دراسات ومقالات

الجميلي أحمد يكتب: شياطين عفاف ترك بين الشعر ونظرية الإبداع

 

الجميلي أحمد يكتب: شياطين عفاف ترك بين الشعر ونظرية الإبداع

قد يختلف النقاد في تناولهم لنص إبداعي، باختلاف النظريات النقدية المتعامل بها مع النص، وتجد هذا واضحًا في تناول بعض النقاد للموروث العربي من الشعر، وقد يختلف الباحث في قراءته للموروث العربي عن قراءته لشاعر معاصر باختلاف الأدوات النقدية التي يستخدمها وباختلاف تطور الشعر المعاصر وخروجه من عباءة القصيدة التقليدية، فما بالنا ونحن نتناول كتابات شاعرة تكتب شعر العامية المصرية؟
فإذا كان تناول النقاد للشعر العربي الذي فيه ثوابت في الحكم عليه قد يختلف النقاد فيها، فمِن الأحرى أن نختلف حول مشروع شعري يُكتب باللهجة المصرية، ولعل شاعرتنا التي أتناولها في إطلالتي هذه تطوف حولها نظريات الاختلاف في النقد، فالبداية، وكما تعودت معكم، أن أدخل إلى أي إطلالة بالتعريف بصلتي بالشاعر أو الشاعرة التي أكتب عنها، وبخاصة أنني قصَرت كتاباتي في هذا الوقت على شعراء العامية المصرية فقط.
شاعرتنا اليوم هي شاعرة تعرفت عليها في بدايات الألفية الثالثة، كانت وقتها طالبة في كلية الحقوق، والحقيقة أنني لم أقترب من مشروعها الشعري في وقتها بالقدر الكافي، إلا أنني تعرفت على كاتبة تكتب الشعر في بداية مشروعها، ولعلكم جميعًا تعلمون أن البدايات لا حكم عليها إلا لنعرف مدي تطور الشاعر أو الشاعرة في خطواته ومشروعه الشعري.
ومرت الأيام بسرعتها المعتادة التي تمر بها، وسرَقنا الوقت، وكنا نلتقي على فترات بعيدة، لكني كنت ألاحظ تطورًا في مشروعها الشعري، تطورًا واضحًا وجليًا، والحقيقة أنني كنت غير مهتم بمشروعها اهتمامي بغيرها، لأنني كنت مؤمنًا وقتها أنها ستكون مثل مَن سبقها في الدخول للوسط الثقافي عن طريق البوابة التي دخلت منها “عفاف ترك” هذه التي أكتب عنها إطلالتي هذه، والبوابة التي أقصدها هنا هي بوابة الدخول إلى الوسط الثقافي التي كانت في هذا الوقت، والتي دخل منها كثير من الأدباء والأديبات، وهي بوابة الشاعر والناقد المعروف الدكتور يسري العزب.
وللأسف الشديد، كانت بوابة الدكتور يسري العزب بوابة عريضة للدخول منها للوسط الثقافي، لكن مَن يدخلها ودون أن يشعر يدخلها وهو ممسوخ علي هيئة صورة مصغرة من الدكتور يسري العزب الشاعر ، لكن عفاف ترك ورغم دخولها من هذه البوابة استطاعت أن تكون لها شخصية مستقلة في مشروعها الشعري، لم تتأثر بشخصية الراحل دكتور يسري العزب في كتاباته لشعر العامية المصرية، واستطاعت عفاف ترك أن تلبس قصيدتها ثوبها الخاص بها، وهذا أول إنجاز فعلته عفاف ترك، الصديقة المبدعة، ولعلّي بعد مرور سنوات منذ بداية دخول عفاف ترك، للوسط الثقافي أستطيع أن أتناول مشروعها الشعري بكل أريحية، بعد أن أثبتت شاعريتها بجهد ووعي بقصيدة شعر العامية المصري، ويمكنني القول مبدئيًا إنه
ربما صاحبَ كلاً منا شيطانٌ للشعر، لكن عفاف ترك عقدت صفقة مع ملكهم
فسخّرهم لها تباعًا، واحدًا تلو الآخر،
تقول عفاف ترك
“وانت راجع..
هات معاك تمن الغياب ..
حضّر اللي ما قلتهوش فـ سنين طويلة
افرد الشال اللي دفّي كتاف حنيني ..واتنخل
هات دونيس غير افتراض سيناريو واحد
اتقلب علي كل شوق
ارمي طوق للبااااش بعيد.
وارتجل اقصر مسافة تلملم التواريخ في جيبك ..
إستلفهم يوم ما ساب ايدنا الطريق..
ورجعت مَشيْ في ليل وداعك ..
بـ ألضّم الاحزان في كُمّي ..
إستلفهم لو باعوك من غير ما تدري..
واشتروا بالباقي منّك اي حاجة باقية فيك
..استلفهم واستلف عمرين عليك”
لو نظرنا إلى هذا المقطع من قصيدتها، وهو المدخل الاستهلالي، سنجدنا أمام شاعرة تمتلك أدواتها الشعرية كاملة، ليس أدواتها الشعرية فقط بل لديها من الشاعرية ما يجعلها شاعرة حتى في عتابها للمحبوب الذي غاب عنها
فتقول له:
“وأنت راجع هات معاك
تمن الغياب”
وكم يكون جميلا أن يحمل الشاعر خبرات حياته بجانب شاعريته،
وفي القصيدة نفسها تقول عفاف ترك مخاطبة محبوبها:
“وانت راجع..
سَكّر المر اللي مرمر فيّ روحي ..
سمّي وانحر فيك جروحي ..
واغزل المعني المرادف لاشتياقي ..
ململ الخوف اللي ململ كبريائي ..
اقطف الوردة الوحيدة في بور كيانك ..
قيم صلاتك قبل ما ترفع اذانك ..
فرق توقيتك اعانك ..شقّ فيك غربة ورجوع ..
بسملك وِردين خشوع .. فرّقك نذر وشموع..
اصبحت عايش مش عشانك”
ربما نقف أحيانًا أمام مشروع شعري لشاعر لأنه استطاع أن يستخدم فيه كل ما يمتلك من أداواته الشعرية، لكن الوقوف أمام مشروع الصديقة عفاف ترك يجعلنا نقف أمامه لأنه مشروع مكتمل الشاعرية والتجربة والخبرة في صنع الصورة الشعرية المغايرة.
فصنع الصورة الشعرية أحيانًا يجعلنا نقف عليها ونهتف بداخلنا الله، كما فعلت عفاف ترك في بداية هذا المقطع والذي تقول فيه:
“وانت راجع
سكر المر
اللي مرر في روحي
سمي وانحر فيك جروحي”
تستطيع عفاف ترك أن تصنع لك ما يدهشك، رغم استخدامها لكلمات معتادة، لكنها تستطيع أن ترسم بها صورًا جديدة.
لننظر معًا إلى مستهل قصيدتها التي تقول فيه
“أول ما قلنا ياليل ..
سَل الغُنا سكاكين
فازاي يطيب الجرح..
لو ضفّروك موال؟
جاوب سؤال بسؤال.
شرطاً تغمّي عينيك
خلّي اتفاق معقود..
بين نبرتك وبكاك
اللي اتقلع م الطين..
يفرق في ايه ينساك؟
شخبط ملامح الهَم..
واعتبره مش مفهوم
وقل لي تزعل ليه..
لو كتف مال نوبتين ؟
اللي في جراب الآه.. لو بعتروه فـ روحك
او شقّوا ريق الصبر ..
وعلقموا بوحك
اشنق سُكاتك فيك .. تتغيّر الاقوال
قل لي، فهمت ازاااي نبرة ايقاع الزيف؟
يا تقِر بالتحريف.. يا تبقي مستنبيك..
واخد في باطك ليه…
كل اللي اثّر فيك؟
والّاك خلاص نحّست .. بطّلت تستفتيك؟”
تتكىء عفاف ترك في معظم كتاباتها علي صنع صور مغايرة تأخذك لدهشة غير معتادة، رغم كثرة كتابتها، وهذا جانب آخر تأخذنا الشاعرة للحديث عنه في شاعريتها، فهي لديها بحر من الكتابة لا يجف، وتكاد تكون تكتب في كل يوم، وأنا شخصيًا ضد كثرة الكتابة، لأنها تفقد في بعض الوقت مصداقية الشاعر، وتجعل صنع الصورة الشعرية مهزوزة ومشوهة ومتشابهة، لكن شاعرتنا تستطيع رغم قصائدها المتلاحقة أن تكتب، وكأن المسافة بين قصيدة وأخرى كيلو مترات، وكأنه البعد الزمني بينهما بعد عصور تعاقبت علي عصور أخرى.
تقول:
“ماكانتش مشكلة القميص ..
انه رد الشوف ..
وماكانش باقي الصبر خوف ..
ولا انفتق صُبحك وعرّي المولوية..
وزّعت قمصانك علي..
انثي وحيدة بتلهمك..
فـ اتشكلت من نفخ صلصالك حروف..
واحنا يادوب آخر بصيص بيشِع ضي..
احنا تطويحة مددنا والله حي..
احنا الفراغ اللي اتحبس
في الصدر قبل ما ننجلِي..
لو كان قميص بيرد شوف..
فـ انا ذات رؤاك..
انا اللي ابهمت الرموز ..
و اللي حاجبة طلسمك..
ومفسّراك..
فبلاش تجاذف
باللي فاضل منّي فيك..”
لو نظرنا إلى نهاية هذا المقطع الشعري لعفاف ترك، سنجد أنه صورة شعرية بعمق شاعريتها، والتي تقول فيها:
“فبلاش تجاذف
باللي فاضل مني فيك”
تخاطب محبوبها بعدم المجازفة بالذي يتبقى منها بداخله، ولعلها كما أشرت سابقًا تسارع مع الزمن في صنع قصائدها وتخرج منها بهذا الجمال، فما بالكم لو أنها أعطت لقصيدتها مساحة زمنية كي تختمر فيها، وتأخذ التجربة مساحتها الكافية كي تخرج بها علينا؟!
أظن أنها كانت ستخرج علينا بقصيدة أكثر جمالا مما هي عليه الآن من جمال.
عفاف ترك، كما أشرت لحضراتكم في مستهل إطلالتي هذه، تخرجت في كلية الحقوق، بمعنى أنها ليست كغيرها ممن تخرجن في كليات متخصصة في الأدب، مثل كلية دار العلوم، أو كلية الآداب، أو التربية قسم اللغة العربية، ومعنى إشارتي هذه أنها اقتربت ودخلت عالم الشعر من موهبتها، لا عن دراسة، ورغم هذا أبدعت في كتابتها للشعر.
والحق أن موهبة عفاف ترك هي موهبة كبيرة تستحق عليها التحية، لكن لي تحفظًا علي بعض كتاباتها، رغم كل هذه الموهبة التي أشيد بها، وهي كتابتها لقصيدة المناسبة أحيانًا، أو الهجاء أحيانًا أخرى، وقد أشرت لها بهذا، وقلت لها إن تلك الكتابات ستضعف من شاعريتك لدي جمهورك ولدي مَن يقرأ لك، ولا يجب على الشاعر أن يمضي وراء تلك المهاترات التي تأخذ منه ولا تعطيه.
لنخرج من هذا إلى جمال شاعرية عفاف ترك في هذا المقطع الذي تقول فيه:
“طب بخاطرك..
ترضي عنّي ولا تغضب
قلبي مش آمن مخاطرك
انت كل بيوت قصايدي
اما انا حرفين في شطرك
المشاعر ..فرّة مني
وبتحايلني ازاي اشاطرك
قلب ما بيخلاش مواجع
والوداع رايح وراجع
وكنت انا ..ساعتين في قطرك.
مش هيفضل حد تاني
هـ ألغي حبّة شوق اناني
مش،هيفضل الا عطرك
هاحضنه وقت اشتياقي
وامنعه يعذر ..غبائي
كله الا… كبريائي
قلبي كان وطنك بلادك
م الساعة دي هـ يبقي قبرك”.
في هذا المقطع الشعري بدأت عفاف ترك بالعادي والمعتاد، فقالت
“طب بخاطرك”.. جملة قصيرة معتادة على ألسنة عامة الناس، لكن عفاف ترك استطاعت توظيفها في سياق درامي شعري في قصيدة ليست طويلة، وهذا بخلاف ما تكتب به قصائدها حين تسهب وتطيل.
في القصيدة السابقة تخاطب الشاعرة حبيبها بمنطق الحبيبة لا الشاعرة، لكن الشخصية الشاعرة لدي ترك تخرج منها لتزين القصيدة بشاعرية حين تقول:
“انت كل بيوت قصايدي
أما أنا حرفين في شطرك”
لكنها في جملة :حرفين في شطرك”، لم توفق، فلو أنها قالت “أما أنا حرفين في شطك”، لكانت أكثر شاعرية من شطرك التي كانت متوقعة بعد جملة “انت كل بيوت قصايدي”
فالمعتاد أحيانًا يفسد جمال القصيدة ووقْعها على المتلقي.
أما في المقطع التالي والذي تقول فيه:
“تصدّقوا بالله …
أنا بـ ألمس صورته
بـ نِن عينيّ عشان
(أرقيه)
ألاقيني بأغمّض واتّاوب.”
هنا تظهر الأنثي التي بداخل عفاف ترك، وتغلف بعفاف ترك الشاعرة، تظهر الشاعرة التي بداخلها حين تقول “تصدقوا بالله انا بالمس صورته بنن عيني عشان أرقيه”، وتظر الأنثى التي بداخلها أكثر حين تقول: “ألاقيني أغمض واتاوب”
مثلها مثل كل الإناث اللواتي يؤمنّ بالسحر في قصص حبهن.
الخلاصة أن عفاف ترك شاعرة، وشيطان شعرها حاضر معها أينما حلت، تستطيع الكتابة في كل وقت، وقد يختلف معها مَن يختلف، لكن في المجمل عفاف ترك شاعرة تستحق الإشادة والالتفات إلى مشروعها الشعري الذي قل ما تجده عن غيرها من مثيلاتها اللواتي بدأن معها، فمنهن مَن استطاعت الإبحار ، ومنهن مَن خرجت مَن الوسط كما دخلته، لأنها لم تجد مكانًا لها في ظل كتابتها المتشابهة مع كثيرات من المبدعات، لكن عفاف ترك دخلت إلى الوسط الثقافي بمشروع شعري له ملامحه الخاصة بها، وبتفرد في كتابتها لم يسبقها إليه أحد.. فتحية ودِ وتقدير لعفاف ترك ولمشروعها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى