مَصرع ذُبابة قصة : هبه آلسهيت
استيقظتُ صباحًا والجوعُ ينهشُ أحشائي ، مسح تُ ت وجهيَ بأطرافيَ الدقيقة ، فتشتُ في جُحريَ الصغيرت
عن أي بقايا طعام ، أو حتى لقمة عفنه تسد رمقي ،فلم أجد ، فمنذ خمسة أيام ، لم يدخلْ جوفي طعامًا
، ولقد ذهب والداي في يوم أسود ليحضرا لي الطعام ، ولم يعودا ، يومها بكيت كثيرُا ، وانتظرتهما
حتي ملّني النتظار ، وبحثتُ عنهما في كل جُحرٍ وكلّ ثقبٍ أعرفه في الحارة ، لكنني بعد أن يئست من
عودتهما ، فأنا أقوم يومياً بزيارة كل منازلِ الحارة اِلبائسةِ ، ذات البوابِ والنوافذِ المفتوحةِ دائمًا ،
أتطفّلُ علي موائدِهم ، وأشاركهم الخبز اليابس، والطعام القفار. أحياناً ل يكترثون لتطفلي ، ويتركونني أتذوّق خبزَهم
الفقير ، وأحياناً يلوّحون في وجهي بأيديهم لفارقهم ، فأخرج مُسرعًا ، لكنني أعودُ مرات ومرات ، حتي
أنال لقمتي الصغيره !! والناس في حارتي ، أناسٌ طيبون ، يأكلون قليلً ،ويتكلمون كثيرًا ثم يتجمعون كل مساءٍ ، في
الطرقاتِ الترابية ، علي حواف بركِ ماءِ المجاري التي تنتشر في طرقاتِ الحارةِ، كبقعٍ في الجلد
الجرب ، ،تزكم أنوفهم الروائح الكريهة ، لكنهم ليدركون أنها كريهة ، يثرثرون ، ويضحكون حتي تبكي
أعينهم ، يرضون بالقليل ، ويحمدون الله أن منحهم زاد يومهم .يتجمعون حول مصباحٍ يلفظ أنفاسه الخيرة ، وبين
الحين والحين يرفعون رؤسهم – وهم نادرًا ما يرفعونها – ليطالعوا في الفق تلك النوار المتللئة
للقصر الكبير ، المُحاط بأسوارٍ أسمنتيةٍ عالية ،وخلفها الشجار الباسقة ، ويحكون أن هناك حدائق ورياحين وجداول ماءٍ رقراقةٍ تسيل من نوافير ،ويتحاكون عن الطعمةِ الوفيرةِ ، وأنواعها العجيبة الغريبة ، لدرجة أن أحدهم من مزوّقي الكلم ، قال :إن بها ما ل عينٌ رأت، ول اذن سمعت ، ول خطرعلي قلب بشر !!!لكن ل يجرؤ أحد علي الدخول إلى هذا القصر أوالقتراب منه ، فهناك الحراس الشداء غلظ القلوب، ومن ينجُ منهم فلن ينجوَ من الكلبِ المتوحشة المُدرّبة علي القتلِ لي مُقتحَِم لسوار هذا القصر. وهناك أبوابُ القصرِ الفولذية ، ثم إن علي كلُّ
النوافذ شبك من السلكِ التي تمنع الذباب أو حتي البعوض من التسل لتإلى داخل القصر . أحببتُ منازل حارتي ، أحببتُ أهلها وثرثراتهم وشجارهم ، وشاركتهم أفراحَهم وأتراحَهم . وها أنا منذ أيام أفُتش في بيوتهم عن كسِرة خبزٍ.. فل
أجد ، سمعتهم يتهامسون عن ضيق المعايش ، وارتفاع السعار ، وقلة الدخول ، سمعتهم يقولون أن السيد السمين الذي يسكن في القصر المنيف ، والتي تقبع حارتنا منكفئة علي نفسها ، في ظل هذا القصر .سمعتهم يقولون أن السيد السمين ، والذي يعمل في مصنعه كل أهل الحارة، قرر أن يخُفض الرواتب للربع ، هذه الرواتب التي لم تكن تكفي أهل الحارة إل
للقليل من الخُبز اليابس، والذي كنت أشاركهم فيه ،بل وفَصَل أعدادًا كبيرةً من أهل الحارةٍ ، لزيادة أرباحه التي ما عادت تكفيه للذهاب الي بلد الفرنجه ، ليقضي أوقات الصيفِ في البلد الباردة!!
وقال آخرون : إنه يريد أن يهدم كل بيوتِ الحارة ،لنها نقطة سوداء وبقعة شائهة ، تسُيئ إلى منظرقصرِه المنيف .وأن أصحابه وزُوّاره من الغنياء ،يخافون من الضواري التي تعيش في الحارة
المجاورة لقصره .أمضّني ألمُ الجوعِ ، ويئستُ من العثورِ علي أيّ طعامٍ أو فتاتٍ في بيوتِ الحارة ، ولم أتجه إلى البحث
في أكوام القمامة ، فالفقراء ليس لديهم قمامة تجد فيها
طعامًا كالغنياء!! قررتُ في لحظةِ يأسٍ ، أن أقتحم قصر الرجل السمين ؛ لعلي أحظى ببقايا من أطعمته ، التي يلقي
بها في القمامة ، وأوقف تلك الذئاب التي تنهش في معدتي .ولنني ذبابه ..فلقد علوت السوار بسهولة ، ولم
يلحظني الحُرّاس ، وحتي الكلب لم تشم رائحتي ،فليس للذباب رائحة ، فما بالكم بذبابةٍ لم تأكل منذ خمسة أيام !!
لم يبقَ إل الدخول إلى القصر ، فكمنت فوق شجرةِ ،حتي لحظت أن إحدى النوافذِ لم يتم إغلقها بعناية ،
فنفذت منها إلى داخلِ القصرِ المنيف ، وهالتني النوار المبهرة ، لدرجة أنها للوهلة الولي كادت
تصيبني بالعمي و الدوار ، ولكن بعد قليلٍ تعودت عليها ، ودلفتُ مُسرعًا إلى حيث روائح الطعامِ
الشهية . فاذا بغرفة واسعة ، ومائدةٍ كبيرةٍ جدّا قد احتلّت
معظم هذه الغرفة ، وقد أحُيطت بمقاعدٍ ليس عليهاأحد ، وقد امتلت بكلُّ أنواعِ الطعام ، ويجلسُ علي رأسِها الرجلُ السمين ، يتناول طعامَه بهدوء .كمنتُ أسفل المائدةِ من الجِهة المُقابلة لمجلسالسيد السمين حتي ل يراني ، وتوقفت تمامًا عن
الحركة ، ثم لما اطمأننت إلى أنه لم يرني ، تسللتُ بخفةٍ لتذوق الطعام البعيد عن السيد السمين .
وفي لحظةٍ وأثناء محاولتي الوصول للطعام ، رمقني السيد السمين ، وقام بحركة سريعة / بطيئة بحسب
ضخامته وثقل جسمه ، متوجها لي ، وبيده آلة لم أتبينها ، فتجمدتُ في مكاني من الرعبِ لول وهلةٍ ،
ثم أسرعتُ مبتعدًا عنه حول المائدة ، وبعد مطاردة استغلل تت فيها خفة حركةِ الذباب ، استطعت أن
أهرب من غرفة الطعام ، وقد نالني التع بت من الخوفِ والرهاق والجوع ، فدخلت في أول بابٍ
قابلني، وتبعني السيد السمين ، ولسوء حظي اكتشفت إنني دخلت الحمّام ، والحمّام مكانٌ
مكشوفٌ وأنواره مُبهرة ، والختباء فيه يكاد يكون مُستحيل .
هجم عليّ السيد السمين وبيده آلته ، وعندما ظن أنه قد حاصرني، وسد علي الطريق بجثتهِ الضخمةِ ،
استطعتُ أن أمر بسهولةٍ من بين فخذيه السمينتين ، وأصبحت أمامي فرصة للهرب ، لكنه ركلني في آخر
لحظةٍ ركلةً أطاحت بي أرضًا ، وأصابني دوار ، وغامت الرؤية ، ووطأني السيد السمين بأقدامه
الثقيل ةت، مرات ومرات ، وآخر ما أتذكره ، وقبل أن أفارق الحياة أنه حملني بإصبعيه وألقى بي من
النافذة . وفي صباح اليوم الثاني ، جلس السيد السمين يتناول
إفطار الصباح علي مائدته الفخمة ، وبيده جريدة الصباح ، ليقرأ في الصفحة الخيرة ، خبرًا صغيرًا
منزوياً هامشياً ، “العثور علي جثةِ صبيّ قتيلٍ تحت نافذةِ السيد السمين ، ويقول المحققون أنه اقتحم
القصر بهدف السرقة“!! .