فاطمة البسريني (المغرب) تكتب المبدع ناقدا
لم يحصل الحديث إلا عن الناقد الذي يمارس النقد ممارسة مستقلة، دون أن يمارس الكتابة الإبداعية .
هل يعني هذا أن النقد محصور على غير المبدعين ؟
أم هل يمكن للمبدعين أن يكونوا من النقاد ؟
إذا كان كذلك فما هي حدود ممارسة المبدع النقدية ؟
وما علاقتها بإبداعه الخاص ؟
ليس هناك ما يمنع الكاتب من إنتاج المعرفة النقدية إذا كان مؤهلا لذلك ،متوفرا على الأدوات المنهجية اللازمة ومقومات الرؤية الأدبية الواضحة ومستعدا لإقالة المبدع حتى يتمكن من النظر إلى الأثر المدروس بعين الناقد لا بعين الكاتب .
يقول بود لير في هذا الصدد : ( من المستحيل ألا يحمل الشاعر ناقدا بداخله .)
وذلك يمكنه من تقويم الأثر الأدبي في اتجاهين اثنين :
أولا : ـــ الحكم على أعماله الخاصة .
ثانيا : ــ الحكم على أعمال غيره .
ولعل هذه الحساسية النقدية التي قد تتوفر لدى الكاتب تستطيع بلورة أربعة وظائف لديه وهي :
أولا : وظيفة إعادة النظر في النص ووسائل اشتغاله .
ثانيا : وظيفة التطوير وضمان الاختلاف .
ثالثا : وظيفة إضاءة الكتابة الشخصية .
رابعا : وظيفة إضاءة كتابة المدعين الآخرين .
لقد سئل الشاعر الفرنسي ــ جيل فيك ــ في حوار معه عما إذا كان بإمكانه القيام بتأمل أعماله تأملا نقديا ، فأجاب بالإيجاب قائلا:
( طبعا إنني أنظر إليها دائما بعين الناقد، إن طريقتي في إنهاء القصيدة هي في حد ذاتها نقد للقصيدة ، فأنا أنهي القصيدة بشكل مفاجئ وكأنني أقول لنفسي ( كفى ).
وفي نظرــ إليوت ــ إن تفوق هذا الكاتب أو ذاك ليعتبر تفوقا للملكة النقدية أولا وأخيرا .
بطبيعة الحال اهتم أسلافنا قبل كل هذا بالحساسية النقدية منذ قديم العهود يشير ابن رشيق إلى أنه ( لا يكون الشاعر حاذقا ومجودا حتى يتفقد شعره ويعيد فيه نظره ، فيسقط رديه ، و يتبث جيده ويكون سمحا بالركيك منه ، مطرحا له ، راغبا عنه .)
وهذا يدل على أن حضور هذه الوظيفة في الأدب العربي هو حضور قديم كما يتبين ذلك في الحوليات ، وعبيد الشعر بيانا واضحا .
كان ــ الأصمعي ــ يقول : ( زهير والنابغة من عبيد الشعر)
يريد من ذلك أنهما يتكلفان إصلاحه ويشغلان به حواسهما وخواطرهما .
وكان الشاعرـــ طفيل الغنوي ــ يسمى محبرا ، لحسن شعره ولا ننسى ــ الحطيئة ــ وكذلك ـــ النمر بن تولب ـــ الذي كان أبو عمر بن العلاء يسميه الكيس.
هذا كله يعني أن الشاعر العربي اهتم بإعادة النظر في نصوصه ، شاغله في ذلك سحر الإنشاد وشدة التأثير في المتلقي.
وقد تأخذ هذه الحساسية النقدية مستوى آخر هو مستوى التجربة الإبداعية الكاملة بهدف تطويرها وإعطائها نفسا غير معهود ، ينقده من الاجترار ويفتح لها آفاقا جديدة .
يؤكد لنا ــ أدونيس ــ في هذا الخصوص أن الشاعر قد يصل بإبداعه إلى (حالات قصوى ) يشعر معها بأن كل ما سيكتبه لن يكون إلا تنويعا على ما قدمه سابقا .
وذلك يفضي به إلى ثلاثة مسالك مفترضة :
إما أ ن يصمت ، وإما يبحث عن طرق أخرى للتعبير، وإما أن يفقد حسه النقدي ويفقد بذلك بعد الرؤيا ، فيكرر هذه الحالات القصوى ، أي ينتهي كمبدع .
وتنتظم هذه المسالك الثلاثة في نهاية الأمر ضمن محورين :
أ ــ امتلاك الحس النقدي .
ب ـــ افتقاده الحس النقدي.
فافتقاد الكاتب للحس النقدي لا يؤدي إلا إلى كتابة ممحوة ، لا أثر لها ، فيما يضمن له امتلاكه لذلك الحس إما استمرارا إبداعيا ،
وإما نهاية إبداعية مشرفة لصاحبها الذي اختار الصمت المبدع الجميل بدلا من الكتابة الممحوة الجارحة .
أما فيما يتعلق بالوظيفة الثالثة ا لتي سبق ذكرها آنفا ، فإن القارئ فإنه يحاول فهم الكاتب بدءا من نية المشاركة الوجدانية الممكنة، كما يتخلى الكاتب عن حياده السلبي ملقيا الأضواء الضرورية على كتابته لتهيئ القارئ والتخفيف من عبئه وتبشيره بالأثر، تارة بالعرض السريع ، أو المقدمة الممهدة ، وأخرى بالحديث عن التجربة الشخصية والحوارات .
أما الوظيفة الرابعة ،
فتتمثل فيما يقوم به المبدع من قراءات نقدية واعية في أعمال غيره من الكتاب مساهما في التعريف بها وإبراز قيمتها شأنه في هذا شأن النقاد غير المبدعين .
ويرى ـــ أرشيبالدمكليش ــ ( أن المرء في ميدان الشعر في حاجة إلى رائد ثقة ، رجل، رأى واستبان ثم عاد ، ولن يكون هذا الرائد إلا شاعرا ).
وما يستند عليه ـــ مكليش ــ في هذا الرأي هو تجربة الشاعر الإبداعية وإدراكه لاشتغال القصيدة من الداخل ومعرفته بصنعها وأدواتها وموادها الكيماوية المستعصية على فهم النقاد الذين لا يستطيعون النفاذ إلى جزئيات عالمها الدقيقة وهم في نظره ( كمن يصنع خرائط لجبال العالم التي يرونها ، غير أنهم هم أنفسهم لم يتسلقوا تلك الجبال قط ) .
هذا يقودنا إلى طرح أسئلة مهمة منها :
هل يمكن الوثوق بنقد المبدعين إلى هذه الدرجة ؟
وهل كل من يمارس النقد من المبدعين يفلح في صنيعه ؟
وهل هناك شروط معينة هي التي تؤهل بعضهم لهذه الممارسة وتقصي الآخرين ؟
لقد روى ـــ سقراط ـــ لقضاته أنه كان يسأل الشعراء الذين تناول أشعارهم بالدرس والتحليل عن مقاصدهم فيها ، وكان يفاجأ مرة تلو الأخرى بعجزهم عن الإجابة .
بالمقابل يجد قراء ومعجبين ، أقدر منهم على تفسير شعرهم وهذا ما قاده إلى التمييز بين الأدب والنقد باعتبار الأول محكوما بالإلهام ، والثاني بالذوق والعقل
وفي تأكيده للطبيعة الإلهامية للشعر قال سقراط :
( ….. إذن فالشعراء لا يختلفون عن الأنبياء والكهنة الذين ينطقون بالكلام الحسن دون أن يعرفوا ماذا ينطقون ….) .
ورغم استطراد ـــ كورومبي ـــ وتأكيده جواز ( ان يكون الشاعر ناقدا قديرا ، للأدب …)
تبقى وجهة نظر سقراط واردة في مناقشة نقد المبدعين ومدى فعالية قراءته الآثار الأدبية المختلفة لأن النقد في نهاية المطاف ( صناعة تقدير لا صناعة خلق ، صناعة تذوق لا صناعة بناء وتشكيل ….).
وهذا ما قد يعوز أغلب المبدعين الذين يطرقون باب النقد وهذه حجة أولى على عدم نفاذ هذا النوع من النقد .
أما الحجة الثانية تتمثل في عدم حياد الكاتب عندما يمارس النقد لأنه يدافع عن نوع الشعر الذي ينظمه ويغلب عليه أن يكون في الحقيقة متناولا لنوع واحد من التجارب يحاول أن يتخذ منه أحكاما عامة .
من هنا نخلص إلى أن الحجتين على فشل نقد المبدعين ليستا واهيتين تماما ، كما أنهما ليستا سليمتين كليا بل يمكن أن تنطبقا على نموذج من الكتاب دون الآخر، علما أن المشتغلين بالنقد من غير الكتاب أنفسهم هناك من لا قدرة لهم على فهم النص من جهة، ومن لا يستطيعون ضمان مسافة التباعد الممكنة بينهم وبين الأثر.
وذلك يعني إمكان الطرفين معا ممارسة النقد الأدبي شريطة تملك الحساسية النقدية وهي إشكالية النقد الأدبي الكبرى .
ليس المبدع والناقد عدوين متناقضين كما يتصور البعض دائما بل هما في كثير من الأحيان ، اسمين لشخص واحد ،كما أوضح ـــ آلانروب غرييه ـــ الذي سئل مرة عن كيفية توفيقه بين ـــ روب غرييه ـــ الناقد والأديب الذين يعيشان في شخص واحد ، فكان جوابه :
(إن أحدنا ينقد الآخر،…. فنحن نبحر على زورق واحد…… حين يكاد الروائي يغرق ينقذه الناقد ، والعكس صحيح أيضا ).
يتضح أن علاقة التضامن هي التي تربط الكاتب بالناقد لا علاقة التناحر ولا أدل على ذلك من إمكانية إنقاذ أحدهما الآخر وضمان إبعاده عن الخطر .
هذا الاستغراب يواجه أيضا الدارسين والنقاد الذين يحاولون الكتابة الإبداعية وذلكما حدث للناقدة الدارسة الألسنية والسيميائية ـــ جوليا كريستيفا ــــ بعد إصدار روايتها ( الساموراي ) في بحر سنة 1991،وقد استغربت هذا الموقف مؤكدة أن 🙁 الأدب ونقد الأدب كالشهيق والزفير). ولا غرابة في ممارستهما معا .
إن النقد والإبداع متكاملين تماما مثل ــ الدكتور جايكلوالمستر هايد ــــ في مسرحية( ستيفنسون ) المشهورة بالعنوان ( دكتور جايكلآند مستر هايد ) ( الطبيب الوديع في نفس الشخصية ملازم للسفاح الشرس ).
وفي العقد الفريد لابن عبد ربه أنه قيل ـــ للخليل بن أحمد الفراهيدي ــ
( مالك تروي الشعر ولا تقوله ؟)
فأجاب :
( لأني كالمسن أشحذ ولا أقطع ).
ولعل رهان المبدع الحقيقي هو أن يكون أن يكون قادرا على الشحذ والقطع في وقت واحد .
إن النقد في حاجة دائما إلى نقاد غير كتاب يستطيعون استجلاء عالم الكتابة من الداخل شرط امتلاك أدوات التحليل النقدي وترك مسافة معقولة بين ما يكتبونه وما ينقدونه مع الإصرار على الإفادة من تجربتهم الإبداعية الخاصة .
المراجع :
ـــ ابن رشيق ــ العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده ــ ج1 ــ ص 200
ــ إليوت ـــ وظيفة النقد ــ تر : خلدون الشمعة ــ مجلة الموقف الأدبي4 /1974، ص :32
ــ أدونيس ـــ فاتحة لنهايات القرن ، دار العودة ص 272
ـــأرشيبالدمكليش ــ الشعر والتجربة ـ تر : سلمى خضراء الجيوسي12.
ــ لاسل أبر كرومبي ـــ قواعد النقد الأدبي ـ تر :محمد عوض محمد 2.
ـــ محمد زغلول سلام ـــ النقد الأدبي الحديث ص 143.
ـــ جهاد فاضل ـــ ـصدمة الحداثة لأدونيس، صدمة لأصول البحث العلمي ولروح الحداثة ، مجلة الفكر العربي يوليوز،غشت 1978 ص 297.
ـــ خيري منصور ـــ أبواب ومرايا ــ مقالات في حداثة الشعر ص32.
ــــ جريدة العلم ـــ الملحق الثقافي ــ حوار مع جوليا كريستيفا ( البعد الإنساني في رواية الساموراي ) السبت 13يونيو 1991.
ــــ ابن عبد ربه ــــ العقد الفريد ـ تح : أحمد أمين ــ أحمد الزين ــ ابراهيم الأبياري ــ دار الكتاب العربي ، بيروت 1983.