أخبار عاجلةالرئيسيةدراسات ومقالات

د. محمد سعيد شحاتة يكتب تشظي المعنى وموت الذات في رواية (كائن رمادي)

مقاربة تفكيكية وجودية عبثية

تسعى هذه الدراسة إلى تفكيك البنية الدلالية والسردية لرواية كائن رمادي، بما تحمله من تمثيلات فلسفية معقدة لحالات الإنسان المعاصر، المُثقل باللا يقين، والانكسارات الوجودية، والبحث العقيم عن معنى في واقع مبعثر. الرواية تكتب عن ذات بلا هوية محددة، وعن مدينة تمتص الأفراد وتحيلهم إلى ظلال رمادية. ومن هنا تنطلق المقاربة لتحلل الرواية وفق ثلاثة أطر فلسفية متقاطعة: التفكيكية، الوجودية، والفكر العبثي، إلى جانب تفكيك بلاغي وسيميائي للمشاهد والنصوص.
رواية “كائن رمادي” هي واحدة من أبرز روايات الكانب نشأت المصري، وتتناول الرواية مواضيع الغربة والاغتراب النفسي والاجتماعي، وتدور أحداث الرواية حول شخصية بطل يعيش حالة من التشظي الداخلي بين هويته الحقيقية والضغوط الاجتماعية المحيطة به، مما يجعل حياته كأنه كائن بين لونين متناقضين (رمادي بين الأبيض والأسود)، وتستخدم الرواية الرمزية اللونية “الرمادي” لتجسيد حالات التردد، والضعف، والغموض في الذات، مما يعكس صراع البطل مع واقعه ومع ذاته، تتناول الرواية أيضًا قضايا الاغتراب في المدينة الكبرى، والإحساس بالوحدة، والصراعات الداخلية، وتأثير التحولات الاجتماعية والسياسية على الفرد.
تحكي الرواية قصة رجل يعيش في مدينة كبيرة تعج بالضوضاء والتناقضات الاجتماعية، وهو يعاني من شعور مستمر بالغربة عن نفسه وعن محيطه. ويشعر البطل كأنه “كائن رمادي” بين ألوان الحياة المتضادة، لا ينتمي بالكامل لأي جهة، لا الأبيض النقي ولا الأسود الصريح، وتبدأ الرواية بمشاهد من حياته اليومية، حيث يعاني البطل من انقسام داخلي بين رغباته الحقيقية والضغوط التي تفرضها عليه الحياة، مثل توقعات الأسرة، والمجتمع، والعمل. ويخلق هذا الانقسام حالة من التشظي النفسي؛ فيبدو كما لو أن ذاته مقسمة إلى أجزاء متنافرة، وتتوالى الأحداث فتظهر مواقف تكشف الصراعات النفسية للبطل، مثل محاولته للتواصل مع أشخاص حوله، وبحثه عن معنى للوجود، وتمرده الخفي على القيود الاجتماعية، وفي النهاية، لا تقدم الرواية حلاً نهائيًا أو استقرارًا نفسيًا، بل تترك القارئ مع إحساس بالتساؤل المفتوح حول الهوية، والانتماء، والذات في عالم متغير.
الرواية ليست سردًا خطيًا بسيطًا، بل تتنقل بين الماضي والحاضر، والواقع والخيال، كما أن السرد يتفكك أحيانًا إلى مشاهد متقطعة، تعكس التشظي النفسي للبطل، ويميل أسلوب الرواية إلى التجريب السردي؛ إذ يعتمد على تقنيات مثل التنقل بين أزمنة وأمكنة مختلفة، وتقسيم السرد إلى شظايا متفرقة تعكس التشظي النفسي للبطل، كما يستخدم الكاتب لغة رمزية قوية؛ لتعكس تلك الحالة، حيث يصف المشاهد والألوان والتفاصيل الصغيرة في حياة البطل بطريقة تجعل القارئ يشعر بعمق الوحدة والاغتراب.
الموضوعات الرئيسية في رواية “كائن رمادي”

1. الهوية والتشظي النفسي: الرواية تطرح سؤالًا جوهريًا عن “من أنا؟” في ظل متغيرات اجتماعية وسياسية. والبطل يعاني من انقسامات داخلية تجعله “كائنًا رماديًا”، أي لا يقبل وضعًا محددًا أو هوية ثابتة.
2. الغربة والاغتراب: الغربة هنا ليست فقط عن المكان، بل هي غربة داخلية عن النفس، وعن المجتمع. ويشعر البطل بأنه لا ينتمي إلى محيطه، ولا حتى إلى ذاته.
3. الصراع بين الحرية والقيود الاجتماعية: تظهر الرواية كيف تحاصر القيم الاجتماعية والعائلية الأفراد، وتفرض عليهم أنماط حياة معينة، مما يولد صراعًا داخليًا بين الرغبة في التحرر والالتزام.
4. اللون الرمادي كرمز: استخدام اللون الرمادي كعنوان ورمز أساسي يعبر عن حالة غموض وعدم وضوح الهوية، وعن التردد بين قطبين متناقضين في الحياة (كالخير والشر، والصواب والخطأ).
5. التجريب السردي والتشظي في البناء: لا تتبع الرواية تسلسلًا خطيًا عاديًا، بل تعتمد على التنقل بين أزمنة وأماكن وأفكار، مع فواصل وانقطاعات تعكس طبيعة التشظي النفسي للبطل.
الرؤية الفكرية لرواية كائن رمادي: عبر الوجودية، والتفكيك، والعبث
تمثل رواية كائن رمادي للكاتب نشأت المصري سردية تمرد داخلي متشظٍ، تسعى إلى الإمساك بخيوط المعنى في عالم تغلفه الضبابية والقلق. يتقاطع فيها البعد الذاتي للراوي مع تمثلات فلسفية عميقة، تجعل منها نصًا يراوغ القارئ بمعناه ويقاوم أي تأويل نهائي. وسوف نُقارب هذا العمل عبر ثلاث عدسات فلسفية متداخلة: الوجودية، التفكيك، والعبث، بما يكشف عن الرؤية الفكرية الجوهرية التي تتأسس على قلق الهوية، وهشاشة المعنى، وتلاشي المرجع.
أولًا: الوجودية والاغتراب الجوهري
تمثل الرواية صوتًا فرديًا قلقًا، يتحرك داخل بنية وعي مأزومة، تختبر انفصال الذات عن العالم، وفقدانها ليقينها القديم. يتجلى ذلك بوضوح في قول الراوي (يعذبني أن يقارنني أحد بشخص ما، ويحتج على أفكاري التي يراها مختلفة، كأنه يحتج على كينونتي) هنا يحضر المفهوم السارتري للحرية بوصفها مسؤولية وجودية، لا يمكن التنصل منها، إذ يقول جان بول سارتر (الإنسان محكوم عليه بالحرية. لأنه لم يخلق نفسه، ومع ذلك هو مسؤول تمامًا عن كل ما يفعله) وهذا ما يتجلى في شعور الراوي بأنه لا يطلب تصديقًا من الآخرين، بل يطالب فقط بحق التجريب (أنا لا أدّعي أنني على حق، لكن أريد أن أخوض التجربة وأتراجع باقتناعي) الرغبة في اختبار الوجود، رغم الخطر، هي فعل وجودي جوهري. لكن المفارقة أن هذا الوجود ذاته موسوم بالفناء، حيث يقول (الأشباح أيضًا تخضع لقانون النهاية. إذن كلنا في الموت شرق) وهنا تحضر فكرة الموت كيقين وحيد في فكر مارتن هايدغر، الذي يرى أن الوجود نحو الموت هو ما يمنح الكائن الإنساني أصالته (الوجود الأصيل هو الذي يعي موته الخاص)
ثانيًا: التفكيك وتشظي المعنى
يتعمد السرد في كائن رمادي خلق انزياحات دلالية تشكك في ثبات الهوية والمعنى. يتكرر حضور “المرأة النصف”، بوصفها شبحًا بلا تعريف مكتمل، رمزًا للتشظي، واللا اكتمال، بل لتأجيل المعنى، على نحو ما وصفه جاك دريدا في نظريته عن “الاختلاف (العلامة هي دوما في حالة إرجاء، والمعنى لا يتحقق إلا عبر سلسلة لا نهائية من الإشارات) (المعنى لا يُمنح أبدًا دفعة واحدة، بل يؤجل دومًا، ويتشظى في تتابعات العلامات) حين يقول الراوي (مشكلتي ليست الأشباح أو غير ذلك، إنما هي أنني لم أحدد كنه مشاكلي على وجه الدقة) فهو يعلن ضمنًا انفلات المرجع، وانهيار مركز ثابت للتأويل، وهو أحد أعمدة الكتابة التفكيكية، التي ترى أن النص لا يعني إلا بمقدار ما يتأخر عن المعنى. إن المرأة النصف، هي أثر لا يُمسك به، بقدر ما يفتن به النص.
ثالثًا: العبث وتلاشي التبرير الوجودي
الوعي بالموت، والعبور المعلق بين الطائرة والأرض، الواقع والحلم، يمنح الرواية بعدًا عبثيًا عميقًا، أقرب إلى عالم كامو، خاصة في لحظة يقول فيها الراوي (لو أن الطائرة احترقت، فلن نتألم كثيرًا، سيكون الفضاء مقبرتنا، وعلى من يريد زيارتنا أن يمتطي طائرة، ويزور رفاتنا الفضائي المتناثر) هذا السخرية السوداء تعبّر عن لا جدوى الحياة، وعن إدراك استحالة التفسير الكامل للوجود. يقول ألبير كامو (العبث لا ينشأ من كون الحياة بلا معنى فقط، بل من رغبة الإنسان في تفسيرها) الرد الذي يقترحه السارد شبيه بما يسميه كامو بالتمرد العبثي (ثمة حل وهو أن نزورهم في أحلامهم، حل مريح جدًا لكل الأطراف، أليس كذلك؟) إنه لا يهرب، ولا يؤمن بالخلاص، بل يقترح حلاً متخيلاً، يتماهى مع منطق اللاجدوى.
خاتمة: الكائن الرمادي في ضوء الماهية الهاربة
الرواية تضع الذات في مواجهة مع فشل الأنظمة الرمزية كافة: الهوية، الوطن، الطفولة، الأبوة، حتى اللغة نفسها. إنها تسعى لتفكيك الثنائيات: الحياة/الموت، العقل/الجنون، اليقين/العبث. في عالم رمادي لا يَعِد بشيء ولا يمنح شيئًا، كما كتب ميلان كونديرا (الإنسان ينسى لأنه لا يستطيع تحمل ثقل الوجود) وهكذا، فإن “الكائن الرمادي” ليس فقط شخصية، بل رؤية للعالم: كائن معلق، يعيش نصف حياة، ويقارب الوجود عبر وهم النصف، وذاكرة النقص، وقلق الموت.
تحليل الشخصية الرئيسية:
1– البطل (الشخصية المحورية) – رمز الإنسان المُشتّت بين ذاته والعالم: هو رجل عادي في الظاهر، ولكنه داخليًا معقد، يعيش صراعات مستمرة مع ذاته. لا يجد مكانًا يريحه، ولا إطارًا يتلاءم مع هويته، ويحاول التوفيق بين أطراف حياته المتنازعة، لكنه يفشل في تحقيق استقرار نفسي، فتتبلور شخصيته ككائن بين الضباب، غير واضح ولا محصور، ويمكن تشخيص هذه الشخصية من زوايا متعددة:
• الاغتراب الوجودي:
الشخصية تعكس أزمة الإنسان الحديث في البحث عن ذاته وسط عالم غريب ومتناقض. يعاني من انفصال داخلي – كما يشرح سارتر وميرلو بونتي – بين “الذات” و”الآخر”، حيث لا يجد توافقًا بين كيانه الداخلي ومتطلبات الواقع.
• الذات المتفككة:
هنا يمكن تطبيق فكرة دريدا عن التشظي والهوية المتحركة التي لا يمكن حصرها في تعريف واحد ثابت. البطل يعيش في حالة “تأجيل” مستمر لهويته، فلا هوية حاسمة له، بل هو في حركة دائمة نحو الذات، وهي لا تتحقق.
• صراع الحرية والالتزام:
كما عند سارتر، الشخصية في صراع مع “الآخر” ومع “الذات”، حرة، ولكن مقيّدة بقيود المجتمع، مما يخلق قلقًا وجوديًّا، إنه يعيش في “اللاحدود” التي لا تسمح له بالاستقرار.
• اللون الرمادي كفلسفة وسطية:
الرمادي هو لون وسيط بين الأبيض والأسود، يرمز هنا إلى حالة اللايقين والضبابية، وهي حالة الإنسان الحديث الذي لا يستطيع أن يختار أو يحدد ذاته ضمن ثنائية ثابتة.
2 – الشخصيات الثانوية – تجسيد للقوى الخارجية والداخلية المؤثرة
• الأسرة والمجتمع: تمثل هذه الشخصيات “الأطراف” التي تمارس ضغطًا على البطل لتشكيل هويته وفقًا لقوالب اجتماعية محددة، كالقيود والالتزامات. من منظور هيغلي، هي تمثل “الآخر” الذي من خلاله تتشكل الذات، لكن هذه العلاقة متوترة.
• الأصدقاء أو المعارف: هم مظهر لمختلف المسارات والاختيارات الممكنة، يعكسون تعددية الخيارات التي يواجهها البطل، ولكنهم أيضًا يسلّطون الضوء على عزلة الشخصية وفشلها في الانتماء.
3 – الرمز التجريدي للشخصيات ككائنات متباينة
• الرواية تتعامل مع الشخصيات ليس فقط كأفراد، بل كرموز تمثل أطيافًا مختلفة من الحالة الإنسانية:
o البطل: الإنسان بين التردد والاضطراب.
o المجتمع: الهيمنة والضغط.
o الذات الداخلية: الانقسام والتشظي.
أبعاد فلسفية إضافية:
• الزمن والتجربة الوجودية: كما في فلسفة هايدغر، تجربة “الوجود في الزمان” تظهر في الرواية من خلال التنقل بين الماضي والحاضر، مما يعزز إحساس البطل بالموقتية والافتقار للاستقرار.
• العبثية: يمكن ربط حالة البطل بفلسفة كامو، حيث الحياة تبدو بلا معنى ثابت، والصراع هو محاولة إيجاد معنى في عالم عبثي.
1 – التحليل الوجودي لشخصيات “كائن رمادي”
• الذات الحرّة والمغرقة في القلق: البطل في الرواية يعاني من قلق وجودي نابع من تحمله حرية الاختيار ومسؤولية ذاته في عالم لا يقدم له إجابات جاهزة. كما يقول سارتر: “الإنسان محكوم عليه بالحرية”، وهذه الحرية تبدو للبطل عبئًا ثقيلًا، إذ لا يجد ذاته في الهويات الجاهزة التي يفرضها المجتمع.
• الاغتراب عن الذات والآخر: البطل مغترب عن ذاته، لأنه لم يحقق “الذات الأصيلة، ومغترب عن “الآخر” في محيطه الاجتماعي. هذا الاغتراب يتماهى مع تجربة هايدغر في “الوجود-في-العالم” الذي يفقد الاتصال بالأشياء المحيطة ويتعرض للـ”اللا-الوجود.
• الصراع مع الوقت والذاكرة: السرد غير الخطي في الرواية يعكس تجربة الوجود مع الزمن؛ فالذات ليست كيانًا ثابتًا، بل هي في حركة دائمة بين الماضي والحاضر والمستقبل. الزمن هنا ليس مجرد إطار خارجي، بل جزء من بناء الهوية.
2 – التحليل العبثي لشخصيات الرواية
• البحث عن معنى في عالم بلا معنى: تمامًا كما في فلسفة ألبير كامو، البطل يعيش في عالم عبثي، حيث لا معنى مطلق للحياة، ولكنه يواصل البحث عن معنى رغم إدراكه لهذا العبث. هذا الصراع يخلق حالة من الاغتراب والاغماء النفسي.
• التمرد على العبث: رغم حالة الاغتراب، هناك تمرد ضمني في شخصية البطل؛ فهو يرفض الاستسلام لعدم المعنى ويقاوم الضياع عبر استمرار البحث عن ذاته والتمسك ببعض القيم، حتى لو كانت غير مستقرة.
• الوضعية الرمادية كتمثيل للعبث: اللون الرمادي يعكس حالة اللايقين والوسطية التي تميز حالة العبث، حيث لا وجود للقطبية الواضحة أو الحلول النهائية.
3 – التحليل التفكيكي لشخصيات الرواية
• تفكيك الهوية والتشظي: اعتماد الرواية على التشظي السردي يعكس فلسفة جاك دريدا في تفكيك الثنائيات ورفض الهوية الثابتة. شخصية البطل ليست ثابتة أو ذات وحدة، بل متعددة ومتناقضة. هو “كائن رمادي” لا يمكن تصنيفه ضمن ثنائية صلبة (مثل أبيض/أسود، صالح/طالح).
• انفلات المعنى والتأجيل: ا الرواية توظف التنقل بين الأزمنة والمشاهد لتظهر كيف أن المعنى لا يصل إلى حالة نهائية، بل يتأجل باستمرار، مثلما يشرح دريدا. هكذا يتأجل فهم الذات أيضًا، فلا يُمكن للبطل أن يصل إلى تعريف محدد لهويته.
• تفكيك الثنائيات المجتمعية: الشخصيات الثانوية، مثل الأسرة والمجتمع، ليست مجرد داعمة أو معارضة للبطل، بل تمثل أيضًا ثنائيات مجتمعية مثل الحرية/الالتزام، الفرد/الجماعة، الأصل/الحداثة، التي تفككها الرواية لتبرز تعقيد الواقع.
زوايا أخرى للتحليل يمكن أن تكون مجال دراسات للرواية:
تتعدد الزوايا النقدية التي يمكن من خلالها دراسة الرواية، ولكننا لن نتعرض للرواية من خلالها، وإشارتنا لهذه الزوايا هنا إنما هي من باب فتح المجال أمام الباحثين لتقديم دراسات أخرى للرواية يمكن أن تثري العمل؛ فالعمل الأدبي يكتسب حياته من خلال تعدد زوايا النظر، وقابليته للتأويل من خلال هذه الزوايا المتعددة:
1 – التحليل النفسي:
• ماذا يبرز؟ صراعات اللاوعي، الرغبات المكبوتة، العلاقة مع الأم (إيمان) والأب، ودور الرموز كالأشباح والمرأة النصف كتمثيلات نفسية.
• كيف؟ تحليل رمزية “المرأة النصف” كشبح يمثل أزمة هوية نفسية، ومفارقة شخصية رمزي مع ترسيخ نمط “الكائن الرمادي” الذي يعبر عن انقسام الذات أو التمزق النفسي.
• مثال: نانا والاضطرابات النفسية التي تعانيها تعكس ضغوطًا نفسية داخلية وعجزًا عن التوافق مع الواقع.
2 – التحليل الاجتماعي والسياسي:
• ماذا يبرز؟ نقد الأوضاع الاقتصادية والسياسية، الفساد، البطالة، تهديدات الأمن، تأثير الحروب (مثل الحرب الروسية-الأوكرانية) على الحياة اليومية.
• كيف؟ مناقشة كيفية تأثير هذا الواقع على تطلعات الشخصيات، وتحليل علاقة السلطة بين وليد، رمزي، والحكومة.
• مثال: تخزين السلع واحتكارها كرمز لاستغلال الأزمات، وكيف أن الحُكم يتحول إلى آلة قمع وسلطة غير شفافة.
3 – التحليل النسوي
• ماذا يبرز؟ تمثيل المرأة في الرواية (إيمان، عائشة، نانا، غادة)، وأدوارهن المتعددة بين الصمت، المقاومة، القوة الخفية، والتمرد.
• كيف؟ تحليل نماذج “الصمت المؤنث” مقابل حضور النساء النفوذ الخفي، وقراءة العلاقة بين السلطة الذكورية والأنثوية في البيت والمجتمع.
• مثال: غادة كرمز للصمت الحاضر، نانا كشخصية تعيش التوتر بين تحررها وضعفها النفسي.
4 – التحليل الرمزي والسيميائي
• ماذا يبرز؟ تحليل الرموز المتكررة مثل الدراجة، كرة القدم، الطائرة، الأشباح، المدينة، البيت، الجبل، والفضاء.
• كيف؟ ربط هذه الرموز بمفاهيم أكبر كالحرية، العزلة، الحركة، الهروب، الاغتراب. دراسة السيميائية الاجتماعية في تمثيل المكان والشخصيات.
• مثال: الدراجة كرمز للحركة الفردية المحدودة، والطائرة كرمز للهشاشة والعبثية.
5 – التحليل الزمني والبنيوي
• ماذا يبرز؟ كيف يُبنى الزمن في الرواية؟ هل هو خطي، متقطع، مستدير؟ وهل يستخدم فلاش باك أو تقنيات أخرى؟
• كيف؟ دراسة تعدد الأصوات السردية، والتحولات في وجهات النظر، وكيف يُستخدم الزمن لخلق توتر درامي أو تداخلات بين الواقع والذاكرة.
• مثال: انتقالات الراوي بين الحاضر والماضي (تذكّر نانا، لحظة الطائرة، ذكريات الملعب).
6 – التحليل الفلسفي الأخلاقي
• ماذا يبرز؟ القضايا الأخلاقية حول الرشوة، الانتهازية، المسؤولية الفردية، الفقر، والعدالة الاجتماعية.
• كيف؟ قراءة الصراعات الداخلية للشخصيات من منظور فلسفة الأخلاق (مثل آراء كانط أو نيتشه) حول الحرية والاختيار.
• مثال: قرار رمزي بالثراء السريع عبر التخزين والاحتكار، وتأملات وليد حول فساد السلطة.
7 – تحليل الأسلوب واللغة
• ماذا يبرز؟ كيفية بناء الجمل، استخدام الصور البلاغية، التكرار، التناص، الحوار الداخلي، والمونولوجات.
• كيف؟ دراسة أثر الأسلوب في تشكيل الجو النفسي والدرامي، كيف تعكس اللغة القلق والتوتر وتخليص الذات.
• مثال: استخدام السرد المتداخل بين الراوي والمونولوج الداخلي لإظهار الانقسام النفسي.
8 – تحليل الموضوعات الكبرى
• ماذا يبرز؟ الموت، الزمن، الاغتراب، الهوية، الحرية، العائلة، الوطن، الهجرة، الحلم والواقع.
• كيف؟ دراسة كيف تتشابك هذه الموضوعات عبر الشخصيات والأحداث، وكيف تعكس رؤية المؤلف للوجود.
• مثال: التنقل بين المدن (البلدة، القاهرة، إسطنبول) كتمثيل للهجرة والاغتراب.
هذه الزوايا النقدية كلها قابلة للتطبيق على الرواية، ومن ثم فإن الرواية تكتسب حياتها، وقدرتها على البقاء من خلال دراستها من زوايا مختلفة، تبرز كل زاوية جانبا من فكر الكاتب، أو الرسالة التي أراد إيصالها إلى المتلقي.
التفكيك بوصفه منهجًا لإعادة قراءة الرواية:
تُبنى الرواية على إزاحة المعنى وتفكيك المرجع الواقعي، فتختفي الحدود بين الذات والآخر، وبين الداخل والخارج، ويصبح النصّ ذاته نسيجًا من الإشارات الزائفة، حسب مفهوم “الأثر” عند دريدا؛ إذ لا يستقر المعنى في موقع بعينه، بل يؤجل دومًا، وسوف نقوم هنا بدراسة الرواية من الزاوية التفكيكية، مع أمثلة
1 – تفكيك ثنائية الأبيض/الأسود وبروز الرمادي في رواية كائن رمادي
ينطلق التفكيك – كما أسسه جاك دريدا – من الشك في الثنائيات الضدية (مثل: الخير/الشر، الحضور/الغياب، العقل/الجسد، الأبيض/الأسود)، بوصفها أنساقًا ميتافيزيقية تهيمن على الفكر الغربي، وتؤسس لتراتبية خفية تمنح طرفًا الأفضلية على الآخر، وفي هذا السياق، تُقوّض رواية كائن رمادي هذه الثنائيات، لا بتقليبها فقط، بل بتفكيكها عبر بروز “الرمادي” كمنطقة تأويلية مضطربة، تمثل فضاء التردد، التشظي، وتعدد المعنى.
البنية الرمزية للون: من الأبيض/الأسود إلى الرمادي:
أ. الأبيض والأسود كقيم متعارضة: يظهر الأبيض في الرواية بوصفه رمزًا للمثالية، وللنقاء، وللطهر، وربما للهروب من الواقع: مثل لحظات الحنين، الخيال، الأفكار عن الزواج أو الطفولة. أما الأسود، فيُطرح رمزًا للواقع القاسي، وللخيبة، وللخذلان، وللموت أو للذاكرة المتعفنة، ومع ذلك، لا تُمنح هذه الرموز ثباتًا دلاليًا، فكل مشهد يحتوي على طيف من المعاني الملتبسة، تُعرّي تهافت البنية القطبية ذاتها.
ب. الرمادي كفكرة وجودية وتفكيكية: الرمادي ليس فقط لونًا وسطًا بين الأبيض والأسود، بل هو فكرة فلسفية دالة على غياب الحسم، وانهيار الثبات، وتشظي المعنى، العيش داخل منطقة “بين-بين”. وفي كائن رمادي، الرمادي ليس مجرد عنوان، بل “وضع كينوني” للشخصيات، والراوي، والعالم الروائي ككل.
تطبيق تفكيكي من الرواية: المشهد: “اقترب ’’ وليد’’ صاحب الفرح من الزامر يرجوه أن يخفض من رعونة هذا الصخب الفادح، فلم يلتفت إليه ولم يأبه به… الزامر يفكر: لن يستطيع صاحب الفرح أن يستبدل بي أحدا الآن، فلأفرض سطوتي عليه… الكل يذعن لي…”
الزامر، الذي يُفترض أن يكون خلفية بيضاء للفرح، يتحول إلى مركز أسود للهيمنة والسلطة الصوتية. أما وليد، صاحب الفرح، فإنه يصبح مهمشًا أمام الزامر، في انقلاب رمزي على ثنائية السلطة/التابع. وهذا المشهد يعرّي تشظي البنى الاجتماعية والسلطوية: من يملك الصوت يملك “المكان”، لكن هذا الامتلاك مؤقت، مشكوك فيه.
الرمادي يظهر هنا في التباس القيمة: من المنتصر؟ من صاحب الحق؟ هل الزامر مجنون بالعظمة؟ أم وليد ضعيف لا يملك زمام فرحه؟ لا إجابة قاطعة.
الرمادي في الذات واللغة والذاكرة:
أ. الذات الرمادية:
الشخصيات (وليد، الزامر، الصديق، الزوجة، الابنة) تعيش تشظيًا مستمرًا، بلا قدرة على تحديد الموقف أو الذات:
• الأب ليس أبًا كاملًا.
• الصديق ليس صديقًا مفيدًا.
• العروس تختفي فجأة من الحضور الحميمي.
الذوات رمادية: معلّقة بين الوجود والغياب، بين الأدوار الاجتماعية والصراعات الداخلية.
ب. اللغة الرمادية:
اللغة في الرواية تمارس لعبًا صوتيًا، تهكميًا، تفكيكيًا:
• المفردات لا تقدم يقينًا، بل تساؤلًا.
• الجمل تنزلق نحو مفارقة أو مفاجأة، مما يسحب البساط من تحت ثنائيات “الدلالة المباشرة”.
ج. الذاكرة الرمادية:
الذاكرة الشخصية لا تُستعاد كأبيض نقي أو أسود مظلم، بل كمزيج غامض من الألم والبهجة، يتسلل داخل الزمن، يربك الخط الزمني ويحول الماضي إلى منطقة رمادية لا يُعوّل عليها.
الرمادي كفضاء تفكيكي: إن تفكيك ثنائية الأبيض/الأسود في الرواية لا ينتهي بإحلال الرمادي كحل وسط، بل بإبراز استحالة الثبات في الدلالة. الرمادي هنا ليس رمزًا فقط، بل إستراتيجية كتابة، موقفًا فلسفيًا، واختيارًا سرديًا، فالرواية لا تقدم يقينًا، بل قلقًا، ولا تقدم معنىً، بل تساؤلًا عن المعنى، ولا تقدم سردًا متماسكًا، بل سردًا يتعثر في “بينية” الأشياء.
وهكذا، فإن “الرمادي” ليس فقط كائنًا، بل لغةً ونظرةً للعالم، تهز مركزية الدلالة، وتحتفي بتعددها، بما يجعل رواية كائن رمادي عملًا تفكيكيًا بامتياز.
2 – انفلات المعنى وتعدد المرجع.
تقوم الرواية على مبدأ تأجيل المعنى وتفكيك أي مرجعية ثابتة. لا توجد حقيقة نهائية يمكن الإمساك بها، بل تتوالد الإشارات وتتزاحم الدلالات لتنتج الغموض المقصود. لا تُسلِّم الرواية بمرجع واضح للعاطفة، أو للمكان، أو للهوية، بل تجعل كل شيء قابلًا للتأويل، وكل كلمة مؤجلة الدلالة، وتتعدد الأمثلة على ذلك من الرواية:
1. “كنت أحبها، أو هكذا خُيّل إليّ.. من يقرر؟”
2. “أشعر بالغربة حتى في ذاكرتي. كأنني أروي قصة غيري”
3. “كل كلمة تقول شيئًا وتعني آخر، وربما لا تعني شيئًا”
4. “لم أعد أعرف إن كنتُ أعيش فعلًا، أم أكرر مشهدًا متخيلًا”
5. “أبي لم يمت. لكنه أيضًا ليس حيًّا تمامًا فيّ”
6. “الفكرة تفرّ مني كلما حاولتُ الإمساك بها”
7. “هل أنا مَنْ يكتب أم أُكتب؟”
8. “أشتاق لشيء لا أعرفه… لكنه حقيقيٌ جدًا في صدري”
9. “الكتابة لا تنقذني من نفسي… بل تفضح جهلي بها”
10. “كل المعاني مؤقتة… والمفردات تخون دائمًا”
في هذا البعد التفكيكي، تتجلى فلسفة دريدا في تأجيل المعنى حيث يصبح النص فضاءً مفتوحًا للانزياح والتعدد، ولا يثبت على دلالة واحدة. البطل نفسه غير متيقن من نواياه أو روايته أو حتى وجوده، ما يجعل النص مرآة للشك البنيوي في المرجعية.
3 – تشظي الذات وتفكك الهوية… قيد المتابعة.
تطرح الرواية الذات بوصفها كيانًا مفككًا لا يتحقق في جوهرٍ ثابت، بل يتشكل عبر انكسارات متوالية في اللغة والذاكرة والزمن، وتُعرض الشخصية الرئيسية كذات محطمة، غير قادرة على التماهي مع صورة واحدة أو سردية موحّدة، بل تنفلت عبر الضمائر والتجارب والانفعالات، ومن الأمثلة من الرواية:
1. “أنا، أو من كنت أظنه أنا، لم يعد يسكن هذا الجسد”.
2. “كل مرة أتكلم فيها، أشعر أن صوتًا آخر يتحدث نيابة عني”.
3. “المرآة لم تعد تعكسني، بل تفضح الغريب الذي يحتلني”.
4. “أحمل اسمي كأنني أحمل قيدًا، لا علاقة له بي”.
5. “أشعر بأني أتحلل، لا فيزيائيًا، بل وجوديًا”.
6. “أكتب لأعثر عليّ.. لكنني أزداد غربة عن نفسي”
7. “الوجوه تتغير، وأنا أفقد آخر ملامحي”.
8. “أجرب أن أكون أحدًا آخر، لعلني أجدني هناك”.
9. “ذهني ينقسم إلى شخصين، أحدهما يشك في الآخر باستمرار”.
10. “ربما لم أكن شخصًا يومًا… فقط رواية سيئة التحرير”.
من الملاحظ أن هذا المحور يعكس الفلسفة التفكيكية في تقويض مركزية الذات، وتقديمها بوصفها نصًا متشظيًا، تتقاطع فيه أصوات وسير ذاتية متنافرة، والذات لا تتكلم من داخل جوهر، بل تُنتج داخل اللغة كأثر، بوصفها هشاشة لغوية لا يمكن تثبيتها. الرواية هنا تؤكد على استحالة التطابق بين الذات وصورتها، بين الوعي والكينونة، وتعيد إنتاج الهوية بوصفها سؤالًا لا إجابة له.
4 – نقد السلطة الأبوية والتقاليد الاجتماعية
من المحاور التفكيكية المركزية في الرواية هو زعزعة السلطة التقليدية الممثلة في الأب والأسرة والمرجعية الاجتماعية؛ فالبطل يعاني من التشكيل السلطوي الذي مارسه الأبوان على وعيه، وهو ما يتجلى في لغة ملتبسة تمزج بين الطاعة والقهر، وبين الذاكرة والرغبة في الهروب. كما يُفكك النص مفهوم الأسرة كمركز تأسيسي للهوية، ويعيد طرحها كمؤسسة إنتاجية للقهر الرمزي، وأمثلة الرواية في ذلك كثيرة ومتعددة:
1. “زرع أبي وأمي مبدأ التكيف في نفسي، وألا أعترض إلى حد التصادم”.
2. “كنت مطيعًا، لكن في داخلي ثورة مكتومة لم يعرفاها”.
3. “كل قراراتي صنعتها برضا أبي.. أو بخوف منه”.
4. “أمي كانت تبكيني كلما رفضت طعامها، كأنني أخون الوطن”.
5. “أبي لم يصرخ، لكنه كان يزرع فيَّ الخوف كما تُزرع الألغام”.
6. “صوت أبي ظل يلاحقني حتى وأنا أقبل يد زوجتي”.
7. “تربيتُ على أن الرغبة خطيئة، والاختلاف كفر”.
8. “أردت أن أختار بنفسي، لكن صوت أمي اختار لي”.
9. “كل ما فيّ من تردد هو ميراث”.
10. “أنا نتيجة اتفاقهم، لا رغبتي”.
هذه الأمثلة تظهر كيف تُستخدم اللغة العائلية كمؤسسة ترميز، تؤسس للهوية عبر الخضوع والخوف، ما يجعل السلطة الأبوية بنية سردية تفكيكية قابلة للخلخلة. الرواية لا تواجه السلطة مباشرة، بل تُقوّضها من داخلها عبر سرديات شخصية لا تتماهى معها، بل تُنتج خطابًا ساخرًا وهاربًا يُفكك جوهرها الأبوي بالتشظي والانفصال.
5 – غياب المركز وبروز الهامشي.
تعيد الرواية الاعتبار للهامشي، والمسكوت عنه، والمُستبعد من سرديات المركز – سواء كان هذا المركز هو السلطة، أو الأب، أو المجتمع، أو اللغة ذاتها – لا يتحدث السرد من موقع القوة، بل من موقع الشك والارتياب والتشظي. ويتمركز الخطاب السردي في الهوامش: في المرض، في الانكسارات اليومية، في الأحياء المهملة، في الشخصيات التي لا تملك صوتًا تقليديًا، وتتعدد الأمثلة من الرواية في هذا المجال:
1. “ما أكثر ما أحس أنني كائن رمادي هامشي”.
2. “كل الأماكن تبدو لي مستعارة.. لا بيت لي”.
3. “قالوا عني: عابر، لكنه العبور الوحيد الذي صدّقته”.
4. “وظيفتي غير مهمة، لكنني أحب أن أراقب العالم من هذا الدور المنسي”.
5. “أصدقائي بلا أسماء… لكنهم يشبهونني تمامًا”.
6. “في المقهى البائس، هناك فلسفة أكثر صدقًا من خطب السياسة”.
7. “في العتمة تعلمت أن أستمع.. لا أن أتكلم”.
8. “كل الذين يسكنون الظل يفهمون بعضهم دون أن يتكلموا”.
9. “لم أكن في الصورة.. كنت الإطار”.
10. “حين يتكلم المهمش، يصمت التاريخ لحظة ويصغي”.
هنا يُقدِّم النص الوجود الهامشي لا كحالة ضعف، بل كحيز تأملي، وكموقع مقاومة غير مباشرة. الهامش هنا لا يُستعاد، بل يُكرَّس؛ ليعيد مساءلة مفهوم “المركز” ذاته. الرواية تضع القارئ في تماس مباشر مع صوتٍ لا يسعى لأن يصبح مركزًا، بل يعلن هشاشته ووجوده الهارب كقيمة عليا، ما يجعلها نصًا تفكيكيًا بامتياز.
6 – تدمير التسلسل الزمني
تلغي الرواية التسلسل الزمني الخطي، فتبدأ من لحظات متأخرة، وتعود إلى الطفولة، ثم تقفز إلى الحاضر، دون اعتماد واضح على منطق الزمن الموضوعي أو البيولوجي. يُسرد الماضي كحاضر، ويُستدعى الحاضر كذكرى، في بنية دائبة على الالتواء والعودة. ويحرر هذا التكسير المتعمد الوعي السردي من خطية الزمن، ويجعله وعياً تشظّيًا ينتمي لفلسفة ما بعد الحداثة، وأيضا تتعدد الأمثلة من الرواية على ذلك:
1. “أتذكر موتي الأول، وكان قبل ولادتي بسنوات”.
2. “في طفولتي كنت أراني رجلًا يشيخ دون أن يعرف الطفولة”.
3. “الحلم يسبق اليقظة، والذكرى تكتب الحاضر”.
4. “كل فصول حياتي تجيء معكوسة.. الشتاء قبل الخريف”.
5. “كتبت عن لقائنا قبل أن أراك فعلًا”.
6. “متى بدأت؟ سؤال لا أعرف له تاريخًا”.
7. “كأنني أعيش أحداثًا كنتُ كتبتها في دفتر قديم”.
8. “في كل مرة أرجع إلى نفسي، أعود زمنًا إلى الوراء لا إلى الأمام”.
9. “أحيانًا أشعر أنني أبدأ من النهاية”.
10. “التاريخ لا يحفظني… أنا الذي أحفظه على طريقتي”.
بهذا التكسير للزمن، تُمارس الرواية نوعًا من الثورة على مفهوم الزمن الخطّي العقلاني، وتُدخل القارئ في تجربة لغوية/زمنية مشوشة، تجعل من السرد مرآة للاختلال المعرفي والوجودي. فالزمن ليس حاملاً للمعنى، بل متاهة من الطبقات المتراكبة، ما يتسق مع الرؤية التفكيكية للعالم كتشظٍّ لا كحكاية ذات بداية ومنتصف ونهاية.
7 – تفكيك الأنوثة كخطاب.
لا تُقدَّم الأنوثة في الرواية بوصفها هوية بيولوجية أو نفسية مستقرة، بل تُفكك كخطاب اجتماعي وثقافي يتشكل عبر اللغة والمجتمع والنظرة الذكورية. الأنوثة هنا غير ممثلة من خلال صور نمطية، بل تظهر كقناع قابل للخلع، كعلامة قابلة للتزوير، كأداء يتكرر حتى يتشظى، وتأتي الأمثلة من الرواية لهذه الزاوية التفكيكية:
1. “كانت تتكلم عن جسدها كأنه عبء لا يخصها”.
2. “قالت لي: أنا لا أؤمن بأنوثتي، بل بقدرتي على تغييرها”.
3. “عندما أبكي، لا يعني أنني ضعيفة.. بل أنني أرفض تعريفكم للقوة”.
4. “المرأة التي تسكنني ليست دائمًا مرئية”.
5. “أختي قررت أن تصبح ذكرًا في خطابها حتى تُسمع”.
6. “الأنوثة ليست رحمة.. هي سجن ذو ابتسامة”.
7. “المجتمع يلبسني فستانًا حين يشتهي أن يراني ضعيفة”.
8. “كل مرة أنطق كلمة امرأة، أشعر أنني أرتكب فعلًا لغويًا لا أخلاقيًا”.
9. “حين أحببتُ، كانت أنوثتي ضدي، لا معي”.
10. “العطر والصوت الناعم كانا جزءًا من دفاعاتي لا رغباتي”.
تتجلى رؤية الرواية للأنوثة في ضوء التفكيك بوصفها بناءً لغويًا-ثقافيًا، لا جوهرًا بيولوجيًا. تتقاطع هذه المقاربة مع أطروحات جاك دريدا وجوديث بتلر، حيث يتم النظر إلى الهوية الجندرية كأداء لا كمُعطى. والأنوثة هنا لا تُروى، بل تُساءل، وتُهدم من الداخل عبر خطاب يحمل شفرته النقدية، ويفضح كواليس إنتاجه.
8 – حضور الفقد والموت
يمثل الموت والفقد نواة متكررة في الرواية، لا بوصفه نهاية بيولوجية فحسب، بل بوصفه تجربة وجودية تؤسس للذات وتعيد بناء علاقتها بالزمن والمعنى. والموت لا يُقدّم في الرواية كفصل، بل كوجود شبحي، كصمتٍ ممتد، كذاكرة تنزف من داخل النص. أما الفقد، فهو حالة مستدامة تلوّن العلاقة بكل شيء: بالحب، بالعائلة، بالطفولة، وحتى بالذات، ومن الأمثلة الدالة على ذلك من الرواية:
1. “كل الذين أحببتهم صاروا أصواتًا لا أملكها”.
2. “مات أبي مرتين.. مرة حين توقف قلبه، ومرة حين اكتشفت أنني لم أعرفه قط”.
3. “الفقد مثل الموسيقى.. لا نراه لكننا نحيا داخل إيقاعه”.
4. “أختي التي ماتت صغيرة، ما زالت تكبر في ذاكرتي”.
5. “الحب الذي فقدته لم يرحل.. فقط صار حجرًا في صدري”.
6. “الموت لا يحصد الأرواح فقط.. بل يحصد المعنى”.
7. “أكتب لأنني أقاوم الاختفاء”.
8. “كل صباح هو حداد مؤجل”.
9. “ما زلت أحاور أمي في أحلامي.. حتى أصبحتُ منها”.
10. “الفقد هو الشيء الوحيد الذي لم يخدعني أبدًا”.
تحضر ثنائية الموت/الغياب بوصفها آلية تفكيك للهوية، وللحب، وللزمن. والبطل يعيش الفقد كشرط وجود، ويعيد تأويل الحياة كلها من خلال عدسة الغياب. والموت لا يُقدم كحدث، بل كبنية لغوية وسردية تخلق توترًا دائمًا، وتضع القارئ في مواجهة الأسئلة الكبرى: من نحن بعد أن نفقد من نحب؟ كيف تواصل اللغة التعبير بعد أن يتوقف القلب؟
9 – الذاكرة كهوية متشظية
تعامل الرواية الذاكرة لا كأرشيف محفوظ، بل كحيّز مخروم، غير مكتمل، ومشحون بالفقد والتشويه. تتنقل الذاكرة بين لحظات متباعدة بلا تراتبية، وتعيد بناء الأحداث وفق الألم لا الترتيب، فينقلب الماضي من سجل زمني إلى مرآة للذات المفككة. والذاكرة هنا ليست توثيقًا، بل كتابة أخرى للهوية في تمزقها، ومن أمثلة الرواية على ذلك:
1. “أتذكر أمي أكثر مما أتذكر نفسي”.
2. “في كل مرة أروي حكايتي، يتغير الماضي”.
3. “الذكريات التي كتبتها تختلف عن تلك التي أعيشها”.
4. “كل يوم أعثر على طفولتي في زاوية جديدة”.
5. “ذاكرتي لا تعترف بالتسلسل.. بل بالجرح”.
6. “حين أبكي، تطفو مشاهد من زمن لا أعرفه”.
7. “النسيان هو الطريقة الوحيدة لتذكر من أحببت”.
8. “كتبت عن أبي أكثر مما عاش معي”.
9. “البيت القديم يسكنني لا العكس”.
10. “كلما حاولت أن أرتب ذاكرتي، انفجرت في وجهي”.
التحليل: تتجلى الذاكرة هنا بوصفها كتابة جديدة، وليست استعادة لماضٍ صافٍ. هي تشكيل سردي متقطع، يتماهى مع تفكيكية دريدا، حيث الحاضر يُكتب بلغة الفقد، والماضي يُعاد تركيبه بمعجم الألم. الذاكرة لا تقدم هوية ثابتة، بل شبكة من الصور المتضاربة التي تكشف هشاشة التمثيل وسلطة اللغة على الوعي.
10 – اللغة كخيانة للمعنى.
تعامل الرواية اللغة ككائن خادع، زئبقي، لا يحمل المعنى، بل يموّه عليه. فبدلاً من أن تكون وسيلة للتواصل تصبح اللغة في النص أداة انزياح، ومصدرًا للارتباك، ومساحة للانفصال بين الذات والعالم. تُستخدم الألفاظ لتعرية العجز لا لتثبيت الفهم، والجمل تُبنى لتدلّ على التناقض لا على الانسجام، والدليل على ذلك من الرواية:
1. “كلما حاولت أن أقول الحقيقة، خانتني المفردات”.
2. “الكلمات لم تعد تسعني… تفيض منّي وتُخطئني”.
3. “الصمت أكثر صدقًا من اللغة التي لا تنقل ما أشعر به”.
4. “قالت: أحبك. فشعرت بالخذلان”.
5. “أكتب لأعجز عن التعبير”.
6. “المعنى ليس في الجملة، بل في ما لم يُقال”.
7. “كلماتي تشبهني.. تتظاهر بالوضوح، لكنها تائهة”.
8. “اللغة غطاء للفراغ.. قناع للهشاشة”.
9. “لا أصدق ما أكتبه، لكنني أكتبه على كل حال”.
10. “حين كتبت رسالتي، اختفت مشاعري”.
تعكس الرواية المأزق التفكيكي تجاه اللغة بوصفها ليست حاملًا للمعنى، بل عامل تأجيل له وفق مصطلحات جاك دريدا. الكلمات تتفلت، تشير إلى ذاتها أو إلى فراغ خلفها، لا إلى مرجع مستقر. إنها تحيل إلى اللايقين، وتكشف أن اللغة لا تمثّل الواقع، بل تبنيه ثم تنقضه.
11 – الذات كتشظٍّ لا كجوهر.
تتعامل الرواية مع الذات بوصفها كيانًا مفككًا، متغيرًا، لا جوهرًا ثابتًا أو مركزًا نفسيًا مستقرًا. تتوزع الأنا الساردة على مستويات متعددة من الصوت والتجربة واللغة، ولا تُروى بوصفها كيانًا منسجمًا، بل تظهر في حالة تناقض دائم. الذات في هذا النص ليست مرآة للعالم، بل هي نفسها متكسّرة، لا تعرف نفسها إلا عبر ضياعها، وتدل أمثلة الرواية على ذلك بوضوح:
1. “كلما نظرتُ في المرآة، شككت أن الذي فيها يشبهني”.
2. “أشعر أنني أتكون من شظايا أشخاص عرفتهم”.
3. “أنا هو.. ولستُ هو”.
4. “في كل مرة أروي حكايتي، أكون شخصًا آخر”.
5. “حين أسرد نفسي، أكتشف أنني لا أملكها”.
6. “اسمي لا يدلّ عليّ.. بل على ما أرادوه لي”.
7. “أنا الذي أراقبني من بعيد، دون أن أقترب”.
8. “صوتي في داخلي يختلف عن صوتي في الواقع”.
9. “جسدي لا يطيعني، كأنه لشخص آخر”.
10. “كل القرارات التي اتخذتها كانت ضدي.. فمن أنا؟”.
بهذا التشظي، يتحقق ما تسميه التفكيكية بـــ”اللا جوهرية”؛ فالرواية تُسائل وحدة الذات وتعيد طرحها كسلسلة من الانقطاعات، والعلامات، والتوترات الداخلية. هذا الانفصال بين الأنا والأنا الآخر يُعيد موضعة الذات خارج ميتافيزيقا الهوية، ويضعها داخل شبكة دلالية لا نهائية.
12 – تعدد الأصوات وتفكيك الصوت السردي.
تعتمد الرواية على تنويع الضمائر السردية، والتناوب بين أصوات متباينة، مما يفتح النص على تعددية تأويلية. ولا يوجد صوت سردي مركزي مهيمِن، بل تتوزع الأنا الساردة بين داخل النص وخارجه، وتظهر الشخصيات بوصفها تمثيلات لغوية متكثرة لا وحدات نفسية منجزة. وكل صوت داخل الرواية يناقض ذاته، أو يُروى بوساطة صوت آخر، فتفقد الهوية السردية مركزها، ومن أمثلة الرواية على ذلك:
1. “قال عن نفسه: أنا ظلّي، لا جسدي”.
2. “أتحدث عني كأنني شخص آخر”.
3. “هو لم يكن يتكلم، بل الكلمات تتكلمه”.
4. “كل شخصية في رأسي تحكي عني بطريقتها”.
5. “أحيانًا أسمع صوتي ولا أظنه مني”.
6. “نحن الذين نكتب عن بعضنا، لا أحد يكتب وحده”.
7. “أبحث عن صوتي بين أصوات النسخ القديمة مني”.
8. “أكتبها بضمير الغائب، لأخون قربها مني”.
9. “الصوت الذي يروي ليس صوتي.. بل ما تبقى مني”.
10. “كأنني أروي نفسي عبر مرآة مشروخة”.
التحليل: يستجيب هذا التعدد الصوتي لمبدأ التفكيك الذي يرفض وحدة الصوت المركزي (logocentrism) ويؤمن بانزلاق المعنى بين الأصوات والضمائر. كل ضمير يحاول احتواء الآخر ثم يفشل، مما يفتح إمكانات لا نهائية للقراءة والتأويل. لا تتحدد هوية الراوي، بل تتكسر في المرايا النصية، ما يجعل من السرد نفسه تجربة تشظٍّ لغوي ووجودي.
13 – الجسد كعلامة متصدعة.
لا يُقدّم الجسد في الرواية ككيان متكامل، بل كعلامة دائمة الانقسام، وكحيّز لغوي مفخخ بالدلالات الاجتماعية والثقافية والتاريخية. تفكك الرواية الجسد من كونه مركزًا للذات أو وسيلة للهوية إلى كونه ساحة للصراع، ومرآة للتشظي الوجودي، وواجهة لخطابات القمع والتهميش والتمثيل. إن الجسد هنا لا يُرى بل يُكتب، ولا يُعبّر عنه، بل يُسائل، ومن الأمثلة الدالة على ذلك من الرواية:
1. “جسدي لا يطيعني… كأنني استعرتُه من غريب”.
2. “أشعر أنني أسكن هذا الجسد كضيف غير مرغوب فيه”.
3. “لم يكن لي جسد… بل مسرح للآخرين”.
4. “حين أنظر إلى يدي، أراها تحمل ذنوبًا لا تخصني”.
5. “أخاف أن أكون مجرد جسد ينتظر التفسير”.
6. “أبي علمني أن الجسد خطيئة.. وأمي أن الجسد لعنة”.
7. “كلما اقترب أحد من جسدي، شعرتُ أنني أختفي”.
8. “جسدي يشبه الخرائط القديمة.. مليء بالمحذوفات”.
9. “أدّعي الصحة.. لكنني متعب من وزني في جسدي”.
10. “هذا الجسد كُتب لي.. ولم أكتبه”.
يكشف النص عن تفكيك شامل لمفهوم الجسد كمركز للهوية، في اتجاه يشبه تحليلات ميشيل فوكو ولوس إريغاراي وكرستيفا. يُعاد تقديم الجسد كعلامة ملغّمة، مُحمّلة بسلطة التمثيل الذكوري، وتاريخ العنف، وارتباك اللغة. الجسد لا يتكلم، بل يُتكلم عنه، ولا يُعاش بوصفه حرية، بل كعبء من المعاني. من خلال هذا التفكيك، يتم قلب معادلة الذات الجسدية إلى سؤال فلسفي وجودي حول ما إذا كانت الذات تمتلك جسدها فعلًا، أم أنها محض تأثير من خطابات الآخرين.
14 – الحب كاستحالة لغوية ووجودية.
في رواية “كائن رمادي” لا يظهر الحب بوصفه عاطفة مستقرة أو تجربة مكتملة، بل يُقدَّم كفكرة مُهدّدة، كلما اقتربت من التحقق تهاوت في اللغة أو تلاشت في الزمن. الحب لا يُعاش، بل يُلاحَق، ولا يُعبَّر عنه، بل يُفكَّك داخل النص، بوصفه استحالة تجمع بين الشوق والخذلان، وبين اللغة واللاجدوى. يتماهى الحب مع العبث، ويظهر كقوة تعيد الذات إلى تمزقها الأول، وأمثلة الرواية كثيرة في هذا المجال:
1. “كلما قلت لها أحبك، شعرت أنني أكذب رغم صدقي”.
2. “الحب بيننا كان يشبه الدخان… نشعر به لكن لا نلمسه”.
3. “كنت أفتش عن الحب كما يفتش الغريق عن الهواء. ولا أجده”.
4. “قالت لي: أنت لا تحبني، بل تحب فكرة وجودي”.
5. “الحب لم يُشفِني… بل فتح جرحًا آخر في داخلي”.
6. “أحببتُها بكل اللغات… لكن اللغة لم تسعفني”.
7. “كل علاقاتي كانت خاسرة؛ لأني لا أصدق الحب إلا حين يخون”.
8. “الحب مرآة مشروخة… كلما نظرتُ فيها رأيتني أقل”.
9. “لم أعد أفرّق بين الحب والاحتياج.. وكلاهما مؤلم”.
10. “الحب في حياتي كان مثل الزمن.. لا أملكه، ولا أهرب منه”.
يقدّم النص الحب بوصفه تجربة سردية لا وجدانية فقط. الحب لا يتحقق بل يُؤجَّل، ولا يُكتَب إلا بوصفه خيانة للمعنى أو فشلًا في التمثيل. في ضوء التفكيك، يصبح الحب سلسلة من الانزياحات لا تصل إلى أصل أو مركز. يتقاطع هذا مع خطاب جاك دريدا الذي يرى أن كل مركز معنوي خاضع للخلخلة، وأن اللغة تعجز عن الإمساك بالجوهر. هكذا، يتحول الحب في الرواية إلى سؤال فلسفي لا إلى عاطفة؛ إلى وهم جميل لا إلى يقين؛ إلى طريق مفتوح على الانكسار.
15 – تداخل الحلم والواقع
تعتمد الرواية على محو الحدود بين الحلم والواقع، بحيث لا يمكن التمييز بين ما يُعاش وما يُتخيّل. والحلم ليس مساحة للهروب فحسب، بل حقل إنتاج سردي يعيد تشكيل الواقع ويخلخله، ويقدّمه كاحتمال لا كيقين. يُروى الحلم كما لو كان واقعًا، ويُشكك في الواقع بوصفه قد يكون حلمًا مؤجلًا أو مكررًا، ومن الأمثلة على ذلك من الرواية:
1. “صحوت على حلم لم أعرف متى بدأ، لكنه كان يشبه حياتي تمامًا”.
2. “كنت أعيش يومًا عادياً.. حتى اكتشفت لاحقًا أنني كنت أحلم به منذ سنوات”.
3. “الحلم الذي رأيته هو نفسه ما كتبته قبل أسبوع، دون أن أتذكر”.
4. “كل التفاصيل الواقعية صارت تذكّرني بكوابيسي القديمة”.
5. “أحببتها في الحلم أكثر من الواقع… ثم التقيتها فخفت أن يكون لقاؤنا حلمًا أيضًا”.
6. “كنت أركض داخل شارع أعرفه، لكنه كان ينتهي فجأة إلى سماءٍ مفتوحة”.
7. “في الحلم فقط كنت أقول كل ما أخفيه في الواقع”.
8. “كان وجهي في المرآة وجهًا حلمت به منذ الطفولة”.
9. “كل شيء صار يشبه الحلم حتى في تفاصيله المؤلمة”.
10. “أحيانًا أرتبك: هل كتبت هذا المشهد؟ أم حلمت به؟ أم عشته فعلًا؟”.
بهذا التماهي بين الحلم والواقع، تُفكّك الرواية مفهوم الحقيقة الموضوعية، وتعيد تشكيل الوعي بوصفه تأليفًا متقطعًا بين الممكن والمُتخيَّل. وينهار الحد الصلب بين ما هو واقعي وما هو لاواقعي، ليحل محله تركيب حلمي تفكيكي يعيد إنتاج المعنى في كل مرة. وتتماهى التجربة السردية مع ما يسميه جاك دريدا بـ”اللعب الحر للعلامات”، حيث تتداخل المرجعيات، ويتحول الحلم إلى وسيط وجودي يسائل تمثيلات الواقع ذاته.
16 – العتبات النصية وتفكيك البدايات والنهايات
تعتمد الرواية في بنيتها على خلخلة واضحة للحدود التقليدية للعتبات النصية: عنوان الرواية، الاستهلال، الختام، والعناوين الداخلية. تمارس هذه العتبات دورًا بلاغيًا وتأويليًا مموَّهًا، يفتح النص على احتمالات لا على يقين. والعنوان نفسه “كائن رمادي” يتماهى مع فكرة التداخل، واللَّون غير المحدد، والهوية المتحوِّلة. لا تتحدد بداية السرد بوضوح، كما أن النهاية لا تقدم خاتمة مغلقة، بل تترك النص مفتوحًا على تأويل مستمر، والأمثلة الواردة على ذلك في الرواية:
1. العنوان نفسه: “كائن رمادي” لا يدل على هوية واضحة، بل يكرّس الغموض.
2. الاستهلال يبدأ بعبارة تأملية لا سردية: “لم أعد أعرف من أكون”.
3. لا توجد فصول مرقمة تقليديًا، بل تتوزع المقاطع بحسب الحالة الشعورية.
4. توجد إشارات متكررة إلى العناوين داخل النص كأنها تحاوره: “هذه ليست نهاية، بل استراحة فشل أخرى”.
5. في الخاتمة تقول الشخصية: “سأنهي هنا، لا لأن القصة انتهت، بل لأن الصفحة ضاقت”.
6. بعض المقاطع تبدأ بجمل تقريرية قاطعة، ثم تُنقض فورًا: “أنا بخير… لكنني أتقيأ كل ليلة”.
7. تتكرر عبارات مشابهة لبدايات جديدة وسط النص: “لنبدأ من هنا”، “ربما كانت هذه البداية حقًا”.
8. يُستخدم الترقيم والنقاط والعناوين الفرعية كعلامات خلل لا تنظيم.
9. يوجد تناص صريح مع بدايات أدبية أخرى، يتم قلبها أو السخرية منها.
10. الخاتمة تُسائل نفسها: “هل انتهيت؟ أم فقط سئمت من القص؟”.
تسير هذه الاستراتيجية في اتجاه نقد ميتا سردي للكتابة ذاتها، حيث تصبح العتبة مجالًا للتفكيك لا مدخلًا للتثبيت. وفقًا لمنهج دريدا، فإن ما يبدو هامشيًا (مثل العنوان أو الخاتمة) يمكن أن يكون مركزًا مضادًا يُزعزع استقرار البنية. هكذا، يتفكك المعنى من أول العنوان حتى آخر كلمة، ويتحول النص من كيان مغلق إلى كيان حيّ يعيد توليد ذاته في كل قراءة.
17 – تفكيك الزمن السردي والخطية الزمنية
لا يتبع السرد في “كائن رمادي” خطًا زمنيًا متصاعدًا أو منسجمًا، بل يتحرك عبر موجات من الاسترجاع والتقديم والالتفاف حول لحظات مفصلية متكررة. يتم تفكيك مفهوم الزمن بوصفه معيارًا سرديًا إلى طيف من اللحظات الذاتية والشعورية والذهانية. لا وجود لـ “ماضٍ” نهائي ولا لـ “حاضر” مستقر، بل سلسلة من اللحظات المراوغة التي تنزلق داخل بعضها البعض، مما يجعل الخط الزمني نفسه أداة للارتياب، وقد وردت في الرواية أمثلة كثيرة دالة على ذلك:
1. “كنت أراه للمرة الأولى… أو ربما هذه هي المرة الألف”.
2. “لا أعرف متى بدأ الأمر. ربما حين انتهى كل شيء”.
3. “أعود إلى طفولتي كلما شعرتُ بالخوف الآن”.
4. “الحاضر والماضي يتبادلان المقاعد في رأسي”.
5. “أكتب ما سيحدث كما لو كان قد حدث فعلاً”.
6. “زمني لا يشبه زمنهم… أنا أعيش داخل تكرارٍ مرعب”.
7. “أتذكّر الغد، كأنني عشته من قبل”.
8. “لم أنتهِ من الأمس حتى الآن”.
9. “كل الأشياء تحدث في نفس اللحظة… لكنها لا تعترف بذلك”.
10. “تسلسلي الزمني هو تسلسل ارتجافاتي”.
يعيد هذا النمط من السرد تشكيل الزمن كشبكة لا كخيط، حيث تنهار الفكرة الخطية للزمن الكلاسيكي لصالح زمن التفكيك: المتقطع، المنكسر، المتداخل. ويلتقي هذا مع نظريات بول ريكور حول السرد والزمان، ومع تفكيكية دريدا التي ترى في الزمن بنية تؤجل المعنى باستمرار. إن رواية “كائن رمادي” لا تسرد الزمن، بل تسائله، وتحوّله إلى مرآة للذات المفككة.
18 – خاتمة تركيبية مفتوحة
تأتي الخاتمة في هذا المسار التحليلي بوصفها لحظة تركيبية لا تسعى لإغلاق النص، بل لتوسيعه؛ حيث تتقاطع فيها كل المحاور السابقة: الذات المتشظية، اللغة المراوغة، الزمن الممزق، الجسد المتنازع عليه، والأنوثة بوصفها خطابًا لا كينونة. إن “كائن رمادي” ليست رواية عن موضوع، بل عن تفكك كل موضوع؛ ليست حكاية عن شخصية، بل عن غياب المركز ذاته، وتحوّل السرد إلى استجواب مستمر.
من خلال هذه القراءة التفكيكية، تتأكد رواية “كائن رمادي” كتمرين سردي على اللايقين، على نفي الانغلاق، وعلى التشظي بوصفه موقفًا وجوديًا وفلسفيًا. وتُقدَّم اللغة لا كوسيلة تمثيل، بل كفضاء انزياحي، والجسد لا كهوية بل كأرض صراع، والحب لا كيقين، بل كاستعارة متهاوية.
وفي رواية (كائن رمادي) الزمن يُمزق، والمكان يُعاد تدويره في دوائر الاغتراب، والصوت السردي يتحول إلى جوقة من الأصوات التي لا تُفضي إلى مركز. وبهذا تتقاطع هذه الرواية مع أبرز أسئلة ما بعد الحداثة والتفكيك: من نكون حين تُنكرنا ذاكرتنا؟ وما المعنى حين تصمت اللغة؟
إن ما يظل بعد كل هذا التحليل هو النص ذاته: مفتوح، مشعّ، غير قابل للاكتمال.

وهنا يكتمل الجزء الأول من التحليل، على أن ننتقل في الجزء الثاني إلى تحليل لمشاهد محددة من الرواية تبرز الرؤية الفكرية التي أرادها الكاتب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى