محمد سعيد شحاتة يكتب سيرة الأنثى بين البوح والاستلاب
في ديوان (لا ريح للناي) للشاعرة الإماراتية بشرى عبد الله
عتبة الولوج:
تشير الدراسات المتعددة إلى أن للعنوان أثرا بالغا في فهم البعد الدلالي للنص؛ فهو المدخل الحقيقي إلى عالم النص، وهو الذي يحمل الشفرات الدالة التي يلتقطها المتلقي، ومن خلالها يستطيع أن يشكِّل رؤية للدخول إلى عالم النص، وهو عتبة الولوج الأولى إلى النص، وقد يثير في المتلقي هاجس التوغل في العمل الإبداعي صعودًا وهبوطًا، مستكشفًا تضاريسه المختلفة، وقد يبدو العنوان شكليًّا في تمظهره ولكنه يكشف عند التأمُّل عن كنه العمل الإبداعي وتضاريسه المختلفة، وانطلاقًا من هذا المنظور نتوقف أمام عنوان الديوان كأحد العلامات الدالة على الفهم.
يتألف العنوان من حيث البنية النحوية من جملة اسمية منفية باستخدام (لا) النافية للجنس، وهي التي عرَّفها النحاة بأنها التي يُقْصَدُ بها التنصيص على استغراق النفي للجنس كله، وهذا يقودنا إلى البنية المضمونية للعنوان، إذ يشتمل على عنصرين (ريح) و (الناي)، ونفي الريح عن الناي يدفعنا إلى البحث عبر الديوان عن الدلالات الفكرية لهذين العنصرين، فنجد الشاعرة – منذ الصفحات الأولى – تهدينا إلى الطريق؛ إذ تقتبس مقولة بابلو نيرودا (الريح حصان، أنصتي إليه كيف يجري خببًا خلال البحر، وخلال السماء) ومن ثم فإن الريح هنا هي الحصان، وهو – بالتأكيد – ليس الحصان بالمفهوم الوظيفي للفظ، ولكنه أداة الانتقال صعودا وهبوطا (خلال البحر، وخلال السماء) ويقترب ذلك من المعنى الذي يدل عليه بيت المتنبي المقتبس أيضا في بداية الديوان:
على قلقٍ كأن الريح تحتي أوجِّهها جنوبا أو شمالا
بيد أن بيت المتنبي أضاف فكرة القلق التي تصاحب دائما الإبداع، وهو القلق بالمفهوم الإيجابي. أما الناي فإن الشاعرة في قصيدة (لغة الناي) تتوحَّد معه، إذ تقول:
أيا لغة الناي
يخطفني غبشُ الضوء
ينبتُ أجنحةَ الشعر فيَّ
يسافرُ بي نحو ما كنتُهُ في الأزلْ
غصنُ بانٍ
ليثقبني الحزنُ
“نايــًا”
لأغدو ظلي
وأغدو نايـًا يبثُّ الشجنْ
إن الذات الشاعرة تتوحد مع الناي (لأغدو ظلي وأغدو نايًا) ومن ثم يأتي حديثها عن لغة الناي/لغتها منطقيًّا؛ إذ إنها تتحدث عن نفسها:
أيا لغة الناي
هل كان ظلك أبيض حين أتيتِ إليَّ بمعناي؟
هل كان عزف اخضراركِ ثقبــًا
يطل على ربوة الروح
هل نبت الظلُّ فينا معـًا
وكيف اتحدنا بذات الثقوب
بذات الرئة؟
كيف صار حداؤكِ صوتي
صوتي حداءكِ
كيف انتهينا إلى نقطة البدء
كيف ارتبكنا معًا؟
إن لغة الناي هنا كاشفة عن مكنون الذات (يطل على ربوة الروح) وإذا كانت الشاعرة هي الناي فإن لغة الناي هي صوت الذات، وشجن الناي إنما هو شجن الذات (كيف صار حداؤكِ صوتي/ صوتي حداءكِ/ كيف انتهينا إلى نقطة البدء/ كيف ارتبكنا معــًا؟) على أن الصرخة المدوية للذات الأنثوية تتجلى في قصيدة (على نصل الخناجر) إذ تقول:
