حامد الضبياني يكتب عبد السادة البصري شاعر نزف الجرح
عبد السادة البصري شاعرٌ نَزَفَ الجنوبُ بين حروفه حين تصبح القصيدة شاهدًا على الجراح والملح والمنفى.

في أقصى الجنوب، هناك حيث تندمج الأرض بالملح وتشتد الملوحة حتى في الزفير، ويمتزج المدُّ بدماء الشهداء، وتهدهد الأمواج صرخات المدن الباكية، وُلد الشاعر عبد السادة البصري، لا على هامش الحياة، بل في شقوقها… لا في نعيم المدن الوثيرة، بل في خاصرة العراق الأكثر وجعًا: الفاو.كانت الفاو مدينة تقاوم الماء بالحطب، وتقاوم الموت بالنخيل، وتقاوم النسيان بالشعر. ومن قلبها، خرج عبد السادة، كأنّه قامة من نخلٍ غاضبٍ، لا تنحني إلا للريح، ولا تنكسر إلا لتثمر. ولد في بيتٍ ريفيٍّ يشبه أسطورةً متروكة على حافة الخليج، وفتَحَ عينيه على “الملح” كأوّل درسٍ في اللغة، و”الفقد” كأوّل كتابٍ في الذاكرة.في بيتٍ مشبع برائحة الميناء والنضال، كان الأب عاملًا يساريًا يوزّع وعيه كمنشورٍ سرّي، ويزرع في قلب صغيره جذور الشكّ والتأمّل… هناك، في ريفٍ معزول، حيث لا يصل الشعر إلا عبر الريح، تلبّسه هاجس السؤال: من نكون؟ وما الحقيقة؟ ليغرق في بحور القراءة منذ نعومة الأصابع، وينهض من فقره بعنفوان القصيدة.
لم يكن طريق الشعر مفروشًا بالجوائز ولا التصفيق، بل كان مفروشًا بالفقد، والمنفى، والموت القريب. كتب الشعر الشعبي أولًا، كما تكتب الجدّات الأحزان على الأبواب، ثم هام في الخطابة، فحصد الجوائز في الفاو، ومن ثم انفتحت له الفصحى كنافذة على المطلق، فكتب العمود، والتفعيلة، وأخيرًا النثر… لأنه —كما قال— قصيدة النثر وحدها هي التي تتمرّد، وهي التي تجعلك تحلّق بلا أثقال، وتكتب بلا قيود.كانت أولى قصائده تبثّ من إذاعة الكويت عام 1979، بعنوان: “هناك عند الساقية”، وكأنّه يقول لنا منذ البدء: “أنا شاعر ماءٍ وساقيةٍ، لا شاعر منابر”. منذ تلك اللحظة، لم يتوقّف عن الكتابة، ولم يتوقّف عن الخسارة.نزح قسرًا من قريته أثناء الحرب العراقية الإيرانية، وذوّب الطينَ من قدميه في دروب اللجوء الداخلي، ثم فقد والده بعد أيام، فارتجَّت روحه، وتصدّعت القصيدة داخله، لتصبح بعدها أكثر قتامة، وأكثر صدقًا. غاص في سواد الحروب، حتى سُجن، ثم نُفي إلى جدران الرضوانية وسجون الأنبار والرشيد، حيث كان الجلادون يسرقون حتى الأصوات، لكنه كتب.
كتب قصائد تنفجر بالأسى، لكنه كان يسكنها كما يسكن العاشق عيون من يحب، فكل بيتٍ من شعره كان خندقًا آخر للنجاة. كتب وطبّع بخفاء، في زمنٍ كانت القصيدة فيه جريمة، وأصدر مجموعات شعرية “مُستنْسَخة”، عبر ما عُرف بأدب الظلّ، مع شعراء آخرين يلتقون معه في الحزن والنهر.في عام 1998، أصدر مجموعته الأولى: “لا شيء لنا”، وكأنّه يوقّع على دفتر الخسارات. وبدل أن يكون عنوانًا للانطفاء، كان عنوانًا لولادة شعرية مدوية، كتبت عنها أكثر من 65 مقالة، وترجمت إلى لغات عديدة، وأعيد طبعها لاحقًا. تبعتها “تضاريس”، ثم “هكذا دائمًا”، و**”لم أستعر وجهًا”، و”المعنيّ أكثر منّي”، و”غرقى… ويقتلنا الظمأ”**، وصولًا إلى “وحدك.. تفتح نافذة للضوء” عام 2025.هذا الشاعر، الذي قُذِفَ إلى محرقة الحرب، وأصيب في رأسه فضعف بصره وسمعه، لم تضعف بوصلته الشعرية. ظلّ يكتب، لا ليحترف الكتابة، بل ليهرب من الفناء. ظلّ يسكن المنافي في قلبه، ويحنّ إلى فاوٍ لم يعد إليها منذ عقود، يروي حكايات السجن والمنفى والطين والطفولة المعلّقة بين قصفٍ وقصيدة.في داخله، مدينة كاملة لا تزال تحت الحصار. وفي لغته، خليجٌ كاملٌ من الألم… لكنّه يحيله إلى ماءٍ صافٍ، يشرب منه القارئ ويعطش أكثر.مع الشعر، عمل في المسرح، في الصحافة، في النقد، في الإعلام… كان صوتًا جنوبيًا بامتياز، لكنّه لم يكن إقليميًا، بل كونيًا في إنسانيته. كتب في مجلات وصحف عربية وعراقية، وكان له أعمدة ثابتة وصوت واضح في المشهد الثقافي العراقي، إذ لا يكاد مهرجان يُذكر دون أن يكون اسمه من ضوءه.
اليوم، بعد أكثر من أربعة عقود من الكتابة، صار عبد السادة البصري جزءًا من تضاريس القصيدة العراقية الحديثة، وصارت سيرته الذاتية مرآةً لجيلٍ كاملٍ كُتِبَ عليه أن يولد في فوهة البندقية، ويعيش في سجن، ويكتب تحت الضوء الخافت، لكنه لا يموت.كلّ قصيدةٍ له هي شاهدٌ على زمنٍ منسيّ، وكلّ ديوانٍ هو وثيقة حبّ واحتجاج. إنّه ليس شاعر الجنوب فقط، بل شاعر العراق الذي يتلو تراتيله بملحٍ، ويعيد كتابة وجع المدن المهملة على ورقٍ يشبه الكفن.إنه عبد السادة البصري… الشاعر الذي لم يُهزم، بل هزّ بيد القصيدة أبوابَ السجون حتى انكسرت.
وما تزال كلماته حتى اليوم، تمشي فوق مياه الخليج المالح، لتروي فاوًا جفّت فيها الضحكة، لكن لم تجفّ فيها القصيدة.