بائعة الجبن …. منال الأخرس
حملت إنتاجها واتجهت نحو السوق .كنت أراها فى نفس ذلك الموعد فى أيام متفرقة، لم يكن التفرق منها وإنما منى أنا فلم أكن منضبطة فى استيقاظى مبكراً . ولكن كانت المصادفة هى التى تحمل لقائى بها، فعادة عندما كنت أستيقظ فى الخامسة صباحاً لكى أستعد إلى الذهاب إلى درس الكيمياء فى تمام السادسة صباحاً قبل ذهابى للمدرسة وكان ذلك فى يومين فقط من كل أسبوع . كنت أرقب خطوات تلك السيدة وأتعجب لماذا إختارت هذا العمل بالذات ؟ ولماذا تذهب فى هذا الوقت الذى يحلو فيه النوم ؟ فعن نفسى لم ألجأ لهذا الموعد بإختيارى ؛فقد فرضه على المدرس وعلى كثيرات مثلى ولو كان الأمر بيدى لما قمت فى ذلك التوقيت الذى يهيج أعصابى . كانت السيدة تمشى بخطوات بها إصرار وحماس ،لاتعبأ بما تحمل .رغم أنى كنت أشعر أنها لا تحمل إلا أثقالا وأوزارا . لم أستغرق بتفكيرى بماذا تحمل وإنما لماذا تحمل ؟ ولماذا تخرج ؟ وما الذى يفرض عليها ذلك .أعتقد أنها هى الأخرى كانت تسأل نفسها ؛ما الذِى يجعل هؤلاء الصغار يتجهون فى هذا الوقت الباكر نحو المدينة ؟ فهم لازالوا صغار أبرياء من المسئولية وواجبات الحياة شديدة الصعوبة … علمت فيما بعد أنها بائعة جبن ولبن ولو لا الخوف على رزقها الذى تسعى لتظفر به لما خرجت من بيتها ، استعدت مقولة كانت ترددها جدتى ورددتها أمى مرات فكثيرا ما كنت أسمعها فى أماكن متفرقة .” من يأكل لقمة يلطم لطمة”، كنت أظن أن ارتباط الكلمات بهذه التركيبة ما هو إلا سجعا وموسيقى لتزيين الجملة ؛ولكن يبدو أن الأمر يتجاوز ذلك ،بل هو يتجاوز ذلك بالفعل. فلقمة العيش تزرع الجبن والخوف فى أعماق آكلها ،أو حتى الباحث عنها ولكن نحن الصغار نخاف بسبب لقمة العيش أيضاً ؟ يبدو أن الموضوع كبير فنحن نخاف أيضاً ولكن من الفشل ؛لذا كنا نلتزم بموعد الدرس وبساعات الاستذكار لكى لا نندم . وبينما أنا أسرد كل تلك المشاهد على صفحات أجندتى الزهرية تراكم حول قلمى أشياء كثيرة تبيع الجبن . وإحتشد فى ذهنى حشود من المشاهد ،كان أكثرها إستبداداً واحتلالاً لمخيلتى مشاهد المظاهرات المتدفقة فى الشوارع والميادين وسرادقات الجامعة ،شعارات شتى يعلق بها وجدانى ؛ ما ضاع حق وراءه مقاوم ؟ الإسلام هو الحل، بالروح بالدم نفديك يا إسلام ….إلخ وفى المقابل عمليات إجهاض فكرياً ومعنوياً. وإتهام متبادل بالتطرف والإنحراف والفساد .فما الذى حرك هؤلاء الطلبة ؟ وكيف إستمدوا كل هذا الحماس ، ومن أمدهم بهذه القوة ؟ ومن منحهم الشجاعة ؟؟ ولا أعلم لماذا شعرت بالخوف ؟ وأظنه الجبن ؛فلم أقوى على متابعة تفاصيل المشهد . وانتقلت لمشهد آخر يحمل وجوه لفتيات صغيرات فى الشوارع ليلاً ؛فى إنتظار من يمنحهن لفافة نقدية تعفيهن من الجوع ومشقة البحث عن عمل .فى سوق راكد بلا قيم ولا يوجد بضاعة رائجة به سوى سلعة واحدة هى الجبن ,ومن أجلها يباع كل شئ. جذبنى من خضم مشاهدى صوت متحدث بالتلفاز .كان كل حواره حول مخاطر شراء الجبن من البائعات ؛فبه أمراض وملوثات ولدواعى صحية يجب شراء الجبن المعلب . ومراعاة التأكد من إغلاق العبوة ،والبحث عن علامة الأيزو العالمية؛ خشية على الصحة العامة وضماناً للجودة …..إلخ فالجبن البيتى غير آمن .أما الجبن المصنع أكثر أماناً .حينها تيقنت أننا نعيش جبنا عالمياً مستورداً .وما علينا سوى الالتزام بمعايير السلامة ؛التى تفرضها علينا بائعة الجبن العظمى ،التي تصدره بكميات وأطنان غير قابلة للحصر أو الوصف لكل ما سواها من البشر..