Uncategorizedدراسات ومقالات

نجلاء أحمد حسن تكتب دراما الواقع في مجموعة يوميات حارق الشجر ل.. أحمد الباسوسي

يبحر بنا الأديب المبدع الدكتور أحمد الباسوسي عبر سفينته المبهرة في مجموعته القصصية حول المكان والزمان ‘برسمه البديع والعميق للشخصيات ، يعطي القارئ عمقا وخلفية علمية ؛تستند على كونه معالجا نفسيا بارعا، استطاع بلغته القصصية السردية؛ رسم الشخصيات بعمق وبراعة متخصص، فهو لم يتطرق للشكل العام للشخصية بهيئتها العامة وملابسها وتفاصيلها؛ وألوانها وتفاصيلها الجسدية، بل تطرق الى العميق والمختفي ،من مشاعرها وما يسعدها وما يخيفها وأحلامها، بل وطموحاتها يغرق بها القارئ في متعة بصرية ويجول بخاطره وخياله ليتوحد مع شخصياته الحية التي تتحرك وتتحدث وتعشق ، وتحكى لنا من خلال سرده الغني المولد للدلالات العميقة رغم بساطتها ،ولا يمكن أن تكتمل الصورة الذهنية لخيال القارئ إلا بوجودها ؛ كادرات سينمائية للشخصيات يكونها المؤلف داخل سينما عقل القارئ. فيسعد عندما تسعد ويبكي ويتأثر به ويخاف ويشمئز لحياتها وتفاصيلها الدقيقة .

جمع د احمد فى سرده أشكال متعددة للرّوایــة السردية، فنرصــد الــراوي وســرده الــذي یكــون علــى ثلاثــة أشكال على النحو الآتي:
1 -الرؤية مـن الخلـف: حیـث یعلـم السّـارد أكثـر ممـا تعلـم الشخصـیة، ویكـون السّـارد علیمـاً بكل مجریات القصّة
. 2 -الرؤية من عند: ویكون السارد هنا متواضع المعرفة، فیعرف ما تعرفه الشخصیة فقط
. 3 -الرؤية من الخارج: ویكون السّارد هنـا محـدود المعرفـة، حیـث یعـرف أقـلّ ممـا تعرفـه أيّ شخصية في الرّوایة، فیصف لنا ما یراه ویسمعه فقط .

في قصة يوميات حارق الشجر وهي المعنون بها المجموعة ؛وأكثرها تأثيرا لمعايشة تلك الشخصيات في عالمنا المعاصر وهى عرض تفصيلي ودليل توضيحي لدورة حياة شخصية المتعصب منذ طفولته ؛ وكيف يحول مجلسه منذ طفولته، الى فوضى وعنف وإزعاج لجميع أقرانه وذويهم فقط لوجوده هو في هذا العالم ، ودوام احساسه بوجوب استمرار حالة العراك الدائم ومعادة الأخر وعدم تقبله ، وحالة الأنا العالية التي تسيطر عليه منذ مرحلة مراهقته؛ وكان التفوق الدراسي ؛ملاذه فى إثبات كبريائه وإحساسه بالفخر والاستحقاق والجدارة ؛وهو فى حقيقة الأمر ينزوي وينطوي وينعزل عن العالم ؛ في صراع وسباق مع العالم ؛ويغطى كل ما سبق بحالة الهدوء ؛والخجل ليمنحه العالم أوسمة الطيبة ودرجات التدين الممتازة ، ليجد الملاذ في نهاية الأمر في أحضان الجماعة ،التي تقدر إمكانياته وتمنحه حلم السيطرة والتمكين ؛ وما تمنحه له الجماعة السيكولوجية ،من إشباع حالة التناغم والإخاء والمؤازرة ؛ التي ترضيه ولما لا وقد عزلته عن العالم الخارجي بعيدا عن نسيج مجتمعه و أسرته التي يجد نفسه غريبا عنها ، منبوذا يصارع أفكاره معهم؛ فينتقد ملابس أخته التي تدعو له بالهداية ؛عندما واجه أسرته بزواجه من إحدى سيدات الجماعة ؛ بعيدا عن الأسرة ،غير مبال برأيهم ؛ وسط دهشتهم التي أجدها غير مبررة فهي نتيجة لعدم اكتراثهم بسلوكه العدواني منذ الطفولة الى مراهقته ؛ثم انزوائه عنهم وعدم انتمائه لهم وإحساسه بعدم الولاء لهم ولا حتى من باب حفظ الجميل ،ولا من باب صلة الرحم التى تحث عليه جميع الأديان

وفي أحضان الجماعة الملاذ والأسرة ،بل هي الهوية فالجميع واحد والكليانية التي ظهرت في الثلاثينيات من القرن العشرين؛ هي أساس الهوس بالزعيم المعصوم من الخطأ ولا قيمة للفرد وحيدا، بل قيمته في خدمة الجماعة السلطوية ؛والمهيمنة على شعورهم بشكل شمولي متسلط وهو لا يشعر بالسطوة ،حتى نجده في مشهد التفجير الذى يتم استخدامه فيه ليعيش لحظات متعة الطفولة الأولى، في التمتع بسماع صراخات وأهات المستغيثين من الأبرياء الذين يؤدون عملهم وواجبهم الوطني في دورية الجيش لحفظ الأمن والأمان ،ومشهد المارين الشهداء الأبرياء فى الشارع بلا ذنب في فترات الفوضى التي خلفتها الثورة ،ونجد تفاصيل ومبررات الهوس بقتلهم بعد حالة الاعتقال التي تعرض لها من قبل السلطة

في قصة الشيخ الطائر و عجل أمينة
نجد رصد المؤلف لإحدى عناصر التراث الشعبي في شخصية عبيط القرية؛ الرشيق الحافي القدمين يجرى فوق الأسطح المرتفعة ،مقتنص صراخات النسوة من حوله ،وسخرية الصغار ونعتهم له بالعبيط وأمساكهم بجلبابه تارة وجريهم وراءه تارة أخرى
رسم لنا المبدع أحمد الباسوسي شكل شخصية العبيط المثالية، فهو متمثلا في الجثة الضخمة الممتلئة بشهوتي البطن والسرة ؛المملؤة بالأسمال المهترئة التي يعرضها على العامة ثم اختفاءه أياما وأسابيع؛ بين دهشة وقلق الجميع عليه، فهو جزء لا يتجزأ من فكر ووجدان أهل القرية فهو تارة يفضح الفساد ،وتارة أخرى يشتم الفاسدين والعتاه ،من أهل القرية ولا أحد يستطيع محاسبته فهو فى ضمير من حوله مريضا أحيانا ،وراجل بركة وزاهد فى فكر المتصوفة تارة أخرى ،وقد تسأله النسوة عن أمور غيبية ،مثل متى تتزوج البنات فهو يجسد صورة أحد الأولياء الصالحين ،فهو سلطان قلوب الطيبين والمهمشين والمقهورين والمظلومين وضميرهم اليقظ ولسان حالهم والمعبر عن مكنون صدورهم .

فنجد أن شخصية العبيط تظهر فى ثقافات انحاء العالم فنجد فى أمريكا ام الدنيا تعطى جائزة سنوية لأكثر الاشخاص حماقة ، وتمنحه لقب عبيط القرية ، فى إحتفالية كبيرة بهدف لفت الأنظار إلى هذه القرية المنعزلة عن العالم ، ورواج سلعها وأنها موجوده على الخريطة
نفس الفكرة في ذاكرة القرية التي تبحث عن العبيط في سارتر نجده رمزا مفعما بالروحانية من خلال حراكه الإيجابي وحبه للجميع .
وفى الطيب صالح نجده رمزا لجمال الحياة ،الذى جمع أجمل فتاة مع أقبح شاب ،بعيدا عن الزيف أو قبح النفوس والقلوب، وتم استخدامه في الدراما وتوظيفه كأداة سحرية لنقد الأوضاع المتردية ،وفضح الفساد والفاسدين . فهو في نظر المجتمع لا يمكن السيطرة عليه يتحرك فى كل مكان كما يحلو له، ويتحدث كما يريد ومن جهة أخرى هو مختل ومريض ولا يؤخذ بحديثه .

ونجده في الدراما شخصية محورية للأحداث من حوله يمثلها محمد توفيق في شخصية (ابن صبيحة ) في حسن ونعيمة ،وصلاح السعدني في شخصية ( علواني ) في فيلم الأرض . وعادل إمام فى شخصية (عرفة ) عشيق النساء في فيلم المتسول.
فهو ضحية مجتمع يعجز عن استيعاب وفهم طبيعة مريض الإعاقة ، منذ لحظة ميلاده حتى وفاته فهو ولي من الأولياء عند وجوده متحملا هموم الناس والمجتمع من حوله ،وصانعا الخيال عند اختفاءه ،ونعته بأنه من أهل الخطوة فهو هنا فى قريته ،وفى نفس الوقت فى حجر إسماعيل يصلى وعند مماته يتم نصب المشاهد للاستفادة من الأسطورة الشعبية اقتصاديا بعمل الموالد ،كل رجب وكل مولد ويوم وفاته، فى رواج حالة الاقتصاد ولما لا فلا صوت يعلو على صوت المال والحركة الاقتصادية فهو أيقونة الأسطورة الشعبية في خيال مجتمعه.
وينسج لنا المبدع الكبير د أحمد الباسوسي في قصة العجوز والحرب تفاصيل الأشياء التي ارتبطت بالذكريات؛ في مخيلة محارب عجوز في أثناء رحلته من غرفته إلى الصالة للبحث عن أنيس وحدته وباعث ذكرياته المذياع الأبنوس. الذى يؤنس وحدته مع زوجته التي ارتضت للعيش معه طيلة عشرون عاما بلا علاقة حميمة ، وفى كل خطواته ما يزال صوته من إذاعة صوت العرب يلقى بيانا النصر وهو وزملاؤه الجنود متحلقين حول القائد لسماع البيان وحالة الرعب التي يجدونها من البيئة الجبلية الغريبة التي ألقت بالرعب ألوانا من الجحيم واصنافا ، لما يسمعونه من اشكال التعذيب و الذبح فى المساء التي تمارسها الأرواح الشريرة فى المساء تنتهى رحلة المحارب العجوز ، واقتناصه ضالته وهو المذياع وليجلس بجواره ويستمع الى إذاعة القران الكريم ، التى لم يحرك ترددها منذ عشرون عاما

وحالة التغير التي تعيشها المرأة في مجتمعها سرد المؤلف تفاصيلها باقتدار في قصة فتاة لا تغطي شعرها ، تتجسد فيها حالة إصرار المجتمع على القولبة، ونبذ الاختلاف بل واستهجانه وتحقيره والتضييق عليه ومحاربته النفسية والمعنوية ؛خصوصا إن كان يتجسد فى شخصية إمراة جميلة ذات شعر ناعم بلاتيني وألوان فساتين مبهجة تعطى للشكل العام للصورة والرؤية حالة من التفاؤل والبهجة
ينبذها مجتمع رضى للمرأة بالاختفاء والاختباء والتهميش وإحساسها بالتحقير وانها بلا قيمة وبلا فكر فهي شبه إنسان ، ولكننا هنا نحكى على حالة التمرد للمرأة، التى أرادت أن تعيش نفسها ،بلا الخضوع للتقولب؛ أمام عالم قاسي؛ اتسع بمساحات الكآبة السوداء والصرامة والألوان القاتمة وتقديس كلمة اللحى الطويلة التي تزين عقول جامدة وحادة وعيون قاسية ممتعضة كارهة لألوان الطبيعة التي خلقها الله ؛ ثم تاقت روح تلك الفتاة الى رحلة عمرة ودارت فى فلك الروحانيات مع الجموع ؛وارتاحت نفسها الى هذا الفلك ورجعت مستسلمة ومتسربلة بعباءتها السوداء وغطاء رأس قاتم غطى ملامحها وشعرها ولم يعد أحدا يلحظها بعد ذلك اليوم فى قالبها الجديد وهو حالة إستسلامها التي رصدها المؤلف .

وفي قصة الأشباح تقتل فى الظلام يحيلنا الأديب الكبير أحمد الباسوسي ،الى حالة المرح والضحك والاستهزاء والكوميديا بين الجنود وبعضهم؛ تنقلب الى حالة من الترقب والوجوم لمجرد تلاوة ذلك الشاويش المعهود ؛بترهله ومشيته العرجاء الذى حمل ورقة في يده احالة الجو العام للشباب الجالسون القرفصاء للدهشة تلاها الشاويش أسماء العساكر استعدادا لترحيلهم الى سيناء .
وصف المبدع حالة من الكآبة والدموع والوداع سادت جو المعسكر الذى أظهرت صورة الأشباح الملثمة الشريرة التي تظهر لتقتصف أرواحهم في الظلام ،ويزرعون القنابل والموت فى كل مكان ، والمودعين يطلبون لأنفسهم الشهادة فداء لتراب الوطن .وصوت الشاويش يحث العساكر الشبان الصغار بقلوبهم الصغيرة البضة ،وهم يركبون أوتوبيسات مملؤة بالحزن والإصرار على الشهادة فداء للوطن .غادرت السيارات ومازال الراوي يبكى بحرقة و يمشي وحيدا منتظرا دوره القادم سطرا فى ورقة يحملها الشاويش.

وفي قصة صائد الذباب رصد لنا الأديب أحمد الباسوسي لحالة شائعة في مجتمعنا المعاصر أحد شباب الخريجين من إحدى الجامعات المصرية ؛والذي تخرج ليجد البطالة فى انتظاره ويصبح عبئا على أسرة ، هلكها الإصابة بفيروس الكبدي سي اللعين للأب وداء السكري اللعين، للأم التى ماتزال الابتسامة والأمل، لا يفارقون وجهها التعيس فابنها الذكر الوحيد على أربعة إناث، يجمعهم بيتا متهالكاُ يحوطه المجاري، التى علمته كيف يتكيف بالقفز هنا وهناك لكى لا ينال ملابسه منها القاذورات حتى يصل الى منزله .

ارتضى بالعمل بأحد الكافيهات ،في أحد المولات الضخمة ، التي انتشرت مؤخرا فى إحدى الوظائف التي تتطلب تركيزا كبيرا ،فهو يتحرك برشاقة بين الطاولات برشاقة لاعب التنس وفى يده مضربا يقتنص به الذباب ولا يتركه إلا بعد سماع صوت ؛ تك تك ليرجع لتركيزه مرة اخرى ليقتنص ذبابات جديدة  وفي حلة عشق العمل الفريدة في قصة رجل المقشة حالة جديدة للإنسان المحب لعمله البسيط برفقة محبوبته ورفيقة رحلة عمله المقشة ،والذي يصوره المؤلف أنه يسعد كل صباح لخدمته في ذلك المكتب والذي ضحى بالترقية من اجل تلك المتعة
مازلنا نعيش حياة شخصيات الواقع السحري لعالم المبدع أحمد الباسوسي من خلال أدبه المتدفق نحو المجتمع ومنه.

 أوبرا مصر  – دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى