دراسات ومقالات

زكريا صُبح يَكتُب : قراءة في رواية “الهروب من جزيرة أوستيكا” للكاتب الروائي صالح السنوسي

عندما يكون الكاتب مهمومًا بوطنه وبني وطنه، يشغله تاريخه المؤلم، وهل بعد الاستعمار من ألم؟
وهل بعد القهر المذل من وجع؟
عندما يكون الكاتب مشغولًا بتوثيق فضائح الغرب وفضح ادعاءاته التي طالما صدعنا بها هذا الغرب، فكم من مرة رفعوا رايات الحرية، بينما هم يمارسون القهر في أبشع صوره!
وكم من لافتات أشاعوا إيمانهم بها مثل الديمقراطية وحق الشعوب في تقرير مصيرها، بينما هم مغروسون حتى آذانهم في طين بلاد غيرهم!
وكم تشدقوا بالمساواة والإخاء وكم ذموا العنصرية والطبقية، بينما هم أشد الكائنات ممارسة لها؟
عندما يكون الكاتب يحمل مصباح التنوير الحق فإنه يسلطه بكامل طاقته ليكشف لنا زيف كل هذه الادعاءات وكذب كل هذه المواقف، هذا ما فعله دكتور صالح السنوسي في روايته البديعة (الهروب من جزيرة أوستيكا)، والكاتب ليس مبدعًا عاديًّا يتصدى لقضية وطنية يدافع فيها عما لحق ببني وطنه من مهانة وقهر وعنصرية وتخريب وتمزيق لأوصال أمته؛ لأنه ليس كاتبًا يكتب من صُنْع خياله، بل من وقائع تاريخية حقيقية أعمل فيها خياله كي يصور لنا مأساة إنسانية تزلزل القلوب اليقظة والضمائر النقية، أما القلوب التي عليها أقفالها والضمائر التي ماتت فلن تلتفت لهذا الإبداع وتلك القضية، فيكفي كاتبنا أن يكون حاصلًا على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية وعلى ماجستير العلاقات الدولية، أقول يكفيه أن يكون مختصًّا في هذه العلوم التي تحكم العلاقات بين الدول حتى إذا تصدى لقضية يعالج فيها الاحتلال الإيطالي لبلاده كان أهلًا لذلك.
هنا نشعر بكثير من الثقة في جل المعلومات الواردة في الرواية خاصةً المعلومات التاريخية، لما شمر عن ساعد الجد كي يدافع عن وطنه شرع قلمه في وجه العالم مصورًا أحداثًا في معظمها حقيقية يغلفها كثير من الخيال، رسم بقلمه بعد أن جمد اللحظة الزمنية التي اختارها وهي ست سنوات تبدأ من ١٩٢٥ إلى ١٩٣١؛ كي يصور فيها أحداث روايته المهمة، ست سنوات وست شخصيات كانت السلطات الإيطالية الفاشية قد اعتقلتهم وحكمت عليهم بأعوام كثيرة سجنًا ونفيًا إلى جزيرة أوستيكا أو الأرض المحروقة، رسم لنا الواقعة منذ لحظة القبض عليهم وتلفيق الاتهامات ثم الحُكْم عليهم بالنفي إلى الأرض المحروقة، وهناك يصور لنا بشاعة المحتل الذي اختلت في رأسه كل القيم والمبادئ والمعايير، فراح يعذب ويقهر ويذل الرجال؛ فقط لأنهم طالبوا بجلاء المحتل عن أراضيهم.
لكن للأقدار شأن آخر ورسالة أخرى، فقد جعلت المنفى لبطل روايتنا واحة للحب والعشق عندما انغمس في حب فتاة إيطالية، ولأن الفتاة لها قلب نابض وضمير يقظ أحبت بطلها؛ لأنه كان بطلًا عظيمًا في الدفاع عن بلاده.
برع الكاتب عبر راويه العليم في تصوير لحظات الحب الساخنة بين لورينزا الإيطالية وسالم البراني، كما نجح الراوي في نقل كل الحوارات الإنسانية بين المنفيين العرب والمعارضين الإيطاليين.

رواية "الهروب من جزيرة أوستيكا" للكاتب الروائي صالح السنوسي
رواية “الهروب من جزيرة أوستيكا” للكاتب الروائي صالح السنوسي

رحلة من المعاناة جمعت بين الحبيبين، حتى استقر الرأي على الهرب من هذا الجحيم خاصةً بعد أن علمت لورينزا أنها حامل، وبعد أن اشتعل وهج الحرية في روح سالم رغبةً منه في تربية ولده في أجواء الحرية ورغبة أكبر في العودة إلى بلاده، عبر لغة عذبة رقراقة تقترب في كثير من مقاطعها من القصائد الشعرية النثرية، أقول عبر هذه اللغة أدار الكاتب الحوارات التي كان لها طابع إنساني ثقافي حضاري فلسفي.
وعبر تقنيات روائية متنوعة بين الفلاش باك والاستباق وسرد الأحلام، رسم لنا شخصيات الرواية وأحداثها ومجرياتها.
حاول أن ينتصر للحرية والانعتاق، فراوغنا وقبض أنفاسنا حتى السطور الأخيرة آملين من الله أن تتم عملية العبور إلى سويسرا حيث الحرية والإخاء والمساواة، لكن رصاصات الغدر أصابت الحبيبين بعدما كانا على بُعْد أمتار قليلة من العبور إلى ضفة الحرية، قتلوه بدم بارد لأنه رفض الاستعمار وقاومه وحلم بالحرية ومضى نحوها، قتلوه وأصابوا زوجته الحامل بجنين الحرية، قتلوه بعد رحلة مضنية خرج فيها هاربًا من سجن أوستيكا الرهيب الذي لا يرحم مَن يُلقَى به، قتلوه بعدما حاولت لكل القوى الداعمة للحرية أن تنقذه وتفتديه وتُعبِّد له طريق الخلاص، قتلوه بعدما آمنت كارلا بحب ابنتها الإيطالية من العربي الشجاع الذي آمن بوطنه، كأنها قالت في نفسها: مَن أحب وطنه كل هذا الحب فحري به أن يحب ابنتها، ومَن افتدى بلاده بروحه حقيق به رعاية ابنتها، قتلوه بعدما تضافرت جهود أصدقائه في المنفى على دعمه والتمويه لهروبه، قتلوه بعدما آمن بحريته المعارضون للاحتلال من الإيطاليين أنفسهم.
رحلة من المعاناة والمشقة من أجل نيل الحرية، صحيح إنها لم تكلل بالنجاح، لكن الصحيح أيضًا إنها محاولة مشرفة اختبرت صدق مَن يدعون إلى الحرية وكذب مَن يدعيها.
رواية مبهجة من حيث أدائها اللغوي الرصين الذي اعتمد فيها الكاتب الفصحى لغةً رسميةً، ولم يلجأ للهجة الليبية العامية إلا فيما ندر، الكاتب كان حريصًا على نقل الثقافة الليبية وتاريخ المقاومة المُشرِّف فيها، كما كان حريصًا على إماطة اللثام عن فلسفة الإنسان العربي في التعاون والتعايش المشترك مع الآخر، الآخر الذي صوره الكاتب في وضوح تام وضبطه متلبسًا بالادعاء قولًا، وبالقتل والتشريد والاحتلال وابتزاز الشعوب ونفيهم من أراضيهم فعلًا.

 

 

 

أوبرا مصر ، دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى