك ومعي والدي , وانطلقت السيارة مسرعة نحو مطار النجف , وأنا اجلس بالقرب من شباك السيارة , وارى المناظر الطبيعية الخلابة , نظرت إلى عيني والدتي وهي تنهمر منهما الدموع انهمارا , وشاهدت والدي ينظر لي نظرة حنونة شعرت بعطفه وحنانه وهو يجيل النظر بحسرة وألم ٠
دخلت المطار وشعرت بالخوف والرهبة ,وأنا اتامل الطائرة الكبيرة وهي تحمل كل هؤلاء الناس , والحقائب , والأمتعة الكثيرة ,انطلقت الطائرة بهدوء وأنا شعرت كان الأرض تتحرك من تحتي صرخت من الخوف ولكن دون جدوى أشار لي والدي إشارة طلب مني السكوت ,والاطمئنان , بدأت الطائرة بالصعود تدريجيا نحو الأعلى شعرت بضيق نفسي من المنظر المخيف الذي أشاهده للمرة الأولى حتى برز شعاعا نورانيا مقدسا ممتدا من الأرض إلى السماء عرفته بفطرتي انه قبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام , وهو نور الأرض, وانتشرت أشعته كقوس قزح شعرت حينها بالاطمئنان والاستقرار وأخذت الطائرة تنحني أجلالا وتقديرا لمقامه الشريف وتطلب الإذن منه بالرحيل .
وصلت طائرتنا إلى مطار الهند الدولي , كانت تنتظرني سيارة إسعاف أيضا صعدت فيها وهي تتجول بي في مناطق متعددة من الهند , شاهدت مناظر جميلة وطبيعة لم أر منها في حياتي الأشجار , والإزهار , وخضرة الأرض , وجريان المياه , وجدت في استقبالي كبار الأطباء , شعرت بالرهبة, والفزع إذ أنني لم أعتاد على مشاهدة منظر الأطباء الكبار وهم يتراطنون بلهجة ولغة لا اعرفها , دخل معي صالة العمليات والدي ,وهو يمسد على شعري , وقال لي بلهجة حنينه ,ولدي جميل توكل على الله ,وسوف تنجح العملية ان شاء الله , شعرت بسعادة غامرة, وأجريت لي العملية إلا أنها فشلت لتأخري بالحضور إلى إجراء العملية استفقت من نومي على بكاء ,وعويل أمي, وهي تلطم خديها ,وأبي يحملني ,ويحضني وهو يبكي أيضا٠
بكيت دما على شبابي الذي تلاشى واضمحل وأصبت بصدمة قوية
عدت للعراق على نفس الطائرة التي ذهبت بها إلى الهند , وأنا لم استطع النطق بكلمة واحدة , استقبلني جدي في المطار احتضنني بشدة ,وهو يبكي ولدي العزيز جميل المهم أنك عدت سالما معافى ٠


وبسبب مرضي التعيس في كل يوم اخرج للتنزه ,وكان أخي الكبير يخرجني كل يوم اشعر معه بالسعادة لأنني اشعر بحبه لي, وعطفه علي ,وعندما يذهب للمدرسة يقوم والدي بالعمل ذاته واستمرت تلك الحال سنوات عدة , حتى جاء اليوم المشوؤم, وتمرض جدي ووالدي ووالدتي وجميع إفراد أسرتي بمرض كورونا اللعين أشاهد والدي وهو يتألم من المرض, ولا اعرف ذلك بل اطلب منه إن يخرجني للشارع فلا يفعل ما اطلب منه , وهو يرقد على سريره لا يتكلم ولا يرد علي وأصيب جدي بضيق حاد في النفس نقل إلى المستشفى ساءت حالته وأنا مسجون في بيتي لا اعلم ما يجري حولي حتى سمعت بوفاة جدي رحمه الله لكني لا افقه ما يقولون لكني شاهدت وسمعت جميع إفراد عائلتي والجيران كلهم يبكون حتى دخل التابوت إلى بيتنا يحمله عمي ثابت وأولاد عمي نظرت إليه وجدت فيه جدي غارقا في النوم تعودت أن العب معه قمت من مكاني وألقيت بنفسي على التابوت دون آن يجيبني جدي شهقت بالبكاء والعويل بمختلف اللغات واللهجات دون جدوى لم يفهم جميع الحاضرين كلامي وبكائي رحل جدي ورحلت معه الذكريات والأيام الجميلة ٠

ساحة الإبداع – أوبرا مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى