أراء حرة

بين نصوص التوراة ومجازر غزة: جذور الصراع الديني والسياسي

بقلم الإذاعي الكاتب شريف عبد الوهاب

 

لا يمكن قراءة ما يحدث في غزة بمعزل عن الدماء المتدفقة على أرضها، ولا عن صرخات الأطفال والنساء الذين يسقطون تحت القصف الإسرائيلي العنيف. لكن الأهم، أنه لا يمكن فهم ما يجري من مجازر بشرية دون العودة إلى الجذور الفكرية والعقائدية التي يستند إليها المشروع الصهيوني في تبرير سياساته، والتي تتجلى بوضوح في نصوص التوراة، خاصة في سفر يشوع (يوشع بن نون)، وأسفار التثنية والعدد، التي تروي قصص “الاستيطان الأول” في أرض كنعان.

التوراة وسردية “الأرض الموعودة”

تضع التوراة، في صلب رؤيتها، وعدًا إلهيًا لبني إسرائيل بأن تكون لهم أرض “تفيض لبنًا وعسلًا”، وهي أرض كنعان التي يسكنها شعوب مختلفة مثل الكنعانيين، واليبوسيين، والجرجاشيين، والعموريين. هذا الوعد ارتبط بتكليف إلهي مباشر: ليس فقط بدخول الأرض، وإنما بتطهيرها من سكانها الأصليين عبر الإبادة الكاملة.

في سفر يشوع، نقرأ كيف قاد يوشع بن نون بني إسرائيل بعد وفاة موسى عليه السلام، وأمرهم بإبادة سكان أريحا وعاي وغيرهما من المدن، “وحَرَّموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة، من طفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف”. هذه النصوص، التي يُطلق عليها مصطلح (التحريم أو الإبادة الكاملة)، تمثل جوهر ما يسميه الباحثون “الحرب المقدسة” في التقاليد اليهودية القديمة.
من النص إلى السياسة: كيف استُخدمت الأساطير؟
الصهيونية الحديثة، منذ نشأتها في القرن التاسع عشر، أعادت قراءة هذه النصوص التوراتية باعتبارها وثيقة ملكية شرعية للأرض. لم يكن الأمر مجرد مشروع سياسي، بل مشروعا مغطى بغلالة دينية، تستمد شرعيتها من الوعد الإلهي القديم. هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، لم يكن متدينًا، لكنه أدرك قوة الخطاب الديني في تحريك الجماهير اليهودية حول العالم، وفي إقناع الغرب المسيحي بأن إقامة إسرائيل هي تحقيق لنبوءة توراتية.
ومع تأسيس دولة إسرائيل عام 1948، صار “الحق التوراتي” جزءًا من الخطاب الرسمي والسياسي، يبرر تهجير الفلسطينيين فيما سُمي لاحقًا بـ “النكبة”. ومع الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وغزة عام 1967، ازداد حضور هذا الخطاب، إذ اعتبر كثير من قادة المستوطنين أن ما يحدث ليس مجرد توسع جغرافي، بل عودة إلى “أرض الميعاد”.
غزة: الضحية الدائمة
إذا نظرنا إلى غزة اليوم، نجدها محاصرة منذ أكثر من 17 عامًا، محرومة من أبسط مقومات الحياة. لكن ما يثير الانتباه أن عمليات القصف المتكرر، والقتل الجماعي، والتهجير، يتم تصويرها في أوساط إسرائيلية متدينة بوصفها امتدادًا لما فعله يشوع في أريحا. بمعنى آخر: غزة بالنسبة لهم ليست مجرد ساحة حرب مع فصيل فلسطيني (حماس مثلاً)، بل هي أرض “يجب إخضاعها وإبادة سكانها” تمامًا كما ورد في النصوص القديمة.
هذه القراءة الحرفية للتوراة ليست هامشية، بل تجد صدى واسعًا داخل التيار الديني القومي في إسرائيل، خاصة المستوطنين الذين يرفعون شعارات “أرض إسرائيل الكاملة” ويرون أن الفلسطينيين “غرباء” لا يملكون حقًا في هذه الأرض.
الانقسام داخل اليهودية
لكن من المهم أن نوضح أن اليهودية ليست كتلة واحدة. فهناك تيارات إصلاحية وليبرالية داخل اليهودية، خصوصًا في أوروبا وأمريكا، ترفض هذا التفسير الدموي للتوراة. هؤلاء يرون أن نصوص الإبادة في سفر يشوع هي نصوص تاريخية، كتبت في سياق أسطوري قديم، ولا يمكن تطبيقها على الواقع الحديث. بل يعتبرون استخدامها لتبرير قتل المدنيين تشويهًا لجوهر الديانة اليهودية، التي تحمل في تراثها أيضًا دعوات للعدل والرحمة.
ومع ذلك، فإن الصوت الغالب اليوم في السياسة الإسرائيلية، خاصة مع صعود اليمين القومي الديني، هو صوت أولئك الذين يفسرون النصوص التوراتية تفسيرًا حرفيًا. هؤلاء لا يرون في الفلسطيني إنسانًا متساوي الحقوق، بل عقبة وجودية يجب إزالتها.
الدين كقناع للسياسة
لا يمكن إنكار أن الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين له أبعاد سياسية واقتصادية واستراتيجية، تتعلق بالهيمنة الإقليمية والتحالفات الدولية. لكن الدين هنا يلعب دور “الغطاء الشرعي”. فحين تُبرر المجازر في غزة بأنها تنفيذ لإرادة إلهية قديمة، يتحول القتل من جريمة حرب إلى “واجب مقدس”. وهذا ما يجعل الصراع أكثر تعقيدًا وأشد خطورة، لأنه لا يقوم فقط على مفاوضات سياسية، بل على معتقدات راسخة في الوجدان الديني لشريحة واسعة من الإسرائيليين.
الواقع يفضح الأسطورة
غير أن الواقع على الأرض يكشف هشاشة هذه الأساطير. فكما قاوم الكنعانيون قديمًا، يقاوم الفلسطينيون اليوم، رغم الفارق الهائل في القوة. غزة، المحاصرة من البر والبحر والجو، لم تنكسر رغم المجازر، وهذا ما يجعل المقارنة مع سفر يشوع تحمل وجهًا آخر: لم تعد صورة “الإبادة الكاملة” ممكنة، لأن العالم اليوم يشهد، والرأي العام العالمي بدأ يدرك أن ما يحدث ليس دفاعًا عن النفس كما تدعي إسرائيل، بل هو تكرار لأسطورة دموية قديمة بوجه حديث.
بين الماضي والحاضر
العودة إلى نصوص التوراة لفهم ما يجري ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة لفهم العقلية التي تحكم السياسات الإسرائيلية. فما يحدث اليوم في غزة ليس صدفة، ولا مجرد رد فعل على عمليات مقاومة فلسطينية، بل هو جزء من سردية أقدم، ترى في الإبادة والتطهير وسيلة لإقامة “مملكة الله على الأرض”.
لكن التاريخ يعلمنا أن الشعوب لا تُباد بالنصوص، وأن الحق لا يُمحى بالقوة. الفلسطينيون اليوم، بدمائهم وصمودهم، يكتبون رواية أخرى، قد تكون أشد تأثيرًا من كل أسفار التوراة، لأنها مكتوبة بالحياة لا بالأسطورة.
خاتمة
لفهم المأساة في غزة، يجب أن ندرك أن السياسة وحدها لا تفسرها. بل إن قراءة التوراة، وخاصة سفر يشوع، تكشف أن المجازر الإسرائيلية ليست مجرد تجاوزات عسكرية، بل هي استدعاء واعٍ لأساطير قديمة عن الإبادة والتطهير. وبينما يرى الإسرائيليون في أنفسهم “يشوع الجديد”، يرى العالم بأسره صور الأطفال تحت الركام، فيدرك أن الإنسانية هي الضحية الحقيقية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى