دراسات ومقالات
الجميلي أحمد يكتب: مصطفي البحر بين صعلكة الشعر وتوازن الحياة
الجميلي أحمد يكتب: مصطفي البحر بين صعلكة الشعر وتوازن الحياة
عندما تكتب عن أحد أبناء جيلك، تأخذك الحيرة بين اثنتين، الأولى ماذا تقدم للقارئ في قراءتك، والأخرى إذا كان مَن ستكتب عنه شاعرًا بحجم مصطفى البحر وشاعريتِه!
عرفتُ مصطفى البحر في نهايات التسعينيات، كان أحد صعاليك الوسط الثقافي، إذ كان حضوره في الندوات له هيبته، وكأنه ابن عمدة القرية الظالم، يدخل مصطفى البحر إلى الندوة فينظر للحضور نظرة مراقِب الأنفار في عزبة الباشا، يظل الحضور مترقبًا، وبخاصة مَن ليس جريئًا به الحال على اعتياد البحر، فإذا صعد البحر إلى المنصة خطف قلوب الحاضرين وأبصارهم وعقولهم!
والكلام عن البحر في شخصيته كثير، ومواقفنا كثيرة، وخاصة إذا كان هو الذي يقفل مربّعنا بحضوره بيننا، سمير السروجي، ومحمد صالح عبد الحفيظ، رحمه الله، وأنا، رابعنا مصطفي البحر. والمتابع لتجربة مصطفى في كتاباته يجده يتميز بخشونة الجُمل الشعرية، ربما يتعجب البعض من مصطلع خشونة الجملة، لكنها لفظة تتملكني عندما أقرأ شيئًا لمصطفى البحر، وخشونة الجملة لديه مثلها مثل لفظة الأكلة “الحرشة”؛ فـ مصطفى لا يهضَم شعريًا لأي عابر سبيل يمر على قصيدته؛ فعمق القصيدة لديه أعمق بكثير من عابري سبل الشعر، يقول البحر:
“راكب حصان عشقان
وعنيا بتحلم بالبساتين
وجوّه الفرس هيجان
قلبه كان زي المجانين
بيعافر نفسه على الزوغان
والنبض دبيب
وكأن حبيب
حيلاقي حبيب
والجبل الواقف قدّامه
شاهد وحزين
راكب حصان عشقان
وعنيا بتحلم والبساتين”
لننظر إلى سطره الشعري الأول وهو يقول “راكب حصان عشقان”، فالمتأمل لكلمة “عشقان” التي استخدمها مصطفى البحر هي كلمة منحوتة من كلمة العشق، والنحت في معجم العامية لا يستطيعه غير شاعرٍ بحجم البحر.
يضرب مصطفى بطريقة العشق القديمة عرض الحائط في هذا المقطع الشعري، حيث كان العاشق يأتي لمحبوبته على حصانه الأبيض، ويهب لها الحدائق. وقليلٌ مِن الشعراء الذي يستخدم قلب الواقع ليأتيك بشيء مغاير يصنع فيه جمالاً جديدًا.
كَتب البحر وبرَع في الكتابة الساخرة، والكتابةُ الساخرة إمّا أن تأخذ صاحبها إلى إبداع يتشكل في سخريةٍ تصل المتلقي، فيقول الله.. وإمّا أن تسقِطه في بلاهة السخرية ويتناسي الإبداع، ولعل مصطفى البحر نجح في الكتابة الساخرة وطوّعها لمنزلة الإبداع… يقول:
“فقير صحيح لكن مجدع
واشِم ضهر إيدي أشبع
وانت الأمير ابن الأمير
لكن في ساحة الأدب أكتع!”
مصطفى البحر شاعر يقبَل الآخر، ويسعد عندما يجد موهبة شعرية جديدة، ولم يبخل على أحد بالنصيحة، يحمل الود لكل مبدع، وعندما يُذكَر اسم شاعرٍ جيد أمامه، له كلمة شهيرة يقولها “ده ولد شاعر بجد!”
مصطفى البحر شاعر عامية غارق في حب هذا اللون من الإبداع، مؤمن برسالته مِن وراء الكتابة.
يقول:
“اشتريني ولو بدمعه
حلي ضهري م العريش
د اللى علّم فيا إنك
عدّتيني ما شوفتنيش”
………….
يا سماحة قلبي موتي
سمّعي للصمت صوتي
ياما خبّيتي في سكوتي
إن عشقي ما ينتهي”.
والكتابة عند مصطفى البحر هَم يحمله فوق كتفيه، ويغلف قصائده بحبه للوطن في معشوقته، والمتأمل للمقطع السابق يجده يخاطب محبوبته التي تكمن في وجدانه والتي تتجاوز حدود حب الرجل للأنثي.. ولا شك أن الشاعر الحقيقي يستطيع صياغة مشاعره في قالبٍ مغلف.
يقول:
“البحر حصيره لأيّه واحد
غاوي اللعب
دجّال لابس توب الصعاليك
وامرتي بتاج ورق
جوّه كتاب الحواديت
دخلو العبيد بيت الخديوي
لبس الحرملك جدع.
واتحزمو المماليك.
شاور يهوذا بدلع
الكوديا دقت زار.
خرج العمل يجري
واندبح شهريار
يا شهرذاد سامحيني
ياما لسّه بنات كتير
حيزاحمو قلبي فيك
حيوشوشوني ويكرهوكي
ويشقّوا قلبي ويسرقوكي
يا شهرذاد…
انا اللي فيك اندبحت
وانت اللي بيا يحجبوكي”.
يؤكد البحر في قصيدته السابقة، في قوله “دجّال لابس توب الصعاليك” أن الحديث عن صعلكة البحر في الحياة نوعٌ من ارتدائه ثوب الإبداع في جيله الذي نشأ فيه.
ولقد تفرّد البحر في كتاباته لِما يسمّى بشعر النصيحة .. يقول:
“ارمي حمولك ع الخلاق
والصلاه ع الحبيب
ترياق
ربّك قادر عالِم سامع
خلق الدوا من جوّه الداء”
وكما بدأتُ كلامي بالحديث عن شاعر بحجم مصطفى البحر، فلن ينتهي بما أكتبه أنا من إطلالات علي شعراء العامية، وأؤكد أنها مجرد إطلالات علي مشروعات، وليست دراسات وافية …
دام إبداع البحر