ثنائية الإخفاء والبوح دكتور : خالد البوهي
ثنائية الإخفاء والبوح دكتور : خالد البوهي
“سيعود من بعيد” ديوان متفرد الموضوع فى تاريخ الشعر العربى للشاعر الكبير الأستاذ محمد الشحات، فهو يصف مشاعر الأبوة التى لم يتناولها تاريخ الشعر العربى باستثناء مرثيات الآباء البديعة على غرار ما كتبه أبو ذؤيب وابن الرومى، وباستثناء ما كتبه الشاعر السكندرى الكبير المرحوم عبد المنعم الأنصارى فى ديوان رائع بعد الحكم على ابنه طلال بالإعدام فى السبعينيات!!
وديوان الشاعر محمد الشحات يضم تجربة ثرية، تتشح برومانسية عذبة مؤلمة معًا عن ابنه المسافر، لينسج نسيجًا شفافًا عن قضايا ذاتية تتوحد بجماعة تائهة المسلك والمصير، فهل صار الابن قناعًا لآلام الشاعر الوجودية؟ أم صار قناعًا لآلام أمته الخاصة والعامة؟ أم صار قناعًا لوجود يسحق الأشياء الجميلة التائهة؟
يصف الشاعر حالات رومانسية فياضة تصف الفقد والأمل، والخوف والرجاء، والتشظى والانتظار؛ يصفها بمشاعر الأب الحائر، فيرسم صورًا جزئية متشابكة تهتم بتفاصيل المشاعر والأحاسيس؛ هذه التفاصيل تشكل فى نهاية المطاف صورة كلية تبوح بتفاصيل النفس البشرية، وتفاصيل الوجود، وتفاصيل الوطن ومعاناة أبنائه.
ورومانسيته حالة أبوية خاصة متفردة بتفاصيلها وصورها، فهو يقول فى “متى يعود الغائب” (وأحاول/ أن أتحين رجفته/ كيما أخرج مبتهجا/ فأدس بعينى كل ملامحه/ حين أحاول/ أن أملأ صدرى/ من طيب روائحه/ آه يا بلورة عينى/ ومداد حروفى/ فى محبرة جفت/ حين رحلت/ فلا تتركنى/ طال وقوفى/ منتظرًا خلف الباب/ وإن دق/ فصوت هواء/ جاء لكى يخدعنى/ ويخادعنى) هى رومانسية متوجسة من القادم (وما أخشاه/ أن تتركنى/ وقطارى يمضى هل تدركنى/ كنت سألت عيونك حين رحلت/ متى سيعود الغائب/ فأنا أخشى/ إن عدتَ/ ألا تجد البيتَ/ وقد غبتَ)
ابتعد الشاعر عن الخطابة، وآثر رسم تفاصيل الصور بكل الطرق؛ فهو يرسم فى قصيدته “الغيرة من الشوق” صورة وداع الابن المسافر بكل ما فيها من وجع، فينجح فى إثارة أوجاعنا (حين ارتميت بصدر أمكَ/ هزنى وجه تبدل فى ارتجافتهِ/ تبلور واستدارَ/ فكاد يأخذنى المدارْ/ حين انتبهتُ/ فخفت إن هى قد رأتنى/ أن تدارى لهفةً/ كانت تنام بها لياليها الطوالْ/ فحملت شوقى/ واختبأتُ/ لكى أدارى غيرتى/ وتركت ملمسها/ على أطراف كفى/ ورميتها بعيون شوقٍ/ آه ما أقسى مدارات اشتياقى) إنها صورة مثيرة موجعة معًا، تشعل توترنا بتفاصيلها الذى توهج بتنكير كلمة وجه، أتراه وجه زوجته أم وجه أمه أم وجهه هو نفسه!! وتشعل توترنا بتفاصيل المشاعر التى تفلتت برغم إخفائها، فهو يصف مداراة الأم للهفتها ومداراة الأب لغيرته، وكلها مشاعر تتفلت منهما كما يدل السياق. نجح الشاعر فى وصف انفلات المشاعر الذى صار بمقدورنا أن نقرأه على وجه الشاعر مثلما استطاع الابن أن يقرأه على وجه أبيه برغم إخفائه، لأننا ننظر إلى وجه يبوح بإخفائه (ما زلت أخفى عنكَ/ كل ملامحى/ بعض اضطرابى/ رجفة تأتى وترحلُ/ كلما حاولت أن أنجو بها/ كانت تحاصرنى عيونك/ فانزويت بغرفةٍ/ أخفيت فى أركانها/ خطواتك الأولى/ وأول ما نطقت به) إنه وجه لا يستطيع الصمود أمام ابنه، فانهار أمام عيونه مؤثرا الانسحاب إلى ذكرياته الذاتية جدًا التى يعيها كل أب.
إنها ثنائية الإخفاء والبوح التى امتزجت بالشاعر الأب، فهو يخفى مشاعره عن أعز الناس لديه كى لا يحزنه، لكن وجهه يظل يبوح بكل شىء على الرغم من إمعانه فى التخفى. وهذه الحالة الفريدة يحتاج وصفها إلى قدرة رفيعة، وقد نجح شاعرنا فى وصفها وصفًا دقيقًا، فأجاد رسم مشاعر الأب المصرى الذى يخفى وجهه البائح ما يجيش بصدره. نجح الشاعر فى وصف كل ذلك بدقة، فهو يقول فى قصيدته “غريب يلقاه غريب” (كنت احتبست بجوف عينى/ رجفتين من الوداعِ/ لكى أراكَ/ إذا اكتويت بجمر أشواقى إليك) إنه الإخفاء الذى يبوحه بمشاعر أمومة زوجته لابنهما (بعض الفطائر فى انتظاركَ/ وجه أمكَ/ لم يزل يستقبل الليلاتِ/ بحثًا عنك فى قصص الطفولة) إنه الإخفاء الذى تبديه مشاعر الأمومة (قد راقها/ أن تشتهى من نور وجهكَ/ تسترد بشاشةً/ آنستُها فى عرس أمكَ/ وهى ترتب غرفةً/ وخزانةً/ وهياكل اللعب القديمةِ/ والدفاتر والورود اليابساتِ/ وبقية الأشياءِ/ لا أدرى إذا ما كنت تذكرها) إنه الإخفاء الذى ينتقل بخفة – مرتديًا ثياب البوح – كى يخاطب ابنه مستجديًا مشاعره (أترى يهمك أن تراها برهةً) (هل يا ترى ما زلتَ تهفو/ كى تشم روائح الأزهارِ؟/ إنَّ الشوق أكبر من شبابيكٍ/ تطل على السهولِ/ أو البحارْ) إنه البوح الذى يتخلى عن الإخفاء، فجعله يكف عن إمعانه فى المداراة، وجعله ينتقل من الذاتى الخاص إلى الموضوعى العام، كى ينشد مأساة بحث الأبناء عن لقمة عيش لم يجدوها فى وطنهم (وطنٌ/ يبدل فى الأمورْ/ كل الأمور تبدلتْ/ وتبلدتْ/ وتلبدتْ/ كنت انتويت بأن أدارى/ ضيق صدرى/ إنه خوفى على وطنى/ وحلم قد تبدل فى بلادٍ/ لم تعد تحنو على أبنائها/ وأخاف حين ترى ملامحنا/ تهزك ثم تمضى/ هو ذا غريب سوف يلقاه الغريبْ) لقد نجح الشاعر فى عتاب وطنه الذى تسببت ظروفه فى ابتعاد ابنه، ونجح فى الاعتذار عن غياب ابنه الذى جعله قناعًا لكل الغائبين، فما الذى كان يستطيعه الغائبون فى بلاد لم تعد تحنو على أبنائها؟؟ (فأخاف حين يزيد ضيقكَ/ أن تحن لغربة أخرى/ وتمضى/ ما الذى يثنيك أن تبقى معى/ وتعاود التذكار فى وطنى/ وتمسك فى يديك حفيدتى/ وتكف عن هذا الرحيل) وكم هو مؤلم أن يكون حديثه عن (وطنى) لا عن (وطنك)، وأن يكون حديثه عن (حفيدتى) لا عن (ابنتك) إنها حفيدته (النبت الذى/ سيظل يحمل فى ملامحهُ/ ملامحنا/ وأمجادًا كتبناها/ ونبتًا ظل ينمو/ قد نراه ولا نراه) ومع بديهية بقاء الابن بعيدًا – تأسيسًا على كل ما ذكر من أسباب – تنطلق مشاعر الأبوة اليائسة، تتمسك بأمل لا طائل من ورائه، فأسباب الغربة لم تتغير (فأقم هنا/ فالأرض أرضكَ/ والبلاد هى البلاد) وهى مفارقة صادمة، فما دامت البلاد هى البلاد فكيف يطالبه بالعودة؟ ولذا ستظل مناجاة الأب يائسة!! إنها مأساة عاشقى أوطانهم الذين اضطرتهم لقمة العيش إلى البعد، فابنه عاشق لوطنه، سجل الشاعر عشقه فى صورة بكر بقصيدة “عاد إلى غربته” (حاول ألا تجعل وجهك/ يبدو مبتئسا/ فأنا أعرف أنك مسلوب الفرح/ وأنك أفرغت حقائبك/ لكى تترك متسعًا/ لهواء تحمله كى تفرغه فى غرفتك/ وأعرف أنك/ ما زلت تحن إلى أنفاسى) إنها المأساة التى فرقت شمل الأسرة (فما عاد بمقدورى/ أن أجعلك/ على مقربة من أنفاسى/ فتلمس فى خصلات صغيرتك/ بقايا من دفء هوائى)
ومن قضية اغتراب ولده ينتقل الشاعر بسمو وجلال من الخاص إلى العام، متوحدًا بالمغتربين وأسرهم وأحزانهم فى قصيدة “قسوة الموانئ” (فالراحلون محملون بحزنهم/ وبخوفهم/ من قسوة لن تنتهى/ وبغربة ستنام فى أنفاسهم/ وبأعين ظلت تودعهم/ ومنديل تساقط لوعة)
وتستمر ثنائية الإخفاء والبوح التى تشتعل توترًا فى قصيدة “عودة الابن إلى أحضان أبيه” (ما طاوعنى إلا أن أكتب أنى/ اشتقت إليكْ/ كنت أحاول/ أن أرسلها كيما تأتى/ لكن قلب أبيك استعصى/ فتركت قصاصات الورق/ إلى مكتبك الساجى) (كنت أحاول ألا أطلعك/ على ما انكسر بأغوار الصدر) (كنت أحاول ألا تضع بكفيك على عثراتى/ لتظل ترانى/ وكما كنت ترانى فارسك المغوار) وفى قصيدة “عاد إلى غربته” (وتدلى من محبسهِ/ شوقٌ/ كنت أحاول ألا ينفلتَ/ فيفضحنى) (وأخشى ما أخشاه/ أن أسقط/ فأحاول أن أتماسك) لكن شوقه قد فضحه برغم كل ذلك، فقال بتحفظ يرضى بالقليل (مر على ذاكرتى/ واترك ما يحلو أن تتركه)
وقد تتحول ثنائية الإخفاء والبوح إلى هلاوس تمتزج بهما فى قصيدة “نبضات حروفى” التى كان يقاوم فيها بوحه (تحسس دفء حروفٍ/ ظل يقاومها/ كى لا تخرج من بوابات الصدر/ فكان يخاف بألا تلقى من تعرفه) فأخفى بوحه فى أوراقه، واستقبل بوح ابنه وحيًا فى أذنيه (أمامك بعض الأوراق/ تخط بأحرفك/ فهل تخشى ألا أعرفها/ كنت أحس بصوت القلم/ أشمك/ فحنينك يأتى محمولا/ عبر ملايين الأميال) فكان الوحى بردًا وسلامًا عليه (فاكتب لى/ لا تبخل حين تزيد مشاعرك/ فأنا أنتظر حروفك/ كى أسكنها فى ذاكرتى/ كى أخرجها حين تضيق الغربة/ وأحاول ألا تسقط منها/ بعض الأشياء)
ويتوحد الأب بابنه متخليًا عن الإخفاء، يتوحد فلم نعد نميز صوت الأب عن ابنه، ولم نعد نميزهما عن صوت المجموع البائس، فقال فى قصيدة “الرحيل عن وطن يأكلنا” وعنوان القصيدة نفسه يكشف ما فيها من مأساة تمزق البائسين (وطن لا نعرفهُ/ يسكن خلف عيون الأطفالِ/ فلا تعبأ حين تراهم/ وتقاوم ما تعرفهُ/ عن وطنٍ/ كان يظللنا فنهيم بهِ/ ما عاد يتيح لنا/ أن نسكن فى معطفهِ) ويستمر فى عتاب وطنه بنبرة حزينة (حاول أن تحمل فيما تحملُ/ حين تغادر وطنًا يأكلنا/ وجهكَ/ أو بعض بقايا/ من أيام كنت تحاول أن تكملها) ويشتد غضبه (وابحث عن وطن يترك ما تملكهُ/ وطن حين تجيء/ يجيئك/ ويشدك كى لا تتركه) ويستمر التوحد فى قصيدة “ما أكتبه” التى لم يعد بمقدورنا أن نحدد هل هى مناجاة الشاعر لأمه أم هى على لسان ابنه أم لكليهما؟ ويستمر التداخل إلى أن يحسمه الشاعر لنفسه مظهرًا ولعه بالإخفاء (كنت رسمتك/ فى آخر منديل حمل روائح أمسك/ كان يهل فيؤنس غربتنا/ فأحاول أن أخفيه/ فتسأل عنه صغارى/ كنا نحاول أن نجعله طقسا يوميا/ منذ رحيلك/ فأحاول أن أفرغنى فوق حروفى) ويستمر التوحد فى قصيدة “العودة إلى الغربة” حين يمتزج الصوتان وحين تتوحد الغربتان الزمانية والمكانية (تبدلت الأشياء/ وانطفأت/ حتى أعين من مر به/ لا أحد يعرفه/ حتى من كان/ يرافقهم فى أيام الدرس/ لم يلحظ/ كيف تغير/ حتى صوت الأطفال/ وهم يلهون/ فرت من عينيه/ ألوف الأشياء وظلت تبحث/ عن شىء تعرفه/ أو لا تعرفه/ قاوم رغبته/ فى أن يكمل جولته/ ومضى/ كى يلحق بقطار/ يوصله/ حيث يواصل غربته)
وعتاب الشاعر لوطنه كان مصدره شدة الحب والتعلق، ولذا نلمس حرارة العتاب المشتبك بالحزن فى قصيدة “وطن بلا وطن” فى تجربة اغترابه (يا حزن أيامى/ على وطن نهيم بحضنهِ/ ويظل يدفعنا/ لنهجرهُ/ ويبقى عالقًا/ ما بين رائحة البيوتِ/ وخوف أمى/ من ضياع ملامحى/ فى رحلتى) والشاعر قد اختزن ما لمسه من أسرته من مشاعر الفقد ليجدها فى نفسه تجاه ولده المسافر بعد ذلك
ثم يتخلى عن الإخفاء تمامًا بعد أن حاصرته أحزانه، فيطلب من ابنه فى قصيدته “لا تقسَي على ولدى” أن يعلق صورته على الحائط (فاترك ملامحنا القديمةَ/ مثلما كانت معلقةً/ على صمت الجدارِ/ لعل وجهك حينما تتقابل العينانِ/ بالعينينِ/ يهدأُ/ ثم يشرق بالسنين الغائباتِ/ وينجلى فيه النهارْ) ويتشهى حب حفيدته (فلا تضن بأن تعلقنى/ لعل حفيدتى/ تهفو لوجهى/ كلما تلقاهُ/ أو تسعى لصوتى/ قبل أن تنساهُ/ أو ترنو إلى وطنى/ لتعرف كم أذوب به/ وأبنى مجدهُ/ ولكم حلمت بأن تراه) ثم ينفجر بعاطفة لا تبارى (فاترك لى مياهكَ/ علها تروى شقوق الصدرِ/ واكتب لى/ أنا ما زلت أنتظر الحروفَ/ كعاشق ترتج كل شغافهِ/ وأظل أقرأ ما تجود بهِ/ من أحرفٍ/ رغم اجتزاز حروف سطركْ) ويتوسل إلى بلده أو أيامه أو كليهما معًا (لا تقسي على ولدى/ فأنا ارتضيتُ/ بأن أعيش بمحبسى)
وينتقل الإخفاء من الشاعر لابنه فى قصيدة “الحنين إلى الوطن” الذى جاهد نفسه كى يخفى وجهه الحزين عن محبيه ودموعه عن مودعيه (كنت تعاند وجهكَ/ وتشيح به/ حتى لا تنظر لعيونٍ/ جاءت تمنحك من الوطن الغائبِ/ ما يجعلك تواصل رحلتك) (أغلقت عيونكَ/ حتى لا تسقط دمعاتٌ/ كنت تحاول/ أن تأخذها فى رحلتك الأخرى) لكنه يفشل (فانفجر الدمعُ/ تساقطَ/ بللَ/ بعض رمالٍ/ جاءتكَ/ لتصحبك وأنت تغادر)
وتمتلكه أحاسيس اليأس والعتاب فى قصيدته “أمسكت زمامى” فيقول بلسان بائس (ضعف الطالب والمطلوب/ لنتُ/ فما لنتَ معى/ وعقدت النية حين أراك/ أقاوم ضعفى حتى أجمعنى) لكن عاطفة الحب تغلب عتابه، لأن عتابه نوع من الحب (فأظل أحاول أن أغفو/ فأراك وقد فزت بكل الأحلام) ويمتد اليأس به إلى صورة مؤلمة تمتزج بذكرياته فى قصيدة “الاشتياق إلى من أحب” (أعرف أن الأيام ستقسو/ وسأجلس منزويًا/ فى ركن كنت تقاسمهُ/ بعضًا من أوقات اللهوِ/ فأبدى غضبًا/ ثم أحاول أن أصفحَ/ كيما تملأك البهجة) يمتد اليأس إلى حد الخوف من النسيان (سأجلس كل مساءٍ/ كى لا أنسى/ أنك لم تنس ملامح وجه أبيكَ/ وصوت أبيكَ/ ورائحة الخبزِ/ وأمكَ/ حين تمارس فرحتها) وقد يشتد العتاب فى قصيدة “هل أكلتك الغربة” (هل أكلتك الغربة/ هل كنت لها طعما/ عدت الآن بلا ذاكرة/ فامكث مسجونا فى فى غربتك/ فقد غبت/ وقد غابت كل ملامحك/ وغاب بها طعم الأشياء/ فقد أكلتك الغربة) ويقوده اليأس إلى الرجاء فى قصيدة “اذكرنى إذا ما غبت” بقوله (وحاول ألا تبقى مبتعدا/ فأنا ما زلت أحاول أن أحيا/ كيما ألمس نبتك/ هل سوف أراه/ أم أن قطارى سوف يمر سريعا) ويعود مرة ثانية إلى رغبته فى الإخفاء، فيطلب من ابنه أن يتحفظ فى البوح لأبنائه عن جدهم (لا تخبرهم إلا ببهيج الأشياءِ/ وإن حاول أحد منهم أن يسأل عنى/ لا تخبره عنى حين تركتك تبكى/ فلقد كنت أحاول/ أن ألجم رغباتك عنك/ فلا تلجمه) إننا أمام عاطفة الجد التى أحسن الشاعر تصويرها (عدنى ألا تحزنه/ واتركه يفخر/ حين يرانى فوق الحائط/ آه.. لن أملك أن أحمله/ أو أفعل/ ما كنت أحاول/ أن أفعله حين بدأت صغيرا) وهى العاطفة نفسها التى بثها فى قصائده “البكاء بين يدى الحفيدة” و”الاعتذار للحفيدة” و”بين يدى الحفيدة” فيرسل فى “البكاء” تنهيداته لحفيدته (كنت كلما أردت/ أن أراوغ الأوجاع/ أن أضمكِ/ وأملأ العيون/ من براءة/ رأيتها من شرفة الفؤاد تستحم بالضياء) ولم يفت الشاعر أن يمارس أمام حفيدته ولعه بالإخفاء (فكنت أنزوى ما بين بينى/ لو أردت أفرغ الأحزان/ فآه يا صغيرتى/ لو تعرفين/ لوعة انكسار القلب/ حين تهزم الرجال) ويبث فى “الاعتذار” شجونه بين يديها (أنا الذى ملكت كل ما ملكت/ غير أننى حين انتهيت/ كنت خالى الوفاض/ آه كم تعبت يا صغيرتى/ وهدنى الإعياء/ فالقلب لم يعد كما عهدته/ فكنت كلما سقطت عدت واقفا) وتستمر عاطفة الجد الحارة فى “بين يدى الحفيدة” (أتوه فى حديثها البسيط/ حين ترتمى/ فى لحظة انفراج الصدر)
ويقع أسير ذكرياته التى توحد فيها بابنه، فاختلطت شخصيتهما فى قصيدة “أولى خطواته” التى قدح فيها تفكيرنا باستخدام ضمير الغائب فى زمن غائب، مستحضرًا صورة أبيه بطريقة الاسترجاع (أمسك بتلابيب أبيه/ وتماسك كى لا يسقط/ ظل يقاوم رجفة كفيهِ/ ورغبته فى أن يبطئ) ثم يستحضر صورة ابنه (كان يتابع فرحة عين أبيه/ فظل يواصل رحلته/ وتذكره/ حين اصطحب صغيرًا/ ما زال يحاول أن يخطو) ويستمر فى استحضار صورة أبيه فى قصيدة “أعرف أنك ما عدت هنا” بعد أن عاش حالته الأبوية، لكنه لم يعش زمنه الجميل، فيسترسل فى هجاء حلمه المفقود (زمان ولى/ كنت أظنك حين تغيبُ/ سأرث الحلمَ/ سأفتح كل ممالككَ/ سأحتل عروشكَ/ وسأصبح مثلك آمر فأطاعُ/ وأفعل ما أفعل فأثابْ)
وهو صاحب قضية إنسانية سامية، يضع نفسه فى إطاره اللائق به، فيقول فى قصيدة “متى تورق كل شجيراتى” (كنت أحاول/ أن أترك فى ذاكرة الأيام/ ملامح وجهى/ حتى حين يراها/ من يعرفنى/ يذكرنى/ ويقول سلاما/ يا من كنت هنا/ ومضيت/ وتركت شجيراتك/ فاهدأ حيث تنام/ وحاول/ ألا تخرج من مرقدك/ فسوف تجىء إليك/ ثمار شجيراتك/ ما إن تثمر/ فاملأ سلاتك/ واتركها للفقراء/ وللبسطاء وللضعفاء/ ولأفراخ طيور تاهت/ وهى تحاول أن ترجع/ من رحلتها/ فتقر عيونك/ إذ تزدادُ/ ثمار شجيراتك)
وهو المحب لوطنه برغم كل ما تعرض له، فهو القائل فى قصيدة “من يومياتى فى مدينة أمريكية” (لم يكن لى حين أمضى/ سوى وطنى/ كنت أرسمه فوق وجهى/ وأحمله بين طيات شوقى إلى وجه أمى) وهو القائل فى قصيدة “العودة إلى حضن الوطن” (أنا لم أغير لكنتى/ أو أنسخ الألحان/ كنت كما نبت) (فما لنا/ من كل هذى الأرض/ غيرك/ يا سيد الأوطان)