هبة عبد القادر الكل تكتب لم غزة الآن؟
لم غزة الآن؟ … قراءة سياسية في ملفات إسرائيل
وما بين أنفال الإدانة الإعلامية وأروقة التحليل السياسية وبقوة قصف بلغت 32 ألف طن، مع استشهاد أكثر من 11 آلاف شهيد، واستهداف نازي همجي للمستشفيات، المدارس، المساجد، الكنائس، والمدنيين.. وبين خروج مظاهرات شعبية من أغلب الدول العربية والغربية للضغط على حكوماتها لوقف إطلاق النار وإدخال المساعدات، ما زالت “إسرائيل” تضيف إلى رصيدها الإجرامي تهجيراً وتنكيلاً وتجويعاً تحت باطل “الدفاع عن النفس”، مقابل رسوخ صامد من قبل المقاومة الفلسطينية التي حققت خسائر عسكرية متفرّدة في صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي، فأضحت فخر وفِخار كلّ حُرّ في هذا العالم.
فجأة اختفت الخلافات الأمريكية الإسرائيلية، وطفى على السطح الجيوسياسي الاستراتيجي “الدفاع المستميت” إلى درجة تنكّر الإدارة الأمريكية لقوانين الحرب الدولية ولمعظم قرارات الأمم المتحدة المؤيدة للحق الفلسطيني، مع التنصل منها ومن مناقشتها صحفياً!
طبعاً، فأولوية اللوبي الصهيوني اليوم تعزيز الهيكل الاستراتيجي الأمني ﻠ “إسرائيل”، بالتطبيع تارةً والانبساط تارةً أخرى تحت غطاء أمني جديد، ولا غرابة في ذلك، لأنّ “الويلات” المتحدة وعبر “إعلان القدس للشراكة الاستراتيجية” 2022م قد تعهّدت وشركاؤها بالمساعدة الأمنية الثابتة لإسرائيل وتفوقها العسكري لردع أعدائها وأذرعها في مواجهة أي تهديد.
إنّ أصحاب العقول النظيفة يدركون أنّ ثمة شيء خطر وراء هذا الانحياز الثنائي الأوروأمريكي غير المشروط لبربريتها، فما هو؟
بعد عملية طوفان الأقصى 7 أكتوبر أعلنها نتنياهو مباشرة “حرباً” لا “عملية عسكرية” خلافاً لباقي حروب الاحتلال على قطاع غزة، والتي انتهت بوقف إطلاق النار عبر ضغوطات دولية، ولكن اليوم وبعد أربعين يوماً لمَ لا يزال دعم النار قائماً؟
القاسم المشترك لمجمل الحروب على غزة، ومن ضمنها “السيوف الحديدية”، هو إنهاء سلطة حماس وحكمها والتخلص من المقاومة، ومع ذلك لم تنته المقاومة الصامدة، وعلى ما يبدو، كان هذا الهدف أولياً ليتحوّل إلى “سيطرة إسرائيلية أمنية كاملة غير محددة على القطاع”، كما صرّح نتنياهو منذ أيام، رافضاً أن تكون في القطاع “سلطة مدنية يرأسها شخص لا يُدين ما حدث في 7 أكتوبر”، ناسفاً جهود الدبلوماسية الأمريكية في رام الله حول دور سلطة أوسلو المحوري في مستقبل غزة.
المختلف اليوم هو “التوصيف العسكري”، وذلك لما له من أهمية على كافة الأصعدة، فالحربُ تختلف كلياً عن العملية العسكرية لأنها تعني شيئين لا ثالث لهما: هازم ومهزوم، ولا تنتهي إلا بهزيمة أحدهما وإسقاط حكمه وتغيير سلطته، وما أريده من هذه القراءة فضح أهداف المحتل الحقيقية التي يحاول حجبها عن العالم بمحض مكر وخديعة أسفل بروباغاندته الإعلامية.
بعد عملية ربط سريعة للوضع القائم اليوم وجملة التطورات الأخيرة على الساحة الجيوسياسية، العسكرية والإقليمية، ولأنّ اللوبي الصهيوني كان ولا يزال يستغل الأزمات لصالح تحقيق مخططاته الاستعمارية، دون الاكتراث لعدد قنابل الفسفور والمجازر التي يرتكبها بحق العُزّل، فنار براغميته فوق أي قانون دوليّ وحربيّ، نجده يعمل على توجيه الحرب على غزة إلى مصلحته ومشاريعه المبطّنة التي عمل عليها لشهور وعقود، كزرع إسفين صفقة القرن تدريجياً، تلك الصفعة التي تجتهد للخلاص من زعم “ترامب” يوماً “حل الدولتين”، وجعلِ دولة فلسطين “كيانا كونفدراليا” مرتبطاً بالأردن ومصر، فأن يُصادق الكنيست الإسرائيلي أواخر شهر مارس 2023م على إلغاء بعض البنود في قانون “فك الارتباط” الذي طبّقه “شارون” عام 2005م، يجعل من دخول المستوطنين إلى قطاع غزة ومناطق الفلسطينيين في الضفة الغربية قانونياً، لتبدأ المرحلة الأخيرة من الاستيطان وقضم ما تبقى من الأراضي الفلسطينية، أضف إلى زيادة المساعي الإسرائيلية لتسليح المستوطنين وإصدار أكثر من 31 ألف رخصة سلاح منذ بدء العدوان على غزة، والذي يُترجم إلى استهداف إسرائيلي مُفجع بحق الفلسطينيين لإجبارهم على ترك أراضيهم والرحيل إلى الأردن، الأمر الذي يلتقي مع ترحيل أهل غزة إلى سيناء وفقاً للبند الخامس/ ج من الوثيقة التي صدرت عن وزارة الاستخبارات الإسرائيلية يوم 13/ أكتوبر 2023م، وقد سبق وأن أعلنت وزيرة المستوطنات الإسرائيلية “أوريت ستروك” في 2/ مارس 2023م: “إنّ المرحلة المهمة اليوم هي العودة إلى غزة وشمال الضفة”، وبالتالي القضاء على كل ما هو فلسطيني الإنسان، الأرض، التاريخ، المقدسات وحتى الأسرى عبر تمرير قانون “بن غفير” السفّاح بإعدام الأسرى الفلسطينيين، وكل ذلك يصب في مجرور المشروع الصهيوني على أساس اعتبار أنّ الأرض كلّ الأرض الفلسطينية هي “إسرائيلية يهودية”.
ثمّ يلي تلك السيطرة الصهيونية سيطرة على دول الطوق وتحقيق “إسرائيل الكبرى” من النيل إلى الفرات والتي لا يمكن أن تتمّ إلا بعد الاستيلاء الإحلالي السابق، فالأردن جزء من وعد بلفور، وجزء من الوعد الإلهي لحزب الليكود، ونشيده الرسمي خير دليل، ثم الدور على لبنان فسوريا والعراق إلى خراب مصر وغيرهم من الدول، وبذلك تتحقق نبوءة إشعياء التي بشّر بها النتنياهو عندما علّل الهجوم على قطاع غزة، ومن الواضح أنّ هذا العلماني الذي أصبح بين يوم وليلة “متديناً متطرفاً” لا يفقه شيئاً بالتوراة، وما يريده مجرد نبش بين النصوص الدينية ليبرر وأتباعه مخططاتهم الاستعمارية الاستيطانية وكسب مزيد دعم وتأييد.
وبين أهداف الكيان المحتل النازي، يبرز حقل غاز “غزة مارين”، هذا الحقل الذي لم تأل الصحف والمقالات العربية والأجنبية جهداً في الحديث عنه، لاشك وأنه من ضمن الأهداف كباقي حقول الطاقة في فلسطين، فبعد عقود خلون على اكتشافه وحصار طاقي خانق على القطاع مع تعنت إسرائيلي للحيلولة دون بدء العمل فيه بهدف منع استفادة القطاع منه خصوصاً والفلسطينيين عموماً، ليكون بإنتاجيته واستثماراته لها وحدها، كانت تذهب “إسرائيل” إلى حجج واهية، من فرض مرور خط أنابيب النقل إليها 2006م، لتتحكم في إمدادات الغاز إلى القطاع، ثم تتوقف بحجة خشية دعم الإرهاب في حال نال القطاع جزءاً من عائداته أو تطوير الفلسطينيين لمواردهم من الغاز، والذي بدوره يؤدي إلى زيادة النفوذ الفلسطيني، وهذا ما تحاربه أساساً مذ تأسيسها.
من لا يراجع الأحداث القديمة لا يمكنه قراءة المستقبل ولا اتخاذ العبر، ويبقى تحت إحدى نارين، نار جحيم الهيمنة والسيطرة أو نار الطريق إليها، ففي حرب إسرائيل على غزة فيما سُمّيت ﺒ “الجرف الصامد” 2014م، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك ” موشيه يعالون” أنّ الخطط العسكرية لـ “اقتلاع حماس” تهدف إلى “السيطرة على احتياطيات الغاز في غزة”، إلا أنّها لم تنجح في اقتلاع المقاومة ولا حتى في سرقة غاز مارين، ناهيك عن وجود حقول أخرى في القطاع استحوذت عليها دولة الاحتلال إلى حد تجفيفها، كحقل “ماري ب” المشترك بينها والقطاع، والذي استغلته لتوفير إمدادات غاز محطات الطاقة لديها حسب تقرير نشره المركز الفلسطيني للإعلام في حزيران 2023م، على الرغم من أنّ “اتفاق أوسلو” المشؤوم ومن بعده “باريس الاقتصادي” واتفاقية “طابا” يؤكدون نصّاً على الحق والولاية الفلسطينية في الاستفادة الكاملة من مواردها الطبيعية، بيد أنه لم يتجاوز حبره المكتوب، وذهبت دولة الاحتلال المِبطانة إلى أجشع من ذلك فحددت مساحة الإبحار للفلسطينيين بـ 6 أميال بحرية فقط، قافزة فوق القانون الدولي الذي يعطي الحق بـ 200 ميل بحري، دون أية مسائلة قانونية، وما الهدف إلا منع الفلسطينين منه!
على الرغم من أن ملف غاز غزة مارين مغلق عن الإعلام ومقفل عن التنقيب، إلا أنّ هذا الملف طافت حوله عدد من الاتفاقيات منذ اكتشافه 1999م، وكان أغلبها يرتكز على استراتيجيتين أساسيتين: سرية مطبقة من قبل السلطة الفلسطينية، وتبعية كاملة مفروضة من قبل الكيان المحتل.
ولأنّ الانقسام الفلسطيني لم يزل قائماً بين الفصائل، فانعكاساته ستؤثر سلباً على ملف الغاز، فالسلطة الفلسطينية تخشى احتكار حماس له، بمقابل تقديمها فوائد خدمية للقطاع كأثمان الكهرباء، زيادة في عدد ساعات الوصل، وتحويل محطة الطاقة في غزة للعمل بالغاز الطبيعي، منطلقة من مبدأ التمثيل الشرعي الوحيد لدولة فلسطين وأنّ “الاتفاقيات” تتم بين دول لا كيانات، فدولة فلسطين عضو في “منتدى غاز شرق المتوسط”. أمّا فصائل القطاع تؤكد على حقّها الشّرعي القانوني في الغاز وهو محمي بالنار، وتأخذ بحسبانها فساد أجهزة السلطة، مطالبة السلطة أن يكون ملف الغاز “شفافاً” وقطاع غزة ممثلاً فيه.
وبعملية بحث بسيطة تجد أن تلك الاتفاقيات كانت تتم بين مصر والسلطة و”إسرائيل” كعام 2021م تارة، وبين مصر وحماس و”إسرائيل” كعام 2022م تارة أخرى، ومؤخراً من هذا العام في شهر حزيران، أمر “نتنياهو” بدفع عجلة تطوير حقل غزة مارين ضمن إطار الاتفاقيات التي تمت بين دولة الاحتلال ومصر والسلطة الفلسطينية، على أن يبدأ العمل ومطلع عام 2024م، إلا أنّ الجانب الفلسطيني وفقا لما كشفه موقع CNN في 13/ سبتمبر 2023م أي قبل أقل من شهر من بدء طوفان الأقصى، قرّر الإسراع في عمليات تطوير الحقل وبالاتفاق مع المعنيين، لتبدأ في أكتوبر!
فهل يثبت تنحية حركة حماس وأهل القطاع عن صفقة الغاز لتعلنها طوفانا إلى ما ذكرته بداية من أسباب على مبدأ رنتيسية الرشاش وأن لا نصر بلا معركة؟
ما بين طيات الانقسام وتصريحات السلطة والقطاع، نجد أنّ دولة الاحتلال قد استنفذت نحو 4.5 تريليون قدم مكعب من حقول غزة، بعد أن حرمت الفلسطينيين من حصتهم التي قُدرت بنحو 20 مليار دولار، وفي حال لم يتعاضد الفلسطينيون اليوم، فهي في طريقها لسرقة احتياطات تقدر ﺒ 1.5 مليار متر مكعب، بحجم استثمارات تفوق 6 مليارات دولار، ففي ظل حربها المسعورة على غزة أعطت إذناً لست شركات تنقيب في29/ أكتوبر2023م للبحث عن حقول الغاز في سواحل فلسطين.
يعتبر اكتشاف دولة الاحتلال لحقلي تامار وليفياثان نقطة بداية الأطماع الإسرائيلية في السيادة الطاقوية، فحولها من دولة مستوردة إلى مصدرة للغاز، وهذا سر تمسكها بحقول غاز غزة، فهي تسعى جاهدة وبدعم صهيو أميركي غربي إلى تعزيز مكانتها الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، انطلاقاً من قاعدة “كلما ازداد اكتشاف حقول الطاقة ازداد النفوذ أكثر” هذا من جهة، ومن جهة أخرى تعمل “إسرائيل” على أن تبقى المصدر الرئيس المصدّر للطاقة في المنطقة لما له من أهمية في تشجيع اتفاقيات إضافية لا سيما وبعد أزمة الغاز الأوروبية التي أشعلتها الحرب الروسية الأوكرانية، بالإضافة إلى اعتبارات أمنية استراتيجية، فدولة الاحتلال لديها عقدة خوف دائمة من استخدام الطاقة كسلاح مقاوم ضدها، مع تنويع مصادرها لمواجهة أزمة الطاقة.
ولأنها دولة احتلال عنصرية، تسعى مع السيادة الطاقوية إلى سيادة في التجارة العالمية عبر مدّ شبكات من السكك الحديدية والممرات المائية، فتربط بقبضة يديها وتحت سلطتها الطريقَ التجاري من أوروبا مروراً بالشرق الأوسط إلى الهند.
إنّها تريد سكة كسكّة العثمانيين والحجاز تكون فيها الحدود مفتوحة بينها والعالم، وممرا مائيا أقوى وأحكم نفوذا من قناة السويس، وبتاريخ 9/ سبتمبر2023م، أُعلن عن اتفاق للسكك الحديدية والموانئ، بطرح أمريكي لمواجهة “مبادرة الحزام والطريق”، على أن يشمل النقل نقلاً برياً وبحرياً، ناهيك عن مشروع آخر قُدّم على الطاولة الإسرائيلية لربط القطاع بالضفة الغربية عبر سكة حديدية.
وبإلقاء نظرة سريعة على الخريطة نجد أن قطاع غزة يُشكّل تحدياً أمنياً واقتصادياً واستراتيجياً للحلم الصهيوني، ومجمل ذلك كله لا يمكن أن يتحقق إلا بسيادة أمنية تامة على القطاع والضفة والمناطق الأخرى.
ثم إنّ لتنازل مصر عن تبعية جزيرتي “تيران وصنافير” للمملكة العربية السعودية 2016م، نقطة أمنية لصالح المحتل، تلك الجزيرتان اللتان كانتا في يوم من الأيام تضم قواعد عسكرية لصالح مصر قبل أن تتخلى عن تلك القواعد بعد “كامب ديفيد”، ولأن هاتين الجزيرتين تقعان على ممر تيران الذي أصبح ممراً دولياً، فقدتْ مصر سيطرتها عليه بعد أن كانت تملك حق إغلاقه حال الحرب، واليوم تلهث دولة الاحتلال والأمريكي كالكلب المسعور لقبول المملكة العربية السعودية تطبيعاً كاملاً معها، لبسط زعامة أكبر وقوة أضخم.
كل ما سبق ذكره هو من ضمن المشروع الصهيوني العالمي الظاهر لأعيننا وما خفي أعظم، ليأتي طوفان الأقصى ويُبدّد جزءا من تلك الأحلام ويهددها، ويدافع عن الحق الفلسطيني العربي الأصيل، ويُنذر الأحرار لأخذ العبرة والحيطة.
دولة الاحتلال تعمل جاهدة على تسيير كل ما يحقق أمنها وازدهار ولايتها فوق جثث الشهداء وتحت ادعاءات باطلة وبضوء أمريكي أخضر، وإن لم يُدرك المنصفون من الحكّام خطر تغلغل الصهيونية الأصولية التي تستمد استراتيجيتها الاستعمارية من الأساطير التلمودية، والسعي عبر إدارة تلك الأزمة لإقامة الدولة الفلسطينية الحقيقية كاملة السيادة والحقوق والأرض، والعمل على أن يكون “ما قبل طوفان الأقصى ليس كما بعده” لنا لا علينا، بإعادة النظر إلى اتفاقيات السلام والتطبيع، فالدور لاحق عليهم وعلى شعوبهم، ولهم في أحداث اليوم عبرة لمن اعتبر.
ولمَ المقاومة في غزة والضفة:
لأنها آخر معاقلنا في الداخل، وآخر رجائنا لوقف توسع المشروع الصهيوني.. وإن سقطتا لا سمح الله… سقطنا واستُبحنا واستُعبدنا…
بقلم الأديبة والمحاورة هبة عبد القادر الكل – سوريا