دراسات ومقالات

كرم الصباغ يكتب محمد الحديني يحرر طيور الدهشة من أقفاصها

قراءة نقدية في مجموعة" تراجيديا آدم"

١-مقدمة/ إضاءة
*رغم أن القصة القصيرة جدا قد صارت لونا سرديا ينظر له بعين الاعتبار في الآونة الأخيرة فقد ظلت الدراسات النقدية التي تتمحور حولها من القلة بمكان بحيث انحسر معظمها في الدفاع عنها من فريق، و انتقادها و الهجوم عليها بضراوة من فريق آخر، و كما أوضح “أوجين يونيسكو” أن كل نص جديد يقابل بالعداء؛ لأنه يخالف ما اعتاد عليه الكتاب و النقاد و القراء من أنماط سردية مألوفة. و مع التسليم بما أشار إليه الباحث “وليد أبو بكر” من أن كثيرا من الكتاب قد ظنوا أن اللجوء إلى هذا اللون الجديد من القص هو نوع من أنواع الاستسهال و قد غاب عن ذهنهم أن هذا اللون القصصي يحتاج إلى موهبة حقيقية، و دربة، و تمكن، و مغامرة، و جنوح إلى التجريب، و قدرة على التكثيف و صنع الدهشة، و تمرس سابق بكتابة الرواية و القصة القصيرة قبل الشروع في كتابة القصة القصيرة جدا.

محمد الحديني
محمد الحديني

*إذا تفحصنا التراث العربي بعناية، فإننا سوف نجد شواهد و إرهاصات، تدل على أن هذا اللون السردي له جذور عربية قديمة كما يرى ” يوسف حطيني”، و د. ميمون سالك و غيرهما إذ يرجع هذا الفن إلى أنماط من الحكي القديم مثل النادرة و الطرفة و النكتة و لكن الكثير من النقاد يرون أن أصل القصة القصيرة جدا غربي خالص، و يشيرون إلى القصة التي كتبها ” آرنست همنجواي”: للبيع حذاء طفل، لم يرتدِه أحد». و كما تشير الباحثة “منيرة جميل حرب” إلى أن بعض الباحثين و النقاد يشيرون إلى الكاتبة الفرنسية “ناتالي ساروت” على أنها أول من كتب القصة القصيرة جدا سنة ١٩٣٢.

٢-العنوان كعتبة أولى للولوج إلى نصوص المجموعة:
إن العنوان المكون من كلمتين: “تراجيديا آدم” يعد أول مفتاح لفك شفرات نصوص تلك المجموعة؛ فكلمة التراجيديا تعني المأساة و هي كلمة يونانية الأصل تعني أغنية الماعز حيث ترتبط بغناء الكورس في اليونان القديمة في حين يتم التضحية بالماعز أثناء تأدية الطقوس الدينية. و هي أيضا وفق تصور ” أرسطو” لون من ألوان الدراما معنية بتقديم حيوات لشخصيات عظيمة لكنها مأزومة تعيسة. و الكاتب “محمد الحديني” هنا من خلال تلك المفردة يدلل على ما تحتوي عليه مجموعته من قدر كبير و جرعة هائلة من الحزن و الأسى و التوتر و الحيرة و هي كلها مشاعر تصاحب أبطال التراجيديات و تلك المشاعر تنتقل بالتبعية إلى المشاهدين كذلك. فثمة شخصيات مأزومة أشار إليها باسم آدم أبي البشر و هو اسم ينسحب على سائر ذريته. فالمأزوم هنا هو الإنسان ذاته، الذي يكابد ذلك المأزق الوجودي، و يقف عاجزا حائرا بل مسحوقا أمام معضلات الحياة و غول الموت.
٣- قصص الحديني كشأن القصص القصيرة جدا قصص محذوفة البدايات تستغني عن الاستهلال و العقدة و الحل، و تبدأ من لحظة الفعل أو لحظة الذروة، التي تتسم بالتوتر على حد تعبير الباحث ” وليد أبي بكر”، هذا و يمسك الكاتب بهذه اللحظة القصصية حتى النهاية، تاركا للقارئ مساحة كبيرة لإعمال عقله لاستنتاج ما لم يكتب من الأساس، و استنطاق المسكوت عنه. يقول الحديني في قصة “استقبال خاص”: “في الأسفل ألمح ملائكة، لم أبالِ.. قررت الصعود إلى أعلى حيث أبالسة تلوّح ..بمجرد أن اقتربت، ارتفع صياحهم في حين علا صوت كبيرهم وهو يقول: “مرحبا بالصديق والأخ.” و يقول في قصة “سيلفي” : ” في أستوديو التصوير الفوتوغرافي وقفت في الطابور منتظرا دوري، توالى وميض الفلاشات، و بعد أن تسلم كل واحد منا صورته ضبطت الكاميرا على كادر أوسع، اصطففنا لأخذ صورة خاصة يتوسطها المصور الأعمى”.
٤- يعتمد الحديني على وحدة الحدث، حيث يسلط الضوء على حدث واحد، يتنامى سريعا إلى أن يصل إلى النهاية، كما يعتمد على محدودية الزمان و المكان، كذلك يعتمد على شخصية واحد، هي الوجه الآخر لعملة الحدث؛ إذ يسرد ما تفعله الشخصية بشكل متلاحق دونما شرح أو تحليل أو تعقيب على تلك الأفعال؛ فقصصه تتسم بالتماسك؛ إذ ينأى عادة عن تعدد الأحداث التي قد تصيب القصة بالترهل. يقول في قصة “ألبومات” : “أسرح كل يوم في شوارع و أزقة مدينتي، أبيع المرايا بسعر زهيد .. يستغربني المارة جدًا، وأنا أنادي على بضاعتي قائلا“ ألبومات صور للبيييييييع.”


٥- يعتمد الكاتب على شخصية رئيسة واحدة في الغالب و تلك الشخصية في كثير من قصص المجموعة هي الراوي المشارك ذاته، الذي يتحدث عن نفسه بضمير المتكلم و حرف المضارعة الهمزة مما يضفي على القصص حميمية و مصداقية، لكنه يلجأ أحيانا إلى “التشيؤ” حيث تتحول الذات الساردة إلى جماد من الجمادات، أو شيء من الأشياء. و يلجأ تارة أخرى إلى أنسنة الأشياء حيث تتحول أفعال الجمادات، و الحيوانات، و الطيور، و المومياوات إلى أفعال تتطابق مع أفعال الإنسان، أي أنه يلبس هذه الاشياء أقنعة بشرية رمزية تحمل دلالات إنسانية معبرة على حد تعبير الباحث “وليد أبي بكر”. يقول “الحديني” في قصة ” ارتخاء” : ” في إحدى مختبرات علم نفس الحيوان أدخل أحد الباحثين تلفازا إلى قفصٍ يسكنه قرد وأداره على نشرة الأخبار.. تابع القرد بعينين مفزوعتين مشاهد لحروب في أماكن مختلفة من العالم.. بعد حين انزوى في أحد الأركان.. وبينما كان يضع يده على عينه والأخرى على أذنه، أصدر جهاز قراءة الأفكار، الموصّل بشريحة مثبتة داخل رأس القرد، أزيزًا مصحوبا بترجمة مكتوبة على الشاشة تقول: “ليتني ما ارتقيت.” و يقول في قصة : ” اتفاق” : ” في المتحف الوطني، عقدت صفقة مع مومياواتٍ تسكن توابيت ..بت أجلس أمامها كل يوم، أسرد على مسامعها أخبار ما يحدث في الخارج، في مقابل تعليمي أصول وقواعد المحادثة”. و يقول في قصة ” مهمة سرية” : ” أخرج ليلا، و الناس نيام، أذهب إلى الحديقة العامة حيث تمثال ينتظر ..أنتصب مكانه ،وأعطيه مفتاح غرفتي”.

– اللغة عند “الحديني” شاعرية رامزة و موحية و هي كشأن لغة كثير من كتاب القصص القصيرة جدا لغة استعارية تعتمد على الترميز و التكثيف و الإيجاز و الحذف وفق مفهوم علم المعاني من حيث الشكل و أعني بذلك إيجاز الحذف أو إيجاز القصر، أو من حيث الإيحاء و اتساع الدلالة أو ما اصطلح عليه النفاد إجاعة اللفظ و إشباع المعنى. و هي على هذا النحو تعتمد على الإيجاز و التكثيف اللغوي كسمة عامة لجميع القصص القصيرة جدا، يقول الحديني في قصة: ” بصيرة” : ” اعتادت أن تجلس قبالته كل صباح في الحديقة العامة.. كان وجوده يؤنسها ،رغم يقينها أنه لا يعيرها انتباهًا. مر يومان ولم يأت ..لم تترك للوحشة فرصة ..أخذت ترسم صورته بعصاها البيضاء على التراب.. وبمجرد أن انتهت، خلعت نظاراتها السود, حدقت في مكان مقعده الحجري الشاغر، وابتسمت.” و يقول في قصة” صمم”: ” تركتني نائما، وضعت أجنحتي، و غادرت غرفتي خِلسةً.. توقفتُ عند نوافذ بيوت يسكنها مومياوات.. بحروفٍ معكوسةٍ، كتبتُ رسائلي على بخار زجاجها.. طرقته بشدة.. لم ينتبه أحدٌ.. سطعت الشمس، فانهمرت دموعي.”
٧- يلجأ الحديني في كثير من قصصه إلى الغرائبي و اللامعقول، و الفانتازيا، و ربما يجنح إلى السريالية، و ربما يلجأ في بعض قصصه إلى الميثولوجيا و الأسطورة، كنوع من محاولة خلق واقع جديد خارج الأطر المتعارف عليها، و لنا أن نعرف أن للكاتب مجموعة من القصص القصيرة جدا معنونة ب “خارج أضلاع الدائرة”، و مجموعة أخرى معنونة ب “لا أحد هناك” لنعرف أن الكاتب يمتلك رؤية و فلسفة خاصة، تعتمد على نسف الواقع، و بناء عالم مغاير حتى لو كان هذا العالم في رحاب الخيال كأحد ميكانيزمات الدفاع، التي تمد الكاتب بأسباب تدعوه إلى الاستمرار و البقاء. يقول الحديني في قصة” قيامة”: ” طيرت الريح التذاكر المجانية، امتدت الأيادي المغروسة في الأرض لتتلقفها.. انمحت شواهد القبور، بمجرد أن أَوْقَف حفارها ساعة يده ..أبرقت السماء. عزف الرعد لحنا جنائزيا؛ لتبدأ مراسم حفل إحياء الموتى” و يقول في قصة نشوء” ” عدوت ورائي، ولم أدْركني إلا على حافة الهاوية، امتزجنا، وصعدنا معا”. و يقول في قصة ” انتظار”: ” أقف على محطة القطار منتظرا قطار الليل العسكري .. ستقبل جثث الجنود بالورود ..أخرجهم من أكفانهم، وأصطحبهم لشرب القهوة في مقهى قريب”. و يقول في قصة ” إنذار”: ” في ظروف غامضة اختفى حارس متحف الآثار عقب حكايات رددها عن مومياوات تتحرك ليلًا.. مدير المتحف هو الوحيد الذي قابل الأمر بسخرية وتهكم.. مرت عدة أيام وتقدم باستقالته بعد أن تسلم رسالة إلكترونية مجهولة المصدر، مكتوبة بلغة مُندثرة، وُمُرفق بها صورة للحارس المختفي وهو مُحنطٌ داخل تابوت خشبي.
٨- تتسم قصص المجموعة بالمفارقة و النهايات، التي تكسر توقع القارئ، و تسلمه إلى نهايات لم تكن في حسبانه مما يحقق عنصر الإمتاع و يصنع الدهشة التي باغت بها الكاتب القارئ بشكل بدا عفويا لكنها في حقيقة الأمر تنم عن موهبة حقيقية و حرفية في كتابة هذا اللون الأدبي، تلك الموهبة و الحرفية اللتان مكنتا الكاتب من صنع صوت أدبي خاص يميزه عن غيره من كتاب هذا اللون السردي.

أوبرا مصردراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى