أخبار عاجلةملفات وحوارات

حيدر حيدر رحيل صاحب الوليمة (5)

مشهدية الاغتراب وأزمة استلاب الهوية في وليمة لأعشاب البحر

منال رضوان

رواية وليمة لأعشاب البحر رواية الروائي والقاص السوري حيدر حيدر، والصادرة في العام ١٩٨٣ عقب عدة أعمال قصصية وروائية، كان قد بدأها قبيل منتصف الستينيات، حيث شرع وقتذاك في مراسلة كبريات المجلات والدوريات العربية، كما يعد من الأعضاء المؤسسين لاتحاد الكتاب العرب*.
وقد أقام في عدة دول كلبنان والجزائر وقبرص؛ مما جعل للمكان الأثر الواضح في كتاباته، التي وسمت بأفكار تعنى بثيمة الاغتراب وتزخر بسرد الأحداث والتغييرات التي جرت في المنطقة طوال السبعة عقود الأخيرة.
وبوجه عام يعد حيدر من الكتاب الذين اهتموا بأزمة فقدان الهوية والتحدث عنها في مُناخ من السوداوية ‘Melancholia’ ، تلك التي تجد اعتبارها لديه بصورة لا يمكن وأن تغيب ذائقة المتلقي عنها.
وعقب عدة أعمال تنوعت فيما بين المجموعات القصصية وبين الرواية، كالومض والوعول والزمن الموحش، وغيرها جاء ذلك العمل، والذي تأثر صاحب الوليمة فيه بأيديولوجية اشتراكية بدت ذات نكهة شديدة الوضوح.
هنا.. وحيث كان قد أعلن انضمامه إلى التيار العربي الوحدي قبل ثلاثة عقود تقريبًا من ذلك التاريخ، والذي كان قد انخرط فيه مع زملائه إبان دراسته في معهد المعلمين التربوي، كما انضم في مرحلة لاحقة من حياته إلى المقاومة الفلسطينية؛ لتبدو كتاباته غارقة في الهم العربي بشكل ملموس.
كذا أجاد حيدر التعبير عن فكرة استلاب الحريات أثناء الاستعمار، أو المعاناة من فقد الهوية بعد التحرر في العديد من كتاباته.

وهي الفكرة الرئيسة التي تمحور هذا العمل حولها، والذي تسبب في إثارة الكثير من اللغط، مما أدى إلى مصادرته ومنعه **.
بيد أنه من الجدير بالذكر أن الرواية لم يتم مصادرتها ومنع تداولها – فعليًا – في عدة بلدان عربية، إلا عقب سبع عشرة سنة من صدورها، (تحديدًا في العام ٢٠٠٠) .
واستند الرأي الداعم لمصادرتها إلى وجود ألفاظ تمس المعتقدات الدينية، فضلًا عن وجود بعض الألفاظ الأخرى الخادشة للحياء، بينما على الجانب الآخر، رد الفريق الداعم للرواية، بأن تأويل اللفظ العقائدي الوارد بها، له من الأسانيد ما يفند أصل وسبب ومقصد وجوده.
وفي ظل الصراع بين الطرفين، والذي حسمت نهايته لصالح الفريق الأشد تأثيرًا على أرض الواقع، تمت مصادرة الرواية بالفعل في مصر، ثم في العديد من الدول العربية عقب ذلك.
واليوم وبعد مرور ما يقارب من أربعة عقود من صدور طبعتها الأولى، يمكننا أن نعيد قراءة العمل بشيء من روية، وكما اعتدنا سنعمل على تقييمه أدبيًا – لا محاكمته – وذلك في إطار استكمال الرؤية الساعية إلى الولوج عبر بنية النص في بعض الروايات التي أثير الجدل بشأنها ، والسعي نحو فض الاشتباك الواقع عن طريق قراءة أدبية تبتعد كل البعد عن إثارة المزيد من الجدل والذي من المفترض أن تكون صلاحيته قد انتهت بفعل الزمن، أو.. هكذا نتمنى، وإن لم يحدث؛ فعلى الأقل نكون التزمنا قدر الإمكان بتحليل النص الروائي وفق المنظور الأدبي الذي هو شغلنا الشاغل في المقام الأول.
عن العمل:
تدور الأحداث حول “مهدي جواد” ذلك الشيوعي الذي هرب من العراق وارتحل إلى الجزائر، ويتقابل هناك مع مناضلة (سابقة) “فلة بو عنابة” والتي عانت من ارتكاس واضح في سلوكها نتيجة المتغييرات الحادثة اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا عقب التحرر من نير الاستعمار الفرنسي، وفي الوقت ذاته يتقابل مهدي مع شخصية أخرى وهي “آسيا”، الفتاة التي تحاول تعلم العربية لغة الآباء والأجداد؛ في محاولة منها لاسترداد هوية سليبة أضاعها الاستعمار قبل زمن، ولكن يبدو أن معاناتها الآن جراء أزمة أخرى؛ إذ تجد هويتها وقد اختطفت من جديد، ولكن هذه المرة لصالح التيار المتطرف.
ومن الملاحظ هنا أن حيدر حاول اللعب على أزمة الهوية، والسعي إلى تجذير الأصول عقب اقتلاعها، نتيجة الاستعمار أو التآمر والقفز إلى السلطة من قبل أصحاب بعض المفاهيم المناهضة للحريات.
ومنذ السطور الأولى، يمكننا إدراك مدى الأزمة التي يعانيها مهدي في صحبة آسيا، ومقاومتهما لبعض المتطرفين الذين حاولوا توقيفهما..
وعبر عبارات جاءت وفق أسلوب السرد المباشر، تم إيجاز الفكرة الرئيسة الجاثمة فوق صدر “مهدي” والعالقة برأسه أو رأس حيدر ذاته،
فعقب حادث الاعتداء الواقع عليه بصحبة آسيا، إذا به يقوم بمراجعة حياته ومعتقداته في مشهد بليغ قد أعقب ذلك المفتتح السردي الصادم :
(( مستلق على السرير يحدق في سقف عار، قرأ جملة وردية مفزعة:
أكنت مخدوعًا يا مهدي جواد؟
– لكنه في مساء هادىء سيقرأ عبارة لشاعر ألماني مجنون:
” عندما نفسك المتلهفة تتخطى زمنك، تمكث جزئيًا على شاطىء بارد بين أهلك وأنت لا تعرفهم. ولكن مهما يكن العالم باردًا وبلا غناء في وقت ما، فمن حقل أبيض، وغالبًا ما يغني طائر في وحشة “….))
هذه العبارات تلخص الحال من مراجعة للذات، عن طريق الشك في الأفكار التي سبق وأن اعتنقها، لكنه سرعان ما ينقل لنفسه العزاء، ويعود ليبث الأمل من جديد في عروقه التي بدت ظَمْأَى للحرية أو للحياة، فلا شيء هنا سوى الأحلام القديمة التي فر من العراق لعدم تحققها، لكنه وجد أن تأويلها في بونه أشد قسوة من واقعه المرير الذي تركه.
ومن الملاحظ أن حيدر قام بعقد المقارنات بين حال العراق إبان فترة أحداث الثامن من شباط ١٩٦٨ وبين حال الجزائر عقب الاستقلال في العام ١٩٦٢ وتحديدًا في الخامس من يوليو؛ وما أعقب ذلك بسنوات، إذ تحدث عن وطنين لهما الهموم ذاتها من حيث المعاناة من آثار الظلم أو الإصرار على طمس الهوية، وأزمة التهميش للتيار العربي التي تنامت عبر التفكيك القصدي للمفاهيم الوحدوية، والتي اتضح بالتجربة مثالية من اعتنقها، أو زيف واستغلال بعض من نادوا بها، فها هو مهدي هناك في وطنه يطارد من قبل السلطات، وهنا “فلة بوعناب” المناضلة السابقة، والتي تحولت في نظر الجميع إلى بائعة للهوى، تتعرض للتنكيل، وهي من قاومت الاحتلال ذات يوم، قبل تلك الحال البائسة التي أمست عليها.
كما عمد حيدر، إلى استرجاع الأحداث المختلفة والحادثة في فترات زمنية سابقة، عن طريق السرد التراكمي، وهو وإن استعاد الأحداث المتنوعة، لكنه منح للمتلقي عبر أسلوب (السرد المتكرر) فرصة عقد المقارنات في سلاسة، ففي جلسة بين الأصدقاء يمكن أن يقص مهيار قصته، لتلتقط فلة طرف الخيط وتقص حكايات مقاومتها، وذكرياتها مع “سي طاهر” الصديق الوفي الذي استشهد، والذي مثل الحلم المجهض والأمل الضائع من دون نهضة حقيقية حدثت في البلدان العربية عقب التحرر.
– ووفق الزمن، نلاحظ أن العالم التخييلي أو ما يعرف بزمن القصة، لم يتم ترتيبه كرونولوجيًا، حسب تتابع حدوث الوقائع، فعلى سبيل المثال، عندما تتكلم أو تتذكر فلة ما حدث لها جراء ملاحقتها في وطنها عقب الاستقلال، نجد أن مهدي يتحدث قبلها عن مآساة وطنه فنستعرض معهما الأحداث من دون الالتفات إلى ترتيب زمن حدوثها، وهكذا تتم المراوحة فيما بين الأزمتين والزمنين على طول زمن القص، والذي اعتمد حيدر الرهان فيه على المتلقي، بوصفه الجزء الآخر من الذات أو ( المسرود له) تاركًا إليه مهمة إعادة الترتيب، مع إتاحة الفرصة لعقد تلك المقارنات بأسلوب غير مباشر.
كما ظهرت بجلاء البنية الثقافية والاجتماعية في أسلوب السرد والتي من المفترض أن يُنْتَج النص في إطارها، وتعد إحدى المعايير المهمة لمدى نجاحه في توصيل الفكرة، والتي بدت ملاءمة للنص زمنيًا، ولا نقصد بالتزامن هنا فقط السنوات، وإنما نلفت الأنظار إلى الثوابت التي تُحَمَّلْ عليها تلك البنية الاجتماعية؛ فمنذ الشراشف التي تستخدمها ” لالا فضيلة ” أم آسيا في منزلها المتشرب بموجودات البيئة الجزائرية من بسط ومتاع، واستخدام الألفاظ الدخيلة باللكنة المحلية (يعايشك) (وسي) وغيرها وسط فصحى سردًا وحوارًا، مرورًا بالشتائم على لسان “فلة” وإيماءاتها، ثم الحركات أو النظرة الاجتماعية ذاتها لمجتمع يعاني النكوص بعد التحرر، كل هذا التفاعل مع السياق الاجتماعي إيجابًا وسلبًا، قبولًا ورفضًا ضمن سيسيولوجية منتجة للنص، جعلت من العسير قراءة تفصيلاته إلا من داخل هذا النص ذاته،
أو بمعنى آخر من الأفضل أن تتم قراءة النص قراءة مفتوحة دون إسقاط قناعة سابقة أو مصادرة على المطلوب؛ فهذه القراءة المفتوحة يمكنها أن تكشف الكثير من مشكلات الاستعمار وآثاره البغيضة، وإن بدا النص صادمًا في طرحه بعض الشيء؛ لكنه ولا شك يغير من طبيعة النسق السيميائي المتصور والمتحكم في التبادل الاجتماعي والذي يكد في السعي نحو تجسيم (الآن) بأزمتها الخانقة على المواطن العربي.
لكن التعاطي والتعامل مع هذا العمل وفق قناعة مسبقة، لن يحسم النتيجة بشكل موضوعي؛ فنصوص حيدر بوجه عام تعتمد أسلوب المباغتة الصادمة لتمرير القناعة، وهذا الأسلوب تدور في فلكه بعض الأمور الملاحظة تتلخص في :
– عدم ضمان وصول المقصد؛ فاستخدام الألفاظ التي تحتمل الخلاف، في مراحل يزداد اللغط فيها يمكن أن يخلخل الفكرة ويؤرجحها حد السقوط، أو يعمل على تمويهها حد الضياع، كمثال:
-((وفي ذلك الزمن لم يكن الرهان على إدارة بوصلة الوقت، إنما كان رهانًا على إنقاذ ما يمكن إنقاذه في برهة انفلات المبادرة ودخول شمس العراق تحت الخسوف الرمادي، حيث لن يعرف لا الحزب ولا الرب متى ستشرق من جديد)) وبدورنا نسأل ما المقصود هنا بكلمة (الرب) هل هو الله ؟
– بالنظر إلى استخدام كلمات : (الرب) و (الإله) وتكرارهما على لسان شخوص الرواية، فإن ذلك يستلزم منا رد اللفظ إلى تأويله المعجمي’* لنجد :
١ – رب : (اسم) الجمع : أرباب وربوب، المؤنث : ربة والجمع للمؤنث : ربات ورِباب.
الرَّب : السيد
إله : (اسم) الجمع : آلهة، المؤنث : إلهة وإلاهة ، والجمع للمؤنث : آلهة.
الإله : كل ما اتخذ معبودًا بحق أو بغير حق، وهو ما يؤكده حيدر من خلال المقطع الآتي :
(( بالطغيان وسطوة الآلهة…..
هاي هتلر ، هاي كريم ، هاي عارف. وسائر الهايات التي ستأتي وتصرخ بصوت طاغ )) .
إذن، فإن اللفظ هنا لا يقصد به الله؛ فلفظ الجلالة لا يثنى أو يجمع، كما يتضح من السياق السردي أن المقصود هو رأس السلطة، وليس الخالق سبحانه رب العالمين .
ويتضح ذلك أكثر في المقطع الآتي :
(( والطغاة يتناسلون كالدود في البالوعات ويدق الجنرالات – الآلهة – الأرض بأحذيتهم الإسمنتية قل وداعًا ! إذن للاستقرار والبيوت والسكينة الهابطة على عباد الله الهاجعين )).
فلفظ الآلهة قصد به هنا أرباب الحكم، بينما لفظ الجلالة ذكر بلا تثنية أو جمع في موضعه السليم.
– لكن، وإن كان حيدر وفريقه يعتقدون أنهم يلقون الأحجار في مياه راكدة عبر استخدام حيلة من الإسقاط للدلالة على سطوة الحكم وطغيانه، لكن وعلى جهة مقابلة، قال الواقع كلمته في منع وصول العمل إلى القراء بشكل كان مستحقًا.
إن الفكرة الرئيسة مهما بلغت قدسيتها، ستزول إلى جانب سطحية يمكن أن تُعَامل بها من قبل البعض، في مجتمعات شئنا أم أبينا ما زالت ترزح تحت وطأة الموروث الحسن فيه والسيء سواء بسواء، وتعاني أحيانًا عدم وجود الرحابة في التأويل .
فكان من الأولى في سبيل جلال الفكرة ونبل مقصدها ، أن تتشرب القناعات بالاختلاف رويدًا رويدًا، لا أن تُغمر الرؤوس دفعة واحدة تسمح بالتربص كما حدث – فعليًا – على أرض الواقع.
هذا مع توافر القناعة لدينا حول النص، الذي لا يمكن أن يسمى أو يحدد وفق فرضية مسبقة، بل يتحتم خضوعه أو مثوله لتوجه مزدوج نحو نسق دال ينتج اللسان واللغة، ولزوم سيرورته سيرورة اجتماعية يساهم فيها كخطاب مؤثر، وإلا فقد أهم أدواره في سبيل معارك جانبية لا طائل منها، كذا فإن نقد أى عمل مع التغافل عن تلك الفرضية المسبقة سيكون جائرًا منقوصًا، النقص ذاته الذي يؤخذ على العمل الذي يتغافل عن تلك الفرضية أثناء كتابته.
– وفي جوانب مضيئة من تلك الرواية، سعى حيدر إلى التأكيد على وجوب عودة الهوية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهو على العكس مما أشيع؛ تجده يؤكد على حتمية العودة للفطرة الإنسانية السليمة وإنقاذ الحلم العربي الذي تم إجهاضه، إذ لا سبيل غيره للخروج من أزمتنا الراهنة.
فها هي آسيا بنت سي العربي الأخضر تحاول تعلم العربية حتى تتقنها وتلجأ في ذلك إلى مهدي، وهي تترحم على والدها الذي استشهد على يد الاستعمار الفرنسي، وتترك بإرادتها صديقها الفرنسي، لتخبر مهدي برغبتها في التحدث بالعربية كأبيها.
كما نجد فلة تتذكر كلام وأحلام (سي طاهر) إبان الاستعمار حيث يقول:
(( انظري يا فلة إلى هؤلاء الجياع والحفاة والمقملين كيف يقدمون كل شيء.
كل شيء يا فلة : الطعام واللباس والمأوى والحيوانات والدم. هؤلاء البحر ونحن السمك، الآن نحن بينهم كما كان رسولنا “محمد’ مع المهاجرين بين الأنصار في يثرب. المستقبل لابد وأن يكون لهم بعد تحرير البلاد من طاغوت فرنسا.))
فعن طريق اختيار الأسماء و تصوير الصفات الجسدية لشخوص روايته وبيان تأزمهم النفسي جراء فقد الهوية، استطاع حيدر أن يؤكد فكرته في ترميز دلالي بدا موفقًا إلى حد بعيد.
فها هو ذا “مهيار الباهلي” صديق مهدي مَثَّل بجسده الضئيل وانكساره الدائم، الانهزامية والتخبط والضياع بين أيديولوجيات متعاقبة ومتباينة، حسب أهواء الحكام وأطماعهم وعنه يقول :
(( كان يتحول في الجامعة بعد هزيمة حزيران نحو الماركسية، لقد سقط الرهان على الخط القومي البرجوازي بهزيمة عبد الناصر .
وفي كلية الفلسفة وباحة جامعة بغداد كانوا يستفزون تحوله الجديد : شيخ نجفي بعمامة ماركسية . ويضيفون :
من الحسين إلى عبد الناصر إلى ماركس . ها يا عيني! إلى أين تتوطد الثورة )).

وكما مثلت آسيا ابنة سي العربي المقاومة للقبح ومحاولة استرداد الحلم المستلب، جاءت فلة امرأة مُستهلكة، أريقت إنسانيتها بشكل تام عقب إجهاض حلمها؛ فبدت سكرى أغلب الوقت، ضعيفة زائغة، يمر الرجال على اختلاف جنسياتهم ومشاربهم فوق جسدها المنهك، وظل مهدي يبحث عن ضالته أو أمنيته وهي الحق في الحياة بلا خوف أو ملاحقة من مستعمر أو مستبد .
لذا يمكننا تلخيص القضية كلها في :
أزمة الارتكاس عقب الانتصار، وهي الأزمة التي حدثت بالفعل لكثير من المجتمعات العربية عقب الاستقلال أو الانتصار في حروب كبرى،
ليقر حيدر أنه لا سبيل للمقاومة والنهوض من جديد إلا عن طريق الرجوع إلى آخر نقطة أرادوا لنا ألا نغادرها.
(( فلة : ألا ترين أنك تبالغين؟!
وترد المرأة الخائبة : أنت لا تعرف هؤلاء الناس . البشر هنا أشرار ووسخون أكثر مما تتصور.
– لا . لا أعتقد . لكل شعب أشراره . هذا الذي يطفو الآن ليس عمق الشعب الذي قاتل .
– ولكن إلى أين رحلت تلك الروح؟ تسأل وعيناها محروقتان .
ولكنهم …. سرقوا الثورة واغتالوها )).
هوامش:
– *تأسس اتحاد الكتاب العرب عام 1969، بناءً على المرسوم التشريعي رقم (72) من مجلس الوزراء بتاريخ 28 كانون الثاني (يناير) 1969، ويقع مركزه في دمشق.
-** في عام ١٩٩٩ قامت سلسلة ” آفاق الكتابة ” التابعة للهيئة العامة لقصور الثقافة، تحت رئاسة الأديب الراحل إبراهيم أصلان (١٩٣٥ : ٢٠١٢) بإصدار طبعة من رواية وليمة لأعشاب البحر، كتب أحد الصحفيين مقالًا يعترض فيه على النشر، فرد وقتها الروائي القدير خيري شلبي بمقال مضاد في شهر مارس من العام ذاته، قبل تدخل صحيفة الشعب والمعروف توجهها، عقب ذلك اشتعلت الأزمة التي أدت إلى حدوث بعض المواجهات انتهت بمنع الرواية وسحب النسخ.
– ‘*معجم المعاني الجامع.
– تزفيتان تودوروف Tzvetan Todorov . المسارب الحكائية، (القراءة كبناء) – مقال – ترجمة : عبد الرحمن بوعلي، نظريات القراءة من البنيوية إلى جمالية التلقي / دار الحوار للنشر والتوزيع ط . ثانية ٢٠١٩.
– جوليا كريستيڤا Julia Kristeva . علم النص، ترجمة فريد الزاهي، دار توبقال للنشر ط . أ . ١٩٩١
– سعيد يقطين . انفتاح النص الروائي ( النص والسياق) الناشر/ المركز الثقافي العربي . الدار البيضاء – المغرب طبعة ثانية ٢٠٠١
– شعبان عبد الحكيم . حركة النقد الجديد وتحليل النص الروائي، المجلس الأعلى للثقافة ط. أ. ٢٠٢٢

رواية وليمة لأعشاب البحر رواية الروائي والقاص السوري حيدر حيدر، والصادرة في العام ١٩٨٣ عقب عدة أعمال قصصية وروائية، كان قد بدأها قبيل منتصف الستينيات، حيث شرع وقتذاك في مراسلة كبريات المجلات والدوريات العربية، كما يعد من الأعضاء المؤسسين لاتحاد الكتاب العرب*.
وقد أقام في عدة دول كلبنان والجزائر وقبرص؛ مما جعل للمكان الأثر الواضح في كتاباته، التي وسمت بأفكار تعنى بثيمة الاغتراب وتزخر بسرد الأحداث والتغييرات التي جرت في المنطقة طوال السبعة عقود الأخيرة.
وبوجه عام يعد حيدر من الكتاب الذين اهتموا بأزمة فقدان الهوية والتحدث عنها في مُناخ من السوداوية ‘Melancholia’ ، تلك التي تجد اعتبارها لديه بصورة لا يمكن وأن تغيب ذائقة المتلقي عنها.
وعقب عدة أعمال تنوعت فيما بين المجموعات القصصية وبين الرواية، كالومض والوعول والزمن الموحش، وغيرها جاء ذلك العمل، والذي تأثر صاحب الوليمة فيه بأيديولوجية اشتراكية بدت ذات نكهة شديدة الوضوح.
هنا.. وحيث كان قد أعلن انضمامه إلى التيار العربي الوحدي قبل ثلاثة عقود تقريبًا من ذلك التاريخ، والذي كان قد انخرط فيه مع زملائه إبان دراسته في معهد المعلمين التربوي، كما انضم في مرحلة لاحقة من حياته إلى المقاومة الفلسطينية؛ لتبدو كتاباته غارقة في الهم العربي بشكل ملموس.
كذا أجاد حيدر التعبير عن فكرة استلاب الحريات أثناء الاستعمار، أو المعاناة من فقد الهوية بعد التحرر في العديد من كتاباته.

وهي الفكرة الرئيسة التي تمحور هذا العمل حولها، والذي تسبب في إثارة الكثير من اللغط، مما أدى إلى مصادرته ومنعه **.
بيد أنه من الجدير بالذكر أن الرواية لم يتم مصادرتها ومنع تداولها – فعليًا – في عدة بلدان عربية، إلا عقب سبع عشرة سنة من صدورها، (تحديدًا في العام ٢٠٠٠) .
واستند الرأي الداعم لمصادرتها إلى وجود ألفاظ تمس المعتقدات الدينية، فضلًا عن وجود بعض الألفاظ الأخرى الخادشة للحياء، بينما على الجانب الآخر، رد الفريق الداعم للرواية، بأن تأويل اللفظ العقائدي الوارد بها، له من الأسانيد ما يفند أصل وسبب ومقصد وجوده.
وفي ظل الصراع بين الطرفين، والذي حسمت نهايته لصالح الفريق الأشد تأثيرًا على أرض الواقع، تمت مصادرة الرواية بالفعل في مصر، ثم في العديد من الدول العربية عقب ذلك.
واليوم وبعد مرور ما يقارب من أربعة عقود من صدور طبعتها الأولى، يمكننا أن نعيد قراءة العمل بشيء من روية، وكما اعتدنا سنعمل على تقييمه أدبيًا – لا محاكمته – وذلك في إطار استكمال الرؤية الساعية إلى الولوج عبر بنية النص في بعض الروايات التي أثير الجدل بشأنها ، والسعي نحو فض الاشتباك الواقع عن طريق قراءة أدبية تبتعد كل البعد عن إثارة المزيد من الجدل والذي من المفترض أن تكون صلاحيته قد انتهت بفعل الزمن، أو.. هكذا نتمنى، وإن لم يحدث؛ فعلى الأقل نكون التزمنا قدر الإمكان بتحليل النص الروائي وفق المنظور الأدبي الذي هو شغلنا الشاغل في المقام الأول.
عن العمل:
تدور الأحداث حول “مهدي جواد” ذلك الشيوعي الذي هرب من العراق وارتحل إلى الجزائر، ويتقابل هناك مع مناضلة (سابقة) “فلة بو عنابة” والتي عانت من ارتكاس واضح في سلوكها نتيجة المتغييرات الحادثة اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا عقب التحرر من نير الاستعمار الفرنسي، وفي الوقت ذاته يتقابل مهدي مع شخصية أخرى وهي “آسيا”، الفتاة التي تحاول تعلم العربية لغة الآباء والأجداد؛ في محاولة منها لاسترداد هوية سليبة أضاعها الاستعمار قبل زمن، ولكن يبدو أن معاناتها الآن جراء أزمة أخرى؛ إذ تجد هويتها وقد اختطفت من جديد، ولكن هذه المرة لصالح التيار المتطرف.
ومن الملاحظ هنا أن حيدر حاول اللعب على أزمة الهوية، والسعي إلى تجذير الأصول عقب اقتلاعها، نتيجة الاستعمار أو التآمر والقفز إلى السلطة من قبل أصحاب بعض المفاهيم المناهضة للحريات.
ومنذ السطور الأولى، يمكننا إدراك مدى الأزمة التي يعانيها مهدي في صحبة آسيا، ومقاومتهما لبعض المتطرفين الذين حاولوا توقيفهما..
وعبر عبارات جاءت وفق أسلوب السرد المباشر، تم إيجاز الفكرة الرئيسة الجاثمة فوق صدر “مهدي” والعالقة برأسه أو رأس حيدر ذاته،
فعقب حادث الاعتداء الواقع عليه بصحبة آسيا، إذا به يقوم بمراجعة حياته ومعتقداته في مشهد بليغ قد أعقب ذلك المفتتح السردي الصادم :
(( مستلق على السرير يحدق في سقف عار، قرأ جملة وردية مفزعة:
أكنت مخدوعًا يا مهدي جواد؟
– لكنه في مساء هادىء سيقرأ عبارة لشاعر ألماني مجنون:
” عندما نفسك المتلهفة تتخطى زمنك، تمكث جزئيًا على شاطىء بارد بين أهلك وأنت لا تعرفهم. ولكن مهما يكن العالم باردًا وبلا غناء في وقت ما، فمن حقل أبيض، وغالبًا ما يغني طائر في وحشة “….))
هذه العبارات تلخص الحال من مراجعة للذات، عن طريق الشك في الأفكار التي سبق وأن اعتنقها، لكنه سرعان ما ينقل لنفسه العزاء، ويعود ليبث الأمل من جديد في عروقه التي بدت ظَمْأَى للحرية أو للحياة، فلا شيء هنا سوى الأحلام القديمة التي فر من العراق لعدم تحققها، لكنه وجد أن تأويلها في بونه أشد قسوة من واقعه المرير الذي تركه.
ومن الملاحظ أن حيدر قام بعقد المقارنات بين حال العراق إبان فترة أحداث الثامن من شباط ١٩٦٨ وبين حال الجزائر عقب الاستقلال في العام ١٩٦٢ وتحديدًا في الخامس من يوليو؛ وما أعقب ذلك بسنوات، إذ تحدث عن وطنين لهما الهموم ذاتها من حيث المعاناة من آثار الظلم أو الإصرار على طمس الهوية، وأزمة التهميش للتيار العربي التي تنامت عبر التفكيك القصدي للمفاهيم الوحدوية، والتي اتضح بالتجربة مثالية من اعتنقها، أو زيف واستغلال بعض من نادوا بها، فها هو مهدي هناك في وطنه يطارد من قبل السلطات، وهنا “فلة بوعناب” المناضلة السابقة، والتي تحولت في نظر الجميع إلى بائعة للهوى، تتعرض للتنكيل، وهي من قاومت الاحتلال ذات يوم، قبل تلك الحال البائسة التي أمست عليها.
كما عمد حيدر، إلى استرجاع الأحداث المختلفة والحادثة في فترات زمنية سابقة، عن طريق السرد التراكمي، وهو وإن استعاد الأحداث المتنوعة، لكنه منح للمتلقي عبر أسلوب (السرد المتكرر) فرصة عقد المقارنات في سلاسة، ففي جلسة بين الأصدقاء يمكن أن يقص مهيار قصته، لتلتقط فلة طرف الخيط وتقص حكايات مقاومتها، وذكرياتها مع “سي طاهر” الصديق الوفي الذي استشهد، والذي مثل الحلم المجهض والأمل الضائع من دون نهضة حقيقية حدثت في البلدان العربية عقب التحرر.
– ووفق الزمن، نلاحظ أن العالم التخييلي أو ما يعرف بزمن القصة، لم يتم ترتيبه كرونولوجيًا، حسب تتابع حدوث الوقائع، فعلى سبيل المثال، عندما تتكلم أو تتذكر فلة ما حدث لها جراء ملاحقتها في وطنها عقب الاستقلال، نجد أن مهدي يتحدث قبلها عن مآساة وطنه فنستعرض معهما الأحداث من دون الالتفات إلى ترتيب زمن حدوثها، وهكذا تتم المراوحة فيما بين الأزمتين والزمنين على طول زمن القص، والذي اعتمد حيدر الرهان فيه على المتلقي، بوصفه الجزء الآخر من الذات أو ( المسرود له) تاركًا إليه مهمة إعادة الترتيب، مع إتاحة الفرصة لعقد تلك المقارنات بأسلوب غير مباشر.
كما ظهرت بجلاء البنية الثقافية والاجتماعية في أسلوب السرد والتي من المفترض أن يُنْتَج النص في إطارها، وتعد إحدى المعايير المهمة لمدى نجاحه في توصيل الفكرة، والتي بدت ملاءمة للنص زمنيًا، ولا نقصد بالتزامن هنا فقط السنوات، وإنما نلفت الأنظار إلى الثوابت التي تُحَمَّلْ عليها تلك البنية الاجتماعية؛ فمنذ الشراشف التي تستخدمها ” لالا فضيلة ” أم آسيا في منزلها المتشرب بموجودات البيئة الجزائرية من بسط ومتاع، واستخدام الألفاظ الدخيلة باللكنة المحلية (يعايشك) (وسي) وغيرها وسط فصحى سردًا وحوارًا، مرورًا بالشتائم على لسان “فلة” وإيماءاتها، ثم الحركات أو النظرة الاجتماعية ذاتها لمجتمع يعاني النكوص بعد التحرر، كل هذا التفاعل مع السياق الاجتماعي إيجابًا وسلبًا، قبولًا ورفضًا ضمن سيسيولوجية منتجة للنص، جعلت من العسير قراءة تفصيلاته إلا من داخل هذا النص ذاته،
أو بمعنى آخر من الأفضل أن تتم قراءة النص قراءة مفتوحة دون إسقاط قناعة سابقة أو مصادرة على المطلوب؛ فهذه القراءة المفتوحة يمكنها أن تكشف الكثير من مشكلات الاستعمار وآثاره البغيضة، وإن بدا النص صادمًا في طرحه بعض الشيء؛ لكنه ولا شك يغير من طبيعة النسق السيميائي المتصور والمتحكم في التبادل الاجتماعي والذي يكد في السعي نحو تجسيم (الآن) بأزمتها الخانقة على المواطن العربي.
لكن التعاطي والتعامل مع هذا العمل وفق قناعة مسبقة، لن يحسم النتيجة بشكل موضوعي؛ فنصوص حيدر بوجه عام تعتمد أسلوب المباغتة الصادمة لتمرير القناعة، وهذا الأسلوب تدور في فلكه بعض الأمور الملاحظة تتلخص في :
– عدم ضمان وصول المقصد؛ فاستخدام الألفاظ التي تحتمل الخلاف، في مراحل يزداد اللغط فيها يمكن أن يخلخل الفكرة ويؤرجحها حد السقوط، أو يعمل على تمويهها حد الضياع، كمثال:
-((وفي ذلك الزمن لم يكن الرهان على إدارة بوصلة الوقت، إنما كان رهانًا على إنقاذ ما يمكن إنقاذه في برهة انفلات المبادرة ودخول شمس العراق تحت الخسوف الرمادي، حيث لن يعرف لا الحزب ولا الرب متى ستشرق من جديد)) وبدورنا نسأل ما