سليم النجار يكتب السخرية في رواية “تاكسي”
ليست الرواية من حيث توظيف تقنياتها إلّا قصّة الإنسان موزّعة على أحداث واقعية متشابكة كما هو حاصل في “تاكسي” للكاتب خالد الخميسي الصادر عن دار الشروق -العام ٢٠٠٦، ومتفرعة تلتقي أحيانا وتفترق أحيانا أخرى، لكنّها تظلّ محافظة على اللّحمة التي تجمعها، كما فعل خالد الخميسي في روايته التي تنّقلت في شوارع القاهرة، من خلال “التاكسي” لتساهم هذه الرحلة بشكل تعاقبي أو تقهقري في بناء حياة كاملة.
لذلك جعل الخميسي من الحكاية عموداً فقرياً لروايته، لتكون السداة التي تتماسك بها أجزاء روايته، وفي حال غيابها ستكون رخوة لا يأخذها أحد على محمل الجدّ. ويمكن القول إنّ حساسية الخميسي في “تاكسي” سرده تداخل الأجناس، وهناك من عبّر عن هذا النوع من السّرد تداخل القصّ القصير الذي أخذ شكل القصّة القصيرة، تحتفي بالحكاية، التي تداخلت مع الفضاءات والأحداث المتنوِّعة شكلاً روائياً. رغم أنّ هذه الأخيرة تعتبر نسغ القصّة والرواية معا، فهي التي تبقى عند قراءة هذا الشّكل الإبداعي راسخة في ذهن المتلقّي.
ومن الملاحظ أنّ تقنية الوصف في “تاكسي” كانت مبهرة، وكما هو معروف إنّه فنّ قائم بذاته يحتاج كثيرًا من الدربة لإتقانه كي يبهر القارئ، خاصّة إذا كان وصفاً يتخلّله بعض المجاز دون أنْ يستغرق فيه بشكل كلّي، كما ميّز “تاكسي” بمثابة معادل موضوعي يعكس لنا بشكل مباشر الحالة النّفسية للشّخصيات.
ولعلّي لا أكون مبالغاً إذا قلت إنّ خالد الخميسي، كان الصّحفي النّقدي، في “تاكسي” متألِّقاً في تسطير خطاب اجتماعي نقدي استطاع نقل السخرية الاجتماعية السّياسية إلى مخاض ثورة في نقل الرواية من مرآة للواقع الاجتماعي المصري، إلى رؤية درامية تحمل في طياتها الكشف عن المكبوت ووسيلة لتوازن النفس في للمجتمع، “كانت علبة المالبورو ب ٤٣ قرش ونصف، وكان المصري ما بين ١٥و ٢٠ قرش ومسكت في المالبورو من ساعتها، دلوقتي المالبورو ب ٧،٥ جنيه والكليوباترا بقت ٢،٥ ج، بعتي خراب بيوت ولكن تقول إيه سعادتك.. مزاج ٤٩”.
كما استطاع الخميسي السّرد على شكل كاريكاتير متخيّل يعكس الثنائيات المتعارضة. وفيها يتمّ اختزال كلّ العلاقات المعقّدة داخل نظام العلامات الاجتماعية في تفسير واحد هو متّصل بين قيمتين متعارضتين، وبينما تحضر مجموعة من الصّفات في أحدهما تغيب في الآخر، وقد اخترعت هذه الثنائيات المتعارضة أو المتقابلة لتسهيل عملية الرّؤية لدى المتلقّي: “يعني لو قرآن كنت قدرت تقول لي وطيِّ الصوت؟ ص١٤١”، “ولاَّ خلاص لازم أعلّق لك صليب على صدري أو لازم الزبيبة تبقى منورة جبيني، عشان سعادتك تقدر تصنف الركاب ص١٤”.
صورة الكاريكاتير أصبحت صورة متجذِّرة في ثقافتنا العربية، عندما تتملّكنا الدهشة والعجب من شيء، وهي تعكس الثقافة التي استعار منها الكاتب هذه المقارنة أو المشابهة. هي سلطة الحاجة التي من الممكن تحقيقها عن طريق السّخرية، فالواقع في معظم الأحيان يقف عاجزاً عن تحقيق ما يطلع له الإنسان في حدوده الدنيا، “عامّة أنا اللّي شفته واللي ما شفتوش إجعلني ما شفته، الدور والباقي على عيالي.. عمرهم ما راحوا لا سينما ولا مسرح.. ولا ح يروحوا.. بيتفرجوا على الدش على القهوة اللي تحتينا، ربنا معاهم.. أنا شخصيَّا مش عارف إيه اللي ممكن يطلع في أمخاخهم غير الصبَّار ص٣١”.
الخميسي من خلال “التاكسي” رسم صورة روائية على هيئة أصنام في صور شتّى، لا على هيئة أحجار صماء، بل أصنام متحركة وصلت إلى حدّ أصبحت وثناً يجلّها العباد ويتذلّلون لها ويتهافتون للدّفاع المستميت عنها، وإنّ السّعي خلفها سيسمى أيقونة، يقدِّسه النّاس ويركعون لها بعصبية عمياء، إنّها لقمة العيش، “- زي ما قلنا عربيات بالهبل ح تقلب تاكسي.. والحكاية دي فيها سبوبة للحكومة ولناس كثير، يعني فيها فلوس بالعبط للمرور، كلّ عربية عشان تقلب “تاكسي” لازم تدفع للمرور رخص وخلافه، والسواقين الجداد على العربيات دي عملوا رخص مهنية اللي برضة فيها فلوس كثير، وبعدين التاكسيات دي كلّها لازم تشتري عدادات ص١٠١”.
الخميسي في “تاكسي” أبدع في ربط الشكل بالمضمون ووظفهما، أحدهما في خدمة الآخر، وقد دأب الكاتب على البحث عن سردية تتناول القضية السّياسية، والاجتماعية الطّبقيّة، التي شغلت باله ومثّلت هاجسًا يقلقه، وما أنْ يقف على تلك القضية حتّى تغدو الأمور الأخرى المتّصلة بالواقع اللّغوي والفني للنص أمورا هامشية. هذا ما قد يفسّر اضطراب تسمية “تاكسي” رواية أو نصوص واقعية وسبب هذا الاضطراب التباس التصنيف لهذا الشّكل الإبداعي٠ واعتناق الكاتب لقضية الإنسان المصري، فهو، لهذا، واقعيّ في جوهره، لا يخرج عن هذا النهج أبدًا. فموقع الخميسي من الواقع المضطرب يسري في “تاكسي” سريان الدّم في الشّرايين، ولهذا يستعصي عليه. الامتثال لقواعد الجنس الأدبي. و”تاكسي” في إحدى تجلّياتها تعبير عن اللاوعي عما فيه من رغبات مكبوتة تؤرّق الراوي، ويمكن القول إنّ “اكسي” هي لغة الشهوة والتعبير عن هذه الرغبات المكبوتة، يحرّرُهُ من تأثيرها السّلبي للحالة النفسية، وبالكشف عن الذّات، بالواقع، وليس بالخيال.
وفي كلا الحالتين إنّ المادة الحية التي يتكوّن منها الإنسان تتوق للعودة إلى حالتها قبل الحياة: “لأنّنا إذا سلّمنا – جدلا – بذلك، فمعناه أنّ الحياة في عصرنا أصبحت مساوية للموت” وهذا كلّه، ممّا يدعو للتساؤل: من أين جاءت هذه العتمة المظلمة التي ظلّلت حياة الإنسان؟ وهذا التساؤل لا يبحث عن جواب نرجسي، لأنّنا لو سلكنا هذا النهج يتولّد سؤال آخر معترضاً على الجواب النرجسي: لكن الإنسان يواصل حياته بطريقة طبيعية وإنْ كان مجبراً عليها، لكن هذا الإجبار لا يؤدي إلى الهستيريا، وهو الطريق المعبّد للنرجسية، وهذا ما لم يسعَ له الخميسي.
على أنَّ من يقرأ “تاكسي” لخالد الخميسي، ويتعمّق في فهم ما سعى إليه من تفسير القائم على الترميز الذي يأخذ شكلاً فنتازياً، ولماذا يلجأ الخميسي إلى الرمز “التاكسي” وما الذي يمنعه من أنْ يشير لذلك “التاكسي” على أنّه الواقع الذي يعيشه الإنسان في مصر والعالم العربي، إشارة واضحة من غير ترميز. قد يقول قائل: الخوف من الملاحقة القانونية أو السياسية، وهذا جواب تقليدي، فالنّص الإبداعي في “تاكسي” واقعي بامتياز، لكن في المفارقات المشهدية، وصوره الإنسانية غير المتكرِّرة، هي التي جعلته يذهب للترميز، وهذا ما أضفى جمالية على النص، وفي الكثير من الصّور الإنسانية، كانت الدهشة سيِّدة الصورة.
ويبقى السّؤال الدائم في “تاكسي” ما معنى الكتابة الساخرة؟ في كلّ الأحوال، فالسخرية هي احتفال بالحياة، احتفال بقدرة الإنسان على الاستمرار وعلى البقاء رغم ما يعترض حياته من عقبات، ومن ثمّ فهي احتفاء بالإنسان ذاته وانتصار على قوى الدمار والفساد.
فالسخرية فعلاً على تحطيم حجارة اتخذها الإنسان العربي “نمطية” يقدّم لها القرابين زلفى. الأمر الذي جعل حياته في شكل من الأشكال “نمطية” بامتياز التغيير فيها أصبحت تجد صعوبة شديدة، مما دفع هذه “النمطية” تخلق نماذج إنسانية لا تقدر ولا تستطيع التّفكير في التّغيير، وكأنّ هذا التغيير عمل من أعمال الشيطان، ولا يحبّذا الاقتراب منه. هذا الخوف المتفشّي والمنتشر في حياتنا، جعل منّا أنماطا وأصناما، تعتاد المعتاد.
السخرية في “تاكسي” وُظِّفت في الكشف عن الأوضاع الحُبلى بالغضب والسّخط التي تدفع إلى البحث عن سلوك ما لتغيير هذه النمطية. سلوك يبحث عن الحقيقة التي تُعرف عن آدميته، وليس سلعة يتمّ تداولها في سوق الحياة لصالح الذي يمتلك قدرة على تسويق الإنسان، كرقم في بازار البيع والشراء.
أبرز مظاهر السخرية في ” تاكسي” هي بنية الشعور بالظلم الذي لا ينتهي، ولا يقف عند حد، وهذه الصورة الساخرة ما هي إلا كمبيالة مستحقة ولا تقبل التقسيط على الإنسان يدفعها، ودون تذمر، وكأنّ هذه الصورة الإنسانية قدرًا لا مهرب منه. فالسّخرية بهذا المعنى ثقافة مؤدلجة لا يمكن التواصل معها إلّا من خلال “تاكسي” الذي كان ترميزًا لكلّ حياة نعيشها وتجارب نمارسها في الحياة.
خالد الخميسي في “تاكسي” اختزل حياة سائق “التاكسي” كأنّه يعيش بشكل عضوي بين المعتاد والاستسلام للواقع. وكأنّ الخميسي يفنِّد مقولة ديكارت “أنا أفكِّر فأنا موجود” وترك الإجابة عن هذه المقولة للتاكسي وسائقها.