اسمعْ لبوحٍ ناتئٍ بسريرتي
إني أرى في الحلم سبعـًا من شداد السنبلات الراجفات
وخلفها في بيدر اللعنات أسرابٌ من الأفواه
تكتمها الحناجر
وصمود سنبلة على نصل الخناجر
وأرى بأن الطير تأكل من رؤوس الأقحوان
وتموت سنبلة لتحيا ألف سنبلة على عزف الهوان
يرتدُّ صوتكَ في مداي يباغتُ الحلم المدان
ويجيء صوتكَ من سحيق الجرح
من جبِّ الغيابة
من ضلالات الكلام
أضغاثُ أحلامٍ
وبعضُ الحلم أصغر من خطايانا
وأكبر شاهد للعجز تعكسه مرايانا
من الواضح أن المقطع السابق يتضمن ثنائية طرفها الأول الذات الشاعرة الحالمة التي هي سنبلة تصمد على نصل الخناجر، وهي التي تتولى التعبير عن غيرها من آلاف السنبلات الراجفات، أما الطرف الثاني في الثنائية فهو صاحب الصوت الآتي من سحيق الجرح، من جب الغيابة، ومن ضلالات الكلام؛ ليصادر حلم الطرف الأول/الذات الشاعرة من خلال الحكم القاطع (أضغاث أحلام) الذي يحيلنا مباشرة إلى قصة النبي يوسف – عليه السلام – ورؤيا فرعون، وتفسير الكهنة لها أنها أضغاث أحلام، ليكتشف فرعون أنها تحمل نبوءة المستقبل، وأن الاستماع لها ينقذ المستقبل من شر مستطير وضياع محقَّق، وهنا تتوحد الصورتان. ومن اللافت في العنوان مجيئ لفظ (ريح) نكرة للدلالة على العموم والشمول في نطاق جنسه، وهو ما يتوافق مع استخدام (لا) النافية للجنس، لينفي بذلك أي ريح للناي الذي تعزف به الذات الأنثوية، أما لفظ (الناي) فقد جاء معرَّفـًا، وهو ما يتوافق مع حديث الشاعرة السابق الذي جعلها والناي وجهين لعملة واحدة.
إن الدلالة المضمونية للعنوان تتحرك في إطار سلبي؛ إذ تعني ضمن دلالاتها المتعددة مصادرة صوت الناي/الذات الأنثوية من خلال الاستلاب حينا (أيا لغة الناي هل كان ظلك أبيض حين أتيتِ إليَّ بمعناي؟ / هل كان عزف اخضرارك ثقبا/كيف انتهينا إلى نقطة البدء/كيف ارتبكنا معـًا) أو من خلال التعجيز حينا آخر (أضغاث أحلام) وسوف نتوقف أمام قصيدة (باب الروح) في محاولة لرصد حركة المعنى لدى الشاعرة وارتباط ذلك بعنوان الديوان الذي تتسرب دلالاته عبر القصائد. وسوف تحاول هذه الدراسة – إلى أبعد مدى – التدثّر بروح العلم وما يمليه ذلك من حيْدةٍ، فلا تنزع إلى الاحتفاء الذي يُفْقِدُ الإبداع رونقه، كما يفقد المتلقي لذة الاكتشاف، وكذلك لا تنزع إلى التقييم الذي يفرض على النص ما ليس فيه، ولم يرد على ذهن المبدع. وتحاول هذه الدراسة – قدر طاقتها – تبني النزعة الوصفية التحليلية للظواهر النابعة من النص، وليست المفروضة عليه، وهي إذ تفعل ذلك تؤمن أنها مجرد قراءة قد تتفق أو تختلف مع قراءة أخرى؛ إذ إن التعدد التفسيري للنص يثريه، “ويكشف عن آفاقه في سياق الثقافة المتغير، ويفضي هذا التعدد إلى أن النص لا يتضمن بالضرورة معنى نهائيًّا يأخذ شكل بُعْدٍ واحد ومطلق؛ إذ إن النص لا وجود له بمعزل عن المركبات الذاتية للقراءة”. (د. عاطف جودة نصر، النص ومشكلات التفسير، ص 96)
حركة المعنى وتفكيك شفرة العنوان:
تمثل قصيدة (باب الروح) نقطة ارتكاز في الديوان؛ فهي تختزل رؤية الديوان بأكمله في تموجاته الفكرية المختلفة صعودًا وهبوطًا، وينبئ العنوان (باب الروح) عن المدخل لرؤية الروح من الداخل، والتجوُّل عبر حجراتها المتعددة، وردهاتها المختلفة؛ إذ يتألف العنوان من حيث البنية النحوية من جملة اسمية حُذِف المبتدأ فيها، والتركيب النحوي (هذا باب الروح) وهو جملة خبرية لفظًا ومعنىً، وهو ما يقودنا إلى البنية المضمونية للقصيدة، فهي تمثل بابًا للروح، أي المدخل الحقيقي للروح، ومن ثم كان الخبر غالبًا على القصيدة؛ ليتناسب ذلك مع العنوان الذي قدَّم نفسه في صورة خبرية؛ لتحمل القصيدة أجواء السرد.
يمكن تقسيم القصيدة إلى قسمين رئيسين، أما القسم الأول فإنه يتألف من مشهدين، يشكل رؤيةَ المشهد الأول منهما عناصرُ ثلاثة، هي:
1 – هنالك في الروح بابان
نافذتان
2 – وشمسٌ لها رغبة في البكاء
3 – وصمتٌ يلوِّحُ ألا بكاءَ سيروي الحنين
يتمحور المعنى في المشهد الأول حول ثنائية ضدية يبرز طرفاها على مستوييْ اللفظ والمضمون (شمسٌ لها رغبةٌ في البكاء – صمتٌ يلوِّحُ ألا بكاءَ سيروي الحنين)، واللافت في مطلع هذا المشهد لفظا ( بابان … نافذتان ) وهما مظهران للدخول والخروج، أي التواصل مع العالم الخارجي/البوح بمكنون النفس، بيد أن هذا التواصل يأخذ شكلين، يمثل لفظ ( بابان ) الشكل الأول وهو التواصل المفتوح الطبيعي دون عوائق، فالنفس تطل على عالمها وعلى العالم الخارجي بصورة طبيعية ومتفاعلة، ويمثل لفظ ( نافذتان ) الشكل الثاني من التواصل، وهو الإطلالة على النفس والعالم من خلال النافذة، أي دون التفاعل، فهي تشاهد فقط ما يحدث حولها للأنثى/ الإنسان دون أن يكون هنالك تغيير فعلي في حياتها، وهو صورة أخرى للثنائية الضدية التي تحكم هذا المشهد، وهو ما جاء في مطلع القصيدة:
وشمسٌ لها رغبة في البكاء
وصمتٌ يلوِّحُ ألا بكاءَ سيروي الحنين
فالرغبة في البكاء هي تعبير عن الوجع والحاجة إلى البوح، فالبكاء لدى الأنثى مظهر من مظاهر التعبير، ولفت الأنظار إلى معاناتها وأوجاعها، وهنا يأتي القامع لهذا البوح، وهو التلويح ألا بكاء سيروي الحنين، أي أن التعبير – هنا – حالة عبثية؛ لأنه لن يؤدي إلى تغيير فعلي في الواقع الأنثوي (يروي الحنين) ويحمل لفظ الحنين هنا شحنات شعورية ضاربة بجذورها في تاريخ الأنثى، فهو تعبير عن حنينها الدائم إلى الخلاص، وتترك لنا القصيدة حرية التخيُّل لمن يحول دون بكاء الشمس؛ ليزيد ذلك حالة اليأس من الخلاص، ويمكن أن يكتسب لفظ (بابان) هنا دلالة أخرى، فالباب الأول يمكن أن يدل على اتباع رغبة الشمس في البكاء، أي البوح والخروج إلى العالم الحقيقي، أما الباب الثاني فيمكن أن يدل على الصمت والرضا بالواقع واليأس من خلال إقناع النفس بأن لا بكاء سيروي الحنين، ومن ثم تظل النفس أسيرة الحلم بالخلاص بينها وبين نفسها، وهو تأكيد آخر على الثنائية الضدية المتحكمة في هذا المشهد، وهنا تأتي دلالة لفظ (نافذتان) أي أن الخلاص يتمثل في مجرد الإطلالة على العالم من خلال نافذة وهو ما يؤكد عدم المشاركة الفعلية، وأما لفظ (شمس) فقد يدل على الأنثى التائقة إلى البوح (لها رغبة في البكاء/البوح) وهنا يأتي وصف الأنثى بالشمس اعترافًا من القصيدة أن للأنثى تأثيرًا وفاعلية حقيقة وليس خيالا، وأن رغبة الأنثى في التعبير عن نفسها والخلاص نابعة من هذه القدرة الذاتية على التفاعل والتأثير، ولكن العائق يكمن في تيئيسها من اكتشاف ذاتها (لا بكاء سيروي الحنين) من خلال إقناعها بأن التعبير عن نفسها لن يغير من الأمر شيئا. وهنا يأتي المشهد الثاني نتيجة حتمية للمشهد الأول، ويتألف هذا المشهد الثاني من عناصر متعددة، ولكنها تدور جميعا حول هدف واحد وهو جعل الوضع على ما هو عليه (فلا تفتحوا الباب) إذ تقول القصيدة:
فلا تفتحوا الباب
1 – خلُّوا الهواء يمارس طقس التجلي
2 – دعوا الشمس تلبس خلخالها
3 – تراقص ضوء الحقيقة حين تكسَّرُ في الظلِّ
حين تعود إلى العتمة المشتهاة
ففي العتمة النار تُذكي الغناءَ طويلا.. طويلا
4 – تعلِّقُ نسيانَها في سماء الغياب
5 – وتسدلُ فصلا جديدًا لرقصتها
ساترًا عرْيَ روحي
ومن الملاحظ أن هذه العناصر تنقسم إلى قسمين، الأول توجيه بأن يُخلُّوا الهواء يمارس طقس التجلي، وإذا كان الباب مغلقا فإن الهواء هنا يصبح فاسدًا؛ ليتوافق ذلك مع الدلالة الكلية لهذا المشهد، وأما القسم الثاني من هذا المشهد فإنه يتعلق بالمظهر الخارجي للشمس، وهو أن يتركوا الشمس تلبس خلخالها وتراقص ضوء الحقيقة، وتعلق نسيانها في سماء الغياب، وتسدل فصلا جديدا لرقصتها، ويستوقفنا في هذا المشهد بعض الألفاظ الدالة والكاشفة، ومنها (خلخالها) وهو رمز للزينة عند المرأة، وكأن الشمس/الأنثى لا فعل لها حقيقة سوى الزينة، أو أن النظرة لها ينبغي أن تتركز حول مظهرها الخارجي وهو التزيُّن، فلا وجود لها خارج هذا الإطار، وكذلك لفظ (نسيانها) وهو تأكيد للدلالة السابقة أن المرأة منسية وغائبة، ويتأكد هذا المعنى في السطر التالي مباشرة (وتسدلُ فصلا جديدًا لرقصتها) فلفظ (جديدًا) يوحي أن فصول المرأة المتتالية تؤكد معاناتها، وأن هذا الفصل لن يكون سوى فصل جديد من المعاناة التي استمرت عبر سنوات طويلة.
ولكن اللافت أن الحديث هنا يتوجَّه إلى جهة غير محددة (فلا تفتحوا الباب) فمن هم الذين يتوجَّه إليهم الحديث؟ قد يكون الكلام موجَّهًا للرجال، وهنا تصبح الصورة مكتملة؛ إذ إن الفاعل الحقيقي هو الرجل وأن المرأة ما هي إلى حلية (تلبس خلخالها) ومن ثم يصبح القول بأن المجتمع ذكوري قولا مشروعًا من هذه الزاوية، وقد يكون الكلام موجَّهًا إلى جهة أخرى، وفي الحالتين فإن الحديث يتوجَّه إلى جهة فاعلة ومؤثرة، وقادرة على فتح الباب للشمس أو إغلاقه، ونلاحظ أيضا في هذا المشهد دخول صوت جديد وهو صوت الذات، ويبدأ حضوره منذ مطلع المشهد ويستمر حضور هذا الصوت حتى آخر لفظ في المشهد (ساترًا عُرْيَ روحي).
أما القسم الثاني من القصيدة فيشهد حركة ارتدادية عكسية؛ إذ تعود القصيدة مرتدة إلى البداية متسائلة، ويمكن تقسيم هذا القسم من القصيدة إلى خمسة مشاهد.
يتجلى في المشهد الأول حضور الذات ناشرة أجنحتها، ومهيمنة بصورة واضحة، وتساؤل كاشف عن حقيقة مؤلمة تدركها الذات:
هل كان صوتي يشبه القفلَ المعلَّقَ في مرايا الوقت؟
إن الذات إذ تفعل ذلك تستخدم الاستفهام دون أداة التعجب، ومن ثم فإن السؤال ليس تعجبيًّا بقدر ما هو كشفيٌّ تقريريٌّ. إن الكشف هنا هو عدم جدوى البوح الذي تراه الذات معبِّرًا عن كينونتها، ومجلِّيًا حضورها الفعلي بذاته بدلا من حضورها من خلال الضدِّ.
وفي المشهد الثاني يتأكد الحضور للذات، والفهم والانكشاف الكلي:
1 – أستبيح مسافة بيني وبين الصوت.
2 – تقترب المسافة حين يبتعد الصدى
3 – لا صوت يستر عرْيَ حزني / لا ريق يبتلُّ الكلامُ به
يتكون هذا المشهد من ثلاثة عناصر؛ إذ تبدأ الذات بمحاولة إيجاد نفسها، وأن يكون صوتها معبِّرًا عنها حقيقة، وهنا يغيب الصدى/رجع الصوت، وتتبدَّى الحقيقة وتتجلى ملامحها للعيان، فتصل الذات إلى الانكشاف الكلي (لا صوت يستر عرْيَ حزني / لا ريق يبتلُّ الكلامُ به) وهنا تأخذ القصيدة منحىً عكسيًّا، أو حركة ارتدادية، فيأتي المشهد الثالث في هذا القسم:
فلتفتحوا الباب
ما عادت لهذي الروح من حجبٍ تصدِّق كذبة الأضداد
هل ضوءٌ يجاور عتمة الأرواح
هل ثقلٌ يرجِّحُ كفة الميزان
أين الخفَّةُ التعلو بنا
فنكونها وتكوننا
من قال إن الضدَّ محتاجٌ إلى ضدٍّ ليظهره
وهل من كذبةٍ تستدرج المعنى إلى اللا شيء كالأضداد
من قال إن حقيقة النور الشفيفة لا ترى إلا بليلٍ
يستعير من السواد رداءه
فلنبتكرْ للروح أسئلة جديدة
لقد انكشفت في هذا المشهد الحقيقة كاملة أمام عينيْ الذات، لقد سئمت النفس الأنثوية من كذبة الأضداد، وأن الضد محتاج إلى ضده؛ ليتحقق وجوده الفعلي، أي أن المرأة لا يمكن أن يتحقق وجودها الفعلي إلا في ظل الرجل ولا وجود لها بغير الرجل؛ فالرجل هو الذي يمنحها الوجود الحقيقي.
من قال إن الضد محتاج إلى ضد ليظهره؟!
وهنا قمة الحركة النفسية والإبداعية؛ لأن السؤال هنا تعجبيٌّ استنكاريٌّ، والاستنكار يعني بطريقة ما الوصولُ إلى حقيقة مؤلمة، والكشف عن وهم متحكم في سيرورة حياة الأنثى، وحاكم لوجودها المجتمعي، ومن ثم كانت صرخة الذات في نهاية المشهد رافضة لهذه المقولة المضللة بكل مفرداتها، وباحثة عن الانعتاق الفعلي لا الوهمي:
فلنبتكرْ للروح أسئلة جديدة
وهنا وصلت الذات إلى قمة الحقيقة، وهي ضرورة البحث عن صور جديدة تحكم العلاقات بين طرفي الوجود/الرجل والمرأة، أو بالأحرى عن علاقة جديدة بين الأضداد، لا يكون فيها الضدُّ محتاجًا إلى ضده؛ ليتحقق وجوده.
ويمر المشهد الرابع عبر ثلاث مراحل:
1 – متمرِّدٌ هذا الحوار بداخلي رعدًا وعاصفة وئيدة
2 – وأنين صوتي عابثٌ بالماء يجرح موجه
فتهيج أخت الموج تعبث بالرذاذ وبالصدى
3 – تتكوَّرُ الألفاظُ في حلقي فألفظها سدى
في المرحلة الأولى من هذا المشهد إقرارٌ بأن الحوار السابق – بكل مفرداته – حول كون الضد محتاجًا إلى ضد؛ ليظهره إنما هو حوارٌ داخلي متمركز في بؤرة الذات، ولكنه ليس جامدًا بل حيًّا متفاعلا (رعدًا وعاصفة)، وفي المرحلة الثانية محاولة خجولة من الذات للتعبير، أي الخروج من دائرة الداخل إلى العالم الخارجي، أي البوح بما تريد (وأنين صوتي عابثٌ بالماء) ولا يخفى دلالة لفظيْ (أنين – عابث) في الكشف عن خجل المحاولة، ولكن هذه المحاولة الخجولة تقابل بعنف (فتهيج أخت الموج) فإذا قورن لفظ (أنين) بلفظ (تهيج) انكشف عنف رد الفعل أمام ضعف المحاولة وخجلها، ثم تأتي المرحلة الثالثة نتيجة طبيعية للمرحلة الثانية؛ إذ تتكوَّر الألفاظ وتتجسَّم، فتلقيها الذات من حلقها دون تحفظ (سدى) وكأنها ضاقت بما تحمله في صدرها من معاناة (أنين) وفوق كاهلها من أثقال فأرادت أن تتحرر دفعة واحدة من كل هذه القيود، ليسلمنا ذلك إلى المشهد الخامس والأخير:
فلتصعدي يا روح من باب الكلام
وتسلقي وجه المطر
ولتغسلي بالشعر أوهام البشر
لا .. لا تخافي إن ضللتِ الدربَ وحدكِ
ولتخافي إن فقدتِ بلا قناعٍ في عويل الريح صوتكِ
إن الصعود من باب الكلام وتسلُّق وجه المطر يمثل انتقالا من مجرد الحضور الحكائي/ باب الكـلام إلى التحقق الفعلي/المطر، فينتقل بذلك المشهد من الوهم/ أوهام البشر إلى الحقيقة/ صوتك، وتصل بذلك الموجة الارتدادية إلى قمتها، ويتبدَّى ذلك من خلال أفعال الأمر (فلتصعدي – وتسلَّقي – ولتخافي) والنهي (لا تخافي) إنها القيود والأثقال تلقيها الذات المثقلة والمقيَّدة دفعة واحدة دون أن تلقي بالاً (لا تخافي) وتغلق القصيدة بذلك قوسيها.
وتتجلى الحركة الارتدادية كذلك حادة من خلال إيقاع القصيدة؛ ففي القسم الأول اتخذت الشاعرة من وزن المتقارب (فعولن) أداة لنسج خلايا الرؤية، ولكنها تعود في القسم الثاني لتغيِّر الإيقاع، فتتخذ من وزن الكامل (متفاعلن) أداة للتعبير عن الرؤية، وهي إذ تفعل ذلك تتخذ منحىً مغايرًا متسقةً في ذلك مع الحركة الارتدادية في الرؤية؛ فالقسم الثاني يمثل فوران الأسئلة المؤلمة داخل الذات، وغير خاف الفروق الدلالية بين ما بدأت به القصيدة (لا تفتحوا الباب) وما ختمت به (فلتفتحوا الباب) وهاتان الجملتان تمثلان ماديًّا ودلاليًّا الحركتين المتعاكستين اللتين اتخذتهما الرؤية في القصيدة، وتمثلان كذلك تجلِّيًا للثنائية الضدية التي بدت في مطلع القصيدة، والتي حكمت حركة المعنى صعودًا وهبوطًا عبر القصيدة بأكملها.
الضمائر وحضور الذات:
إن للذات في ديوان بشرى عبد الله حضورًا طاغيًا بحيث نستطيع القول إنها/ الذات تسربت عبر الديوان بأكمله بصورة لا يمكن للعين تجاهلها، وقد بدا ذلك من خلال إحصاء تردد الضمائر الدالة على الذات، سواء أكانت منفصلة ( أنا – نحن) أم متصلة (ي – نا) وقد ترددت هذه الضمائر الدالة على الذات مائة وأربعين مرة، وهو تردد لافت ودال على الحضور المباشر، ففي قصيدة (عبثا كتبت) وحدها ترددت الضمائر الدالة على الذات ثلاثا وستين مرة، ولا يمكن التغاضي عن الرابط بين كثرة تردد هذه الضمائر وعنوان القصيدة الدال على محاولة الذات إثبات وجودها أمام التهميش الذي تتعرض له، وقد بدا ذلك من خلال الضدين الواردين في العنوان (عبثا) و(كتبت)، وهو يتوافق أيضا مع البنية المضمونية لعنوان الديوان (لا ريح للناي). وإذا كانت الضمائر الدالة على الذات فيما سبق تمثل حضورا مباشرا فإن حضورًا آخر للذات قد تجلى بصورة غير مباشرة من خلال تجريد الذات واتخاذها صورة المخاطب – بفتح الطاء – إلى جانب الحضور الهامشي من خلال الحديث عن الذات بضمير الغياب، وهذا كله يدل على أن الذات تحولت إلى جزء من الموضوع المشكِّل للرؤية، ومن ثم فإن علينا أن ننظر إليها/ الذات من حيث كونها منتمية صياغيًّا إلى المبدع دون أن تكون لوحة إسقاط له، “إن مواجهة الذات في الخطاب الشعري تحتاج إلى قدر من الحذر حتى لا يكون هناك خلط بينها وبين المبدع؛ إذ إن الثاني هو الذي يشكل الأولى، ويتعامل معها بلا وعي غالبًا وفي وعي أحيانا”. (د. محمد عبد المطلب، مناورات الشعرية، ص 89) ومن ثم نستطيع القول إن الذات في الديوان تحررت من طبيعتها الفيزيائية، أي أننا ننظر إليها باعتبارها ذاتًا فقط دون أن نسقطها على الشاعرة/ بشرى عبد الله، وهنا يأخذ النص الإبداعي بعدًا فكريًّا وجماليًّا أكثر امتدادًا في الزمان والمكان، وبالتالي تأخذ الرؤية ديمومة إدراكية متحررة من خصوصية المكان لتنتشر في الفضاء الإدراكي العام.
إن التحليل السابق لقصيدة (باب الروح) ورصد حركة المعنى فيها يدل بوضوح على الارتباط الوثيق بين عالم النص/ الديوان والعنوان الذي تتسرب دلالاته عبر القصائد، ويحكم حركة المعنى في الديوان بأكمله ويتحكم في دلالاته، وهو ما أكَّدنا عليه في بداية هذه الدراسة، وسوف نتوقف في الجزء الثاني من الدراسة أمام الرؤية الفكرية في الديوان وعناصر تلك الرؤية، ورصد العلاقات اللغوية والعلاقات البلاغية، ومدى قدرتها على إنتاج الدلالة.