أخبار عاجلةدراسات ومقالات

د. محمد عبدالله الخولي شعر العامية المصرية بين إنسانية المعنى ودهشة التصوير

ديوان "روايح زين" لريم أحمد المنجي (نموذجا)

أمّا قبل:

عند مطالعتنا للدراسات الأدبيّة والنقدية -ولا سيّما الأكاديميّ منها – وجدنا أنها لا تحتفي بالمنجر الإبداعي لشعر “العامية المصرية”  إلا نذرا، إذ انطوى النقد على الشعر الفصيح دون غيره، وأهمل الجانب الإبداعي في شعر العامية المصرية، وكأنّ أساتذة النقد تناسوا أنّ اللغة العامية المصرية تحمل في طياتها ثقافة وتاريخ هذا الشعب وطرائق تفكيره ومعاناته، إذ اللهجة المحليّة الدّارجة هي المرتكز الأساس في عملية التواصل، بل تهيمن اللغة العامية على شتّى الأوساط في عمليتيّ الإرسال والاستقبال؛ ولا تخلو العملية الإبداعية في شتّى مستوياتها من استدخال المتلقي بوصفه العنصر الذي تتم من خلاله عملية التواصل المتغياة من الإبداع جملة وتفصيلا.

إنّ تعالي النقد على دراسة “شعر العامية” جناية كبيرة، ويتوجب على النقد أن يراجع نفسه في هذا الشأن، لأن تعالي النقد على “شعر العامية” هو تعالٍ على لغة الشعب ذاته. ويذكر التاريخ لنا أسماء بعينها سطرت تاريخا مشرفا في ميدان شعر “العامية المصرية” بداية من (ابن عروس) و (الشيخ الشربيني) صاحب “هز القحوف” في العصر العثماني، وصولا إلى (عبدالله النديم) في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ثم (بديع خيري) و (يونس القاضي) في الثلث الأول من القرين العشرين. ثم كان عصر الأربعة الكبار: (بيرم التونسي) و(فؤاد حداد) و (صلاح جاهين) و (عبدالرحمن الأبنودي). وعاصرهم كل من: (فؤاد قاعود) و (سيد حجاب). أما أحمد فؤاد نجم فقد كان نسيجا وحده وعالما شعريا قائما بذاته.” فلماذا يتعمد النقد الأدبي الجناية على كل هذا التاريخ المشرف لمسيرة “شعر العامية” وقد نافح كثير من النقاد والأساتذة من أجل هذه القضية، ولكن دون جدوى، فالمؤسسات الثقافية والأكاديمية المعنية بهذا الشأن تغمض عينها، وتسد أذنها، وتستغشي ثيابها، ولا تلتفت من قريب أو بعيد لهذا المنجز الإبداعي لشعر “العامية المصرية”. 

إنّ نظرة الاستعلاء التي تمارسها المؤسسات الثقافية والأكاديمية على المنجز الإبداعي لشعر “العامية المصرية” تراجعت في الآونة الأخيرة، ولكن ليس بالقدر المطلوب الذي يتناسب مع المنتج الإبداعي لشعراء العامية – خاصة- في هذا الوقت، الذي تواجه فيه هذه المؤسسات ريحا عاتية، لا يستطيع أحد الوقوف بوجهها، فقد استطاع شعراء العامية من هذا الجيل – على اختلاف أعمارهم – أن يحرزوا سبقا إبداعيا وجماهيريا، لم يحرزه الشعر العربي الفصيح في هذا العصر، فكان لزاما أن تتراجع هذه المؤسسات عن موقفها تجاه “شعر العامية”.

إنّ الشعر العربيّ الفصيح عندما ينطوي شاعره على ذاته، تصعب عملية التواصل بينه وبين الجمهور، نظرا لتعالي الأداء الفني في هذا المضمار، والعكس عندما ينطوي شاعر العامية المصرية على ذاته، فكلما توغّل في متاهات الذات وجوانيتها لا ينفصل أبدا عن الجمهور، ولا تصعب عملية التواصل بين الأنا المبدعة والمتلقي، لأنّ اللغة العامية – رغم أنف الجميع – تحمل في ضلوعها ودواخلها البعد النفسي والتاريخي والعقائدي والحمولات الثقافية لهذا الشعب، بل تحمل شفرات التواصل المتواطأ عليها منذ النشأة الأولى.

ومن الناحية الإبداعيّة لشعر “العامية المصرية” فهو، متواجد بقوة، ومتربع – الآن – على عروش التلقي الجماهيري، فشعر العامية يخاطب جموع الشعب بداية من المثقف النوعي حتى المتلقي العاديّ، فهو حاضر في المشهد الأدبي دون الحاجة إلى دليل، وأكثر مقولة أعجبتني في هذا الصدد قول الشاعر مسعود شومان: ” شعر العامية المصرية رصاصة نافذة في قلب المشهد الشعري”.

ومن خلال دراستي لديوان (روايح زين) للشاعرة “ريم أحمد المنجي” تعرّفت على صفة مائزة لشعر العامية المصرية، وأظنّ أنّ عبقرية اللغة المصرية طاوعت شعر العامية في إبراز تلك الصفة، وهي “إنسانية المعنى” إذ تتحول المعاني والدلالات من خلال نسقها التركيبي في بنية القصيدة إلى حالة من التوحد والتماهي مع بنية الشخصية المصرية في أنساقها النفسية والاجتماعية والفنية والعقائدية وحمولاتها الثقافية، بل تستطيع أنّ تتغلغل تلك المعاني الإنسانية عبر آليات التصوير الشعري إلى أعمق درجة في مستويات التخييل لدى المتلقي، فتحدث له حالة من الاندهاش تصل إلى حد الارتعاشات الوجدانية حال التلقي، وربما يسأل المتلقي نفسه سؤالا مفاده: كيف استطاع هذا الشعر أن ينتهكني لدرجة الوجد به؟ إذ اجتمع الشعر بتقنياته وآلياته – التي يشترك فيها الفصيح مع العامي – ولكن الأخير ارتكز على لغة تستطيع أن تخترق الحجب الفنية وتسكن كخنجر ناعم في قلب المتلقي، فاللغة ذاتها محملة بشحونات شعورية مختزلة فيها، لغة تحمل ثقافة هذا الشعب، وتشف عن وجدانه ورؤيته وحلمه وتاريخه ومكابدته وفرحه وانكساراته، فتدخل اللغة إلى النص “العاميّ” وتتقولب فيه، ومن ثم يتلقاها المتلقي/ الجمهور بصورة سهلة ومستساغة – مع علو كعبها الفني – دون حاجة إلى مزيد من التأويل، لأنّ المتلقي الذي يعرف هذه اللغة، يستطيع أن يستظهر بواطنها دون تعب أو جهد، وهنا تكمن العبقرية الفذة في شعر العامية المصرية، حيث يواجه المتلقي جمالية القصيدة في نسقها البنائي هائما في دهشة التصوير، أما المعاني فتأتيه طواعية دون تعسف أو تأويل، فهو يعرف دلالات تلك اللغة وأسرارها، وعلى النقيض من هذا يكون الشعر الفصيح، لأن لغته متعالية على البنية المجتمعية للشخصية المصرية، وقد اتخذت ديوان ” روايح زين” للشاعرة “ريم أحمد المنجي” نموذجا تطبيقيا لهذه الدراسة التي عنونتها بـــ ” شعر العامية المصرية بين إنسانية المعنى ودهشة التصوير”.

بداية من الإهداء تضيّق “ريم أحمد” بؤرة التلقي، وتسلّط الضوء على “زينب” وحدها دون غيرها، وبشكل سردي مختزل يحمل ارتعاشات شعرية منطمسة، تكاد تنفجر الشعرية وتتخطى حجاب سردية الإهداء، فيتحول الإهداء في آخره إلى طاقة شعرية انفلتت من قبضة السرد ذاته؛ فلم تستطع “ريم” أن تقيد شعرها في سردية الإهداء فتقول: 

إلى ستي زينب

ولدتُّ على يدها؛ فالتحمنا لمدة تزيد عن 26 عاما، ثم توفيّت “زينب بدير عبدالجليل” عن عمر يناهز 73 عاما ولم تترك لي ميراث، لكنها أودعت في يديّ حمامة بيضاء، وخصّتني بالأثر، وتركت تحت وسادتي وأمام غرفتي روايح…

انتوت “ريم أحمد” أن يكون الإهداء لِسِتِّهَا “زينب” حكاية بسيطة في سردية عفوية تسرد لنا ملخص تلك العلاقة بينها وبين “زينب” ولكن تأبّى الشعر على الغياب، فأعلن عن نفسه في نهاية الإهداء منذ قولها: ” ولكنها أودعت في يديّ حمامة بيضاء” وكأنّ الشعر يرفض أن يمس السرد جسد الديوان.

ينتهي الإهداء بالمفردة “روايح” والتي جاءت في صورة الجمع، يعقبها ثلاث نقط (…) لينفتح تأويل المفردة على دلالات متعددة لهذه الــ “روايح” وتعددية أنواعها داخل الديوان، وكأنّ كلّ قصيدة من قصائد الديوان تمثل رائحة معينة تفيض بالدلالات، وكان أكبر دليل على ما توصلت إليه، أنّ أول قصيدة في الديوان وسمتها “ريم” بـ “ريحة الخيمة” والتي استهلتها بقولها:

سلام على أمّ السلام زينب

اللي عشش جوّا منها الطير

وبيسبّح على اكتافها الجماد والحي

واحنا عيال

كنا بنشرب من كفوفها الضيّ

إذن، ثمة توافق واتصال في بنية الديوان، بداية من الإهداء؛ إذ تسلمت أول قصيدة مهمة الإفصاح عن سر تلك الـ “روايح” التي تركتها الست “زينب” تحت وسادة “ريم” وأمام غرفتها. ليس هذا وحسب، ولكن مفردة “الحمامة” التي تركتها “زينب” في يدي “ريم” بوصفها رمزا للسلام، يتصدر السلام أول القصيدة، حيث تقول: (السلام على أم السلام زينب). وهذا يدل دلالة قاطعة على التماسك النصي المقصود لذاته؛ بلورة لفنية “ريم” المتعالية، وكأنها وهي تشيد بنية الديوان، ترسم لوحة فنية دقيقة متناسقة الألوان والحدود والأطر.

ينساب الديوان في قالب إنساني – أو لغة مؤنسنة – تحمل في طياتها تلك العلاقة في محيطها الأسري الضيق، الذي ارتكزت عليها قصائد الديوان كلها، ولكن بشعرية متعالية استطاعت “ريم أحمد” أن تجعل من هذا النطاق الأسري الضيق براحا يسع الإنسانية كلها، وهنا يخرج الشعر من نطاقه الذاتي إلى براح الإنسانية الأرحب، ولن تستطيع لغة أن توسع من مجال مضمونيتها إلى هذا الحد، إلا اللغة العامية شريطة أن تقع بين يدي شاعر يستطيع أن يوظف هذه العبقرية اللغوية في إطار شعري مائز. فقد استطاعت “ريم” من خلال هذه اللغة المنبعثة من عوالمها الشعرية أن تستمطر التجليات الإنسانية على مرايا كفاح الست “زينب” وتتحول اللغة هي الأخرى إلى مرايا يرى القارئ فيها الإنسان بنقائه وصفائه وفطرته الأولى التي جُبل عليها، حيث البساطة في أبعد صورها، والكفاح المقدس من أجل لقمة العيش، وهذه المعاني وتلك الصور يكابدها السواد الأعظم من أهلنا، فكان ديوان “روايح زين” حاملا لهوية الشخصية المصرية المكافحة من أجل الحياة، فتقول “ريم”:

طرف العباية عليها أوسع من الدنيا

والله كانت أشقى خلق الله

ترفع على اكتافها البؤج

وتلف ع الأسواق تبيع العمر باللقمة

كانت بتدهن عضمها بالصبر لو نقر السنين اشتد

ستّي.. سواقي الرب في الفدادين

وأول نخلة علمت النخيل يمتد

لم تتوقف أَنْسَنَة المعاني والصور عند ” ريم” إلى هذا الحد، وحسب، ولكنها أضفت تلك المعاني الإنسانية على كونها الصغير بما يحتويه من أحياء وجمادات، فإنسانية ستها “زينب” أثَّرَت في كل من وما حولها، حتى أصبحت هناك حالة من التعشق الكوني بين “زينب” وكل ما يحيط بها، فتقول “ريم”:

ردّدت الكنبة اللي جنبي بحزن:

وانا ليا فيها عرق وعروه ما تفكتش

قال الجدار: أنا ليا فيها جدار وعرق خشب

اترج من تحتي البلاط

السقف نشّع بالعياط

كل اللي كان ساكن نطق:

لينا في زينب ألف مطرح

واحنا اللي بتنا يتامى والله العظيم

بالقراءة الاسترجاعية، عندما نعود إلى بداية النص، حيث تقول “ريم”: [وبيسبّح على اكتافها الجماد والحيّ]، هذا المعنى الإجمالي المبهم، ساقته “ريم أحمد” في بداية النص، ثم عن طريق التسريد تفصّل هذا المعنى، في صورة حركيّة يتجاوب فيها الجماد مع حالة الحزن التي تمرّ بها ريم جراء فقدانها “زينب”، وتستدخل لغة حركيّة تشير صراحة إلى التماهي المطلق بين الحيّ والجمادات، بداية من الفعل (رددت)، ونزل هذا الفعل بمثابة عتاب من الجمادات لريم التي تتخيل أنها استأثرت بالحزن وحدها، ثم تنتقل سكونية الحزن إلى حركة مفرطة متعالية تشق جدار الصمت الذي يخيم على ريم، وتتجاوب معها كل الجمادات التي لامست “زينب” ذات يوم، وبشعرية فائقة، تستدخل ريم نمطا من الأفعال يضفي حالة إنسانية تظهر مدى نورانية ستها “زينب”، وهذه الأفعال هي: [نشّع- اترج – نطق] هذه الأفعال الثلاثة حمّلت هذه الجمادات صفة حركية ومنحتها الحياة لتدخلها في العالم الإنساني بإضفاء مسحة الحزن عليها، وباستقراء المقطوعة الشعرية السابقة، وربطها بما ذكرته “ريم” في بداية النص: [وبيسبح على اكتافها الجماد والحي] نتيقّن أنّ الشاعرة تؤسس ومنذ البداية إلى حالة من الانسجام والتناسق، وتفصّل ما ذكرته إجمالا عن وعي وقصد ورؤية، ولا ينتبه إلى هذا التماسك على مستوى النص، إلا ثلة قليلة من الشعراء، تعرف كيف تنسج من اللغة بنية شعرية متماسكة وليست هشة ضعيفة، إذ بعض الشعراء يستأنسون إلى الدفقة الشعورية، غير الرصينة والمتأنية، فيأتي شعرهم متناثرا، كيفما اتفق، دون وعي أو قصد. ولعلّ سائلا يسأل، هل تقصد الشاعرة عن وعي ورؤية ما ألمح إليه النقد؟ أقول: إنّ الشعراء الذين منحهم الله هذه الهبة، يدور الشعر عندهم على مدارين: الأول، (الوعي)، حيث يعمد الشاعر إلى تلك القصديات أو الرؤى، التي يستنبطها النقد من النص. والثاني: (اللاوعي الشعري) حيث يملي (اللاوعي) على (الوعي) حمولاته الرمزية والشعورية المبهمة، فتنتظم تلك الرموز والشعوريات في منطقة الوعي، فتأتي القصيدة متوافقة متناسقة مع ما يمور ويدور داخل النفس، فكأنّ بنية القصيدة صورة حقيقية لما تختلج به نفس الشاعر، وعلى النقد أن يستبطن الداخل النفسي من خلال بنية القصيدة، وعلى هذا يكون مدار النقد.

إنّ ديوان “روايح زين” يمتلك السلطة الجمالية التي من خلالها استطاعت “ريم أحمد” أن تؤثر في المتلقي لدرجة الاندهاش، ولا تتأتّى هذه السلطة لشاعر، إلّا عن طريق ابتكارية الصورة، وانسجامها مع السياق الذي ينتمي إليه النص، وأنْ تنبع تلك الصورة من موضوع النص ذاته، لتحدث حالة من التناغم بين الموضوع النصي وصورته التي تحمل مضمونيته ودلائله، وهذا نلحظه في قول الشاعرة:

وأم رندا في كل ده

كانت تبيعلك قلبها في وسط القماش

وإن كنت ما بتضحكش

تديك بياض عينها وتقولك اضحك

مش فارقة .. مش مستاهلة

مش مش

وآديها ماشية برغيفين العيش

وبحتتين المش.

عندما تجتمع رهافة الصورة، وحساسية اللغة، وإنسانية المعنى، مع الوجع والفقر والقهر، فالشاعرة هنا تكسر حدة المعنى بجمالية الصورة، كي لا ينسحب المتلقي إلى الموضوع، وينشغل بهذا الانكسار الإنساني عن الجمال الشعري، فيفقد الشعر هويته، فتحدث الشاعرة حالة من المزاوجة بين الألم والأمل، بين الانكسار والصمود، بين العوز والعطاء، وهنا تكمن الشعرية التي يهفو إليها النقد، ويميزها عن غيرها.

يتوزّع الشعراء على نوعين: الأول، شاعر يملك المعنى، ولا تسعفه اللغة، أو يملك اللغة ويراوغه المعنى، وهذا على حد قول “حجازي”: أنّه شاعر وضع قصده الأول في كلام منطوق. أما الثاني، فهو الشاعر المحظوظ، والحظ هنا يعني الموهبة، فإنه يبدع المعنى كما يبدع اللغة، في أثناء الكتابة، فالمعنى في الشعر ليس فطرةً أو غريزة بل هو ثمرة الكتابة وغايتها، يبدأ في اللحظة التي يمسك فيها الشاعر بالقلم، وينتهي في اللحظة التي يضعه فيها.” وبتتبع المعاني – ولاسيما – الإنسانيّ منها في ديوان “روايح زين” وجدنا أنّ الشاعرة “ريم أحمد” قادرة على خلق المعنى، وتخلق له من اللغة ما يناسبه، وهن تكمن مقدرة الشاعرة وموهبتها المتفردة، فحين تقول:

يا ويل سكاتي في الظلام وحدي

العمر مقضي ودفتري فاضي

وانا اللي زيي لو تضيق الكلمه بيه

ينفض

لا تقوم له قومه ولا يبقى له مد

واسع يا قلب القصيدة زي قلبي تمام

ضيق يا صدر القصيدة في السؤال والرد.

إنّ لكل شاعر موردا يستقي منه موضوعه الشعريَّ، إذ لا يرتكز الشعر على الفراغ، فلابد للشاعر من عوالم يصنع من خلالها عالمه الشعريّ، وتكون هذه العوالم – في الأساس -هي الصانعة للجانب الوجداني للشاعر نفسه، وهي المشكّلة لجوانب شخصيته، التي حتما تظهر في بنيانه الشعري، وقد اعتمدت “ريم أحمد” على عوالم بعينها ارتكز عليها ديوانها “روايح زين”، وهذه العوالم يمكن حصرها في: الوجع، الانكسارات، التحدي، الحنين، الغربة، الغياب، الحب،  والشعر، وكل عالم من هذه العوالم تمثله شخصية من الشخصيات التي انبنى عليها هذا الديوان، إذ الديوان يتوزع من حيث تناوله للشخصيات المؤثرة في عالم ريم بمستوييه الشعري والإنساني على الجدة، والأب، والحبيب، والابن، حتى الأماكن في الديوان ألبستها ريم عباءة الإنسانية، فتحولت الأماكن في الديوان إلى شخوص تنفعل وجدانيا لتشارك ريم حالتها الوجدانية، وتطلعاتها الإنسانية، كما استدخلت الشاعرة العالم الشعري، وجعلت له وجودا إنسانيا متعاليا، وكأنّ الشعر بمفهومه الإنساني الملجأ والملاذ الذي تحتمي به ريم أحمد من نكبات الدهر وتقلب الحدثان، فتقول:

كان لسه في عيني شوية نور

أتحاوط بيهم لما سيول الدنيا تهيج

لما الأرض الثابتة تخور

كنت أقدر بيهم أشب لحد ببان الله

وابدر في صحاري العمر قرنفل

واستنى الطرح ف قلبي يهل

وأعيش مستور

 

المرتكز الموضوعي في شعر “ريم أحمد المنجي”

“روايح زين – فض ذات”

إنّ التيمةَ الموضوعية في شعر “ريم أحمد”، والتي ينبني عليها شعرها بالكليّة هي (الوحدة)، ولذا جعلت “ريم” من الجمادات والأشياء الملاصقة لها، والتي تعيش فيها وبها ومعها مخلوقاتٍ حيّة تناجيها، وتبث إليها أوجاعها؛ فالمناجاة نتيجة مباشرة للوحدة، إذ المناجاة سبيل الخلاص الأوحد للشاعر الذي يحس بغربته واغترابه في واقع المعاناة، وتتحول هذه الأشياء إلى كائنات إنسانية لها كيان شعوري، وتحدث حالة من التوحّد بين الشاعرة، وبين هذه الكائنات في كونها الشعري الخاص، وهذا نلحظة في عنوان القصائد ومتنها عند الشاعرة، ففي قصيدة، حبّ الأوّض، تقول:

بحب الضلمة أكتر من الشبابيك

واحب لما انهار أكون وحدي

محلى ليالي القهوة والدخان

بخاف نفسي واخاف ليها

واسعى بكل جوارحي

إني أكون إنسان

أوضتي اللي دايما طالّة من عيني

معجون ترابها بدمي وبأسمنت

ممتد حبلي السري من روحي لروح الحيط

جدّرت في الأرض أوردة وشرايين

فتحت في السقف عين

نبتت في الزاوية جلد وشعر

التحمنا

طوبة حمرا وطوبة دمعة

عرق جبس وعرق دم

والذي دفعني إلى القول، بأنّ الوحدة وصاحبتها المناجاة تيمتان موضوعيّتان في شعر “ريم أحمد” أنني اكتشفت هاتين التيمتين: الوحدة، والمناجاة، في ديوانها: “فض ذات” حيث احتشد الأخير بحالة من التوحّد بين “ريم” وقصيدتها فقد تماهت ريم مع الشعر، واستعصمت به من آلام هذه الوحدة، فكانت المناجاة، وكان التخاطر الشفيف الغيبيّ بين ريم وقصيدتها، فتقول في ديوانها: “فض ذات”:

عضم القصيدة لو اتبرى هعجز أنا بدري

لون القصيدة الجاف.. هيطفي لون صدري

ويرزّق الرئتين.

… 

اكتبي

علّ المشاهد في السما محتاجه مــ الورق الحياه

علّ النجاه في طرف حرف الضاد

علّ الخلود من سقفة النقاد.

كما انبنى ديوان “روايح زين” على الوجع/ الفراق/ الفقد، حيث تجسّدت الإنسانيّة كلها في شخصية الست “زينب بدير عبدالجليل” حاولت “ريم” أنْ تُؤَنْسِنَ الأشياء من حولها، إذ الإنسانية التي تجسدت في شخصية الست “زينب” هي الكمال المطلق للإنسانيّة من وجهة نظر الشاعرة، وكان غياب جدتها غيابا للإنسانيّة، فلم تستطع “ريم” أن تلتحم بالواقع لما فيه من معاناة وانكسارات وخسارات، فلم يكن أمامها، إلا أن تعيد خلق الأشياء من حولها، وهي ترتدي حلَّة الإنسانيَّة، وقد تعمَّقت ريم في هذا الشأن فتحول الديوان بالكليّة إلى معانٍ إنسانية على مستوى الأمكنة/ اللغة/ الفكرة/ الصورة، ليكون ذلك تعويضا عن الفقد. وفي ديوانها “فض ذات” كانت هناك الوحدة التي اضطرت الشاعرة أن تضفي على القصيدة/الشعر معاني إنسانيّة لتحدث حالة من التخاطر الخفي والمناجاة، بين الشاعرة والشعر، وحاولت “ريم” خلال هذه الرحلة الغيبية بينها وبين الشعر أن تتعرف على جوهره، فتقول:

واتعلمي 

فن الخشوع والدروشه في النص

تبقى القصيدة حبيبك الصوفي

تبقى القوافي مأذنه وحضره

موتي قوي في روحها، واسقيها مسك وتبر

دا الموت سلام لو كان ضريحك لونه لون الحبر

إنّ أقدس ما يمر به الشاعر في رحلته مع الشعر، أنّ يتعرّف على ذاته الإنسانيّة من خلال محاولته الدائمة أن يلامس جوهر الشعر في عوالمه البعيدة، فإذا تعرّف الشاعر على ذاته الإنسانيّة، تفجّرت ينبايع الشعر فيه، وإذا اقترب من جوهر الشعر انكشفت ذاته أمامه، فالشعر ليس ترفا ولا لعبا ولكنه المعاناة والمكابدة، فالشعراء الكبار في رحلتهم المقدسة مع الشعر يغرقوا أنفسهم في بحره؛ ليكتشفوا جوهره، ولن يستطيع أحد الوصول إلى الجوهر، ولكنه شرف الرحلة ذاتها، ومحاولة الوصول، فجوهر الشعر كقطعة ماسٍ كلما تحركت تهديك لونا جميلا مقدسا كقبة خضراء، وأحيانا يتجلى الجوهر الشعري دماءً على جسد النص، وأحيانا كرعشة ضوء بعيدة ترقص في العالم اللاهناك، وأحيانا، أخرى يتجلى الشعر حضرةً صوفية في محاريب الجمال، ويمنح الجوهر الشعري كلَّ شاعر من الشعراء لونه الذي يناسبه، ولكن لا يمنح الجوهر الشعري هذه المرائي، إلا للمخلصين له، الذين نالوا شرف الرحلة، وهم يعلمون أنهم لن يصلوا، ولكن محبة في الشعر وفي الإنسانيّة هاموا. وأنا أعتقد من وجهة نظر خاصة، أن ” ريم أحمد المنجي” من الذين نالوا شرف هذه الرحلة.

ولم تنسَ “ريم أحمد” أنْ تكشف لنا الحقيقة التي تجلّى بها جوهر الشعر عليها، ولم تضنّ بها على القارئ، ولكنها عندما أعلنت عن رؤيتها للشعر، فضحت المزيّفين الذي يتحول الشعر عندهم إلى نوع من الترف واللعب باللغة، وببهلوانية لاعب السيرك يضحكون على الجمهور، فالشعر إن لم يكن نابعا من معاناة ومكابدة ورحلة شاقة شريفة، فلا يعوّل عليه، فتقول “ريم” في قصيدة “السرد”:

من نظره أوسع من بعيد في شوارع الشعرا

شوفت الطريق منهم وليهم فانتبهت

في كعبه حرة انبنت.. في أول السكه

الكل لافف شال قوافي الحبكه والترتيب

شايلين زوايد شعرهم ومهندمين روحهم

ومقصقصين ريش الضحايا في القصايد

متعطرين بالزهد والشوق والفراق:

” لبيك رب الكلمه والهاله يا خالق مغريات السطر”

“لبيك لا مخرج من المحنه الا بيك”

شفت اللي منهم عنده شجرة توت

متعتّقتش ولا استوت.. مره!

متجمعين تحتيها أطفال طيبين

بيحدفوه بالسقفه يرميلهم في توت

وشفت شعرا الحزن أنصار التابوت

متحزّمين بالدمع والدخان

مبينطقوش إلا بكلام في الموت.

كان “السرد” عنوانا لهذه القصيدة، ودخول السرد بوصفه عنوانا لنص شعري، يحيل إلى المغايرة والتنافر بين العنوان والمتن، ولكن بشيء من التأني، بعد مراجعة متن القصيدة، نتعرف أنّ الشاعرة لها وجهة نظر مختلفة عن الشعر، لا تتوافق مع كثير من الشعراء، ولذا بدأت عنوان القصيدة بــ “السرد” لتظهر عبر تقنية “التنافر” بين عنوان القصيدة ومتنها، أنها لا تؤمن بشعر كثير من الشعراء، فهو من وجهة نظرها مزيّف، لا يمت إلى حقيقة الشعر وجوهره بصلة، فالشعر أطهر وأقدس مما يدعيه بعضنا، ولذا تخذت ريم طريقا مغايرا عندما تجلى جوهر الشعر عليها بالمرائي الحسان.

بعد هذه الرحلة مع ديواني: “روايح زين- وفض ذات” للشاعرة القديرة “ريم أحمد المنجى” تعرفنا على تقنياتها الشعرية، وجمالياتها اللغوية، وعبقريتها التصويرية، وعملية التجسيد الإنساني للمعاني والأشياء، وعلو كعبها الفني في مجال الشعر، نستطيع أن نقول، ونعيد ما بدأت به محاضرة اليوم: يجب إعادة النظر في قضية إهمال النقد والمؤسسات الثقافية والإكاديمية لشعر العامية المصرية، فالشاعرة التي نحن في حضرتها اليوم؛ دليل قاطع على الجناية التي يرتكبها النقد في حق شعر العامية المصرية، فريم أحمد وغيرها من الشعراء والشواعر من أبناء هذا الجيل ماضون في طريقهم محققين انتصارات متعددة ومائزة، ويبقى دور النقد، أن يفعّل سلطته على هذا المنتج الذي يعلي من قدر لغتنا المصرية وعبقريتها الفائقة.

 

المراجع والمصادر:

  1. إبراهيم محمد منصور، أحد عشر شاعرا -دراسة عن شعر العامية المعاصر- نسخة إلكترونية.
  2. ريم أحمد المنجي: فض ذات، دار لوغاريتم للنشر والتوزيع، ط1، مصر،2019.
  3. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ: روايح زين، دار زين للنشر والتوزيع، ط1، مصر،2024.
  4. عبدالله العشي: أسئلة الشعرية، منشورات الاختلاف، ط1، الجزائر، 2009.

 أوبرا مصر  – دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى