دراسات ومقالات

عبدالله الحيمر يَكتُب : قراءة لرواية “ديزل” للكاتب والفنان المصري عبدالرازق عكاشة

قد يبدو هذا العنوان غريبا وقد استخلصته من قراءتي” لرواية ديزل” الكاتب والفنان المصري عبدالرازق عكاشة .. لرجل يملك خجل الفلاحين وكبرياء الرجال، في رحلته الباريسية. كنت امام عمل متكامل البنى سرديا ، يسلط الضوء على ازمة وجودية لمواطن اسير الهامش ومواطنة سرابية ، اختار هجرة طوعية، وكيف شكلها روائيا على المستوى الجمالي والتاريخي. وكيف كانت نظرته الذاتية على كتابة حكايات المهمّشين والمسحوقين بالغربة ومواقفهم وآرائهم في روايته. نتساءل من الاول هل كان عبوره جسر المعنى وصفا للذات ولذائقة الاجتماعية في نسقها التاريخي للمهاجر ؟ ام مغامرة انسانية نحو لا عودة، ولا هوية ؟
عندما تقرأ هذه الرواية، تجد نفسك موزعا بين ثلاثة فضاءات مختلفة، فضاء ما بعد الهجرة (مصر التي ينتمي فيها لأصوله الثقافية والتاريخية ) وفضاء الهجرة (الهجرة الى فرنسا بشكل دائم)، وفضاء ( ثالث )حيث الروائي عبدالرازق عكاشة يحاول أن يجمع بين الواقع الذي بات وراءه والواقع الذي يمثل مستقبله ولكنّهما الثلاثة متجاذبين متجادلين على طول الرواية.
اول ما اثارني بالرواية مفهوم الزمن وتأويله في جسد الاغتراب، عبر عنوان الرواية “ديزل” (اسم لساعة يد فرنسية مشهورة) ،كأني به يقول أنّ هنالك خللاً في الزمن العربي .وهذا يكاد يكون من أخطر الأسئِلة التي طُرِحت تأويليا بالرواية. اي ان عن الزمن العربي من زاوية الفنية و الفكريّة و السياسيّة، زمن ثابت والذي يتحرّك فيه هي القِشرة الكاذبة التي أوهمتنا بأنّه زمن متحرِّك . زمن يرفض الاخر ويؤمن التقوقع على الذات، حيث يشعر أن هويته وانتماءه مهددان بالنفي أو الاقتلاع.
ان بطل الرواية (محمد فودة ) فنان تشكيلي ، وذو عين مثقفة ، وعادةً ما نقول أنّ المُبدِع عموماً يعيش غربة عن العالم، عن الوجود الذي ينتمي إليه، وعندما يكون بعيداً عن وطنه أو عن لغته الأُمّ فبالتالي تكون الغُربة غُربتين في الوقت نفسه:
الفضاء الاول : يبدأ شعور الاغتراب بالرواية بين مسقط الرأس بطل الرواية (مدينة طنطا بمصر) ومكان الاغتراب فرنسا (باريس) . حيث تشكّلت تجربة ثقافتين. انتجت نصا سرديا في جسد الغربة القسرية / الطوعية. يمتزج فيها البعد الحضاري والثقافي في تفاصيل الحياة اليومية. بين الشعور بالاغتراب الذاتي، في البيئة الاولى لبطل الرواية (محمد فودة) حيث تشكل مغامرة وعيه الاولى ، حيث عاش تجربة فوضى تناقض اوهام الذات وطموحاتها وحقيقة واقع اجتماعي يحبط كل الجهود الابداعية. فصار في صراع مع الزمن لإيجاد صيغة اجتماعية قائمة على المُوازَنة بين الأضداد، والتَّوفيق بين التناقضات وإضاعة الوقت في معارك جانبية يتعرَّض فيها لمُفاجآت خطيرة تُهدِّد شرعيةَ وُجودَه ومشروعيةَ أحلامه. ومن اجل المحافظة على توازنه النفسي والروحي في هذا الواقع المحنط قرر الهجرة القسرية. وتجلت قدرته في هذه الرحلة على التعامل مع الضغوطات دُون تغيير مبادئه ، والتأقلم مع الظروف الجديدة دون تغيير جِلْده . كانت موهبته التشكيلية علامة فارقة في تشكيل ضميره المُسالِم والمنفتح والمتسامح ويسعى دائِماً إلى الحوار وقبول الاخر.

رواية "ديزل" للكاتب والفنان المصري عبدالرازق عكاشة
رواية “ديزل” للكاتب والفنان المصري عبدالرازق عكاشة

الغربة بالرواية غير محددة في نطاق الزمن وحيز المكان ، وتناولها لشخصية بطل الرواية البعيد عن ارض الاجداد جسدا ، الحاضرة في وجدانها، حيث تحجز الذاكرة مساحة واسعة جدا من السرد الروائي، أشار فيها إلى أن حضور الماضي في الرواية بشخصياته وأمكنته يكثف سيرورة احداثها. ولكنها مفتوحة على غربة القيم الروحية والمفاهيم الثقافية ، والتعارض بين العاطفة والعقل (حب محمد فودة الباريسي) ، والصراع بين القلب والذكريات(الحب الخالد للفرنسية اندريه لوسطو ) و صدام بين الاشواق الروحية والنزاعات المادية(وصايا الجد). وهذا التَّشَظِّي في داخل الكِيان الإنساني يصنع زمنًا يمكننا نسميه الاغتراب المضاعف. محاولا القبض على الزمن الضائع وتحويله الى نسق حضاري متكامل.
كما ان الرواية كشفت ان بطل الرواية (محمد فودة) في باريس يقاوم بلا هوادة رمزية العلاقات الاجتماعية بالغربة ، ويركز دائما على جوهرية الشرط الانساني في اساس العلاقات الاجتماعية /الثقافية. ويملك رؤية حقيقية وصوته الخاص المعجون بطين النيل دون اقنعة خادعة ، تنسيه شخصيته المصرية الاصيلة . ويضيع في ضجيج باريس القاسي ، وعدم قُدرته على المُقاوَمة بسبب خسارة صَوته الخاص. واذا تَكَرَّسَ هذا الاغترابُ شُعوريًّا وواقعيًّا بدواخله ، قَضَى على ورؤيته لنفسه وللأخر اجتماعيا وثقافيا.
ان اسقاط أفكار ابطاله بروايته الاخيرة دون التورط بتأويلات شخصية ، ولكن بخطاب توجهي واعي انتصارا لقضايا الإنسان المهمش وعوالمه وقضاياه.. بالتأكيد لدى الروائي هذه الرؤية الحميمة للعالم لا تخلو من مسحة روحانية أو روحية بالأصحّ وقد يخترقها في العديد من المواضع حسّ تراجيدي في الحياة (واقع الجالية المصرية والعربية بباريس)، حسّ مأساوي بمعنى ما(تراجيديا الروح عند محمد فودة)، ومحاورتها سرديا في زمن مدينة مليئة بالانتكاسات والخيبات الانسانية ، مدينة تتحدى الكائن المبدع وتحاول اسره بإيقاعها اللاهث وراء اغراءات ومتطلبات اليومي، فتصبح الغربة مضاعفة ؛فيعيش البطل ( محمد فودة ) طيلة الرواية هذه المفارقة بين الوجود والفعل، وبين اكراهات اليوم الحياتية واشكاليات الترفع بالأبداع لملاحظة هذا العالم الغرائبي لمدينة النور . يجعله في حال قلق وتوثر مستمر مع هذه المدينة التي اسماها عميد الأدب العربي “طه حسين” “عاصمة الجنّ والملائِكة”. كان دائما ينظر الى الحيز الداخلي فيه وما يحتويه من تساؤلات ومسارات حياتية وحضارية، كان يحاول أن يقول كل ما يعرِف ، او كل ما يفكِّر به، او كل ما يحلم به، كل ما يخطُر في باله. كانه بحق امام جده الاكبر المصري وامام وصاياه الحكيمة ، في تتبُّع الفِكرة كالطريدة التي تمُرّ بجانبه والتي يلتقطها حتى لا تفلُت كما كان يفعل بالصعيد المصري. لأنه يفهم الرواية على أنّها النظر إلى الذات من خلال الآخر .
ان تركيزه على التفاصيل اليومية المعاشة بالغربة ولأحياء باريس طيلة الرواية وعوالمها الهامشية بالأم واحلام المهاجرين . والاحداث والمشاكل ، ووقائع النزعات اليومية ، انما هو اقتناص حر لأخذ صورة كاملة لأنسان المغترب المصري(مشاكل الجالية المصرية) والعربي (الاندماج والاقامة) وللمكان الباريسي (احياء العرب بباريس ، احزمة الفقر بالعاصمة الفرنسية ) . فهذه العناصر تعتبر المساهمة الرئيسية في رسم المشهد الكلي سرديا .
انه اخذ بأيدنا ويشرح أمامنا العتمة المضيئة لواقع الهجرة والمهاجرين ،وفك شيفرة هذا الواقع المرير. لقد اضاء بسرده البسيط للعميق هذه الزوايا المعتمة، واشعرنا بإيقاع الحياة خضم هذه التناقضات الوجودية بين الحلم والانكسارات والخيبات على ارض الغربة. ان هذه الاضاءة اشعرتنا بإيقاع الحياة في شكل جيد. وبإيماننا بإنسانيتنا المشتركة وبجدوى تقاسم ما هو جميل في هذه الحياة . بعيدا عن تَشيئ الإنسان وتحويله الى انسان دون قيم وبلا مبادئ ولا اهداف ثقافية وحضارية. و مُستجيبا لمُتطلّبات السوق العمل وإلى ما يُريده ارباب هذا السوق، وبالتالي فَقَد الإنسان الكثير من إنسانيّته.

المؤلف عبد الرازق عكاشة
المؤلف عبد الرازق عكاشة

الروائي والفنان عبد الرازق عكاشة ، المخلص لهويته الفكرية والعقائدية والوجدانية والإبداعية لحضارة فرعونية استمرت لأزيد من 3000عام. والمنفتحة على كل ما هو انساني في الثقافات الانسانية الاخرى، كالانتصار لقيم العدل والمساوات والاخاء . يبحث في عمله من خلال روايته “ديزل” عن عالم انساني حقيقي لا تسحق فيه الكرامة الانسانة بالغربة ، ولا تنبذ فيه الهويات المتنوعة .ويحمل رؤية سردية للحب انساني تلاقحي بين ثقافتين متوسطتين تتخطى ما هو مألوف من شعارات ما دلجة ونمطية في معالجتها . ويقدم عبر بطله (محمد فودة) الحب الباريسي لمرأة فرنسية امتلكت مخيلته (اندري لوسطو ) بحب اسطوري .
يقول “أرنستو ساباتو”: ما مِن رواية حقيقيّة إنّ لم تكن في المُحصِّلة شعراً”، اي الفكرة التي ترتقي بالرواية إلى شعريّة الحدث في حدّ ذاته. لقد رسم الروائي عبدالرزاق عكاشة باريس بالوان الفرح الصوفي ،وبقلب يخفق بالدهشة الاستثنائية ، حب انساني يجمع أبناء كل المعمورة البشرية في شكل أخوة وتقارب وتحاور وتسامح وتخطي لحواجز صنعها الجهل بالآخر المختلف دينيًا وجنسيًا ولغويًا وثقافيًا.
لقد اضاف الروائي نصا سرديا رائعا عن باريس كما يراها تنضاف الى بقية نصوص للعديد من المثقفين العرب. مدينة الحبّ و التاريخ ، مدينة الفِكر، مدينة تحقيق الاحلام ، والتاريخ الباذخ. انها بنظره الى جانب هذه المميزات ،مدينة الهامش الجميل للأعراق واللغات والاجناس ، والتنوع والثراء ،والحرية ، وحرية الفكر والابداع. التي يحاول البطل الرواية (محمد فودة) دائِماً آخذ الأحسن والأطيب والأنبل والأسمى من ثقافتها. لان مصر بالنسبة له هي الكنز الحقيقي الذي يضيء عوالمنا الداخلية. لذا لم يكون لديه اي مشكل حقيقي في مواجهة الاخر واثبات الذات .لأنه يرى الاهداف والقيم النبيلة هي التي تحقق كينونتنا مجتمعيا.
فعلا إنها تجربة روائية بنكهة حدوتة مصرية، تتعانق شخوص وابطال رواية “ديزل” يطل من خلالها الوطن، والبحر، والاغتراب، وخيبات الأمل والحب وغيرها من مظاهر ملموسة تحيلنا على قدر منفرد، منفتح على أفق يكشف لنا من خلاله اشكاليات حدوثة غربة مصرية بباريس .
الكاتب – “عبدالرازق عكاشة” نموذج للروائي الذي نجحَ في تقديم رواية ليست فيها تأثيرات شعريّة وإنّما تتصف بسماتٍ سرديّة ودراميّة أصيلة مثل تعدّد الأصوات، بشكل موضوعي حتى تكون على مقربة من تمثيل الوجع الحقيقي للإنسان المغترب وصوت الشارع بالمهجر.
رواية “ديزل” قطعة فنية، رائعة ترسم و تفضح وتعلمنا ان الحُب قادر على تغييرنا، وعلى خلق منعطفات في حياتنا وفي مصائِرنا. وانه جبهة من الجبهات الأخيرة التي يُمكنها أن تُنقِذ الإنسانيّة من كل هذه الحروب الصغيرة والمُعتركات والضغائن و التشظيات والتصدعات . وكم تحتاج بلادنا وإنساننا العربي في المهجر إلى حُب الحقيقي بعيدا عن ثقافة الضغائن والاحقاد نحو الاخر الذي يتشارك معنا انسانينا.

*هذه القراءة ستترجم إلى الفرنسية لتكون مقدمة الترجمة الفرنسية لرواية ” ديزل” التي ترجمتها .

 

 

 

 

أوبرا مصر ، دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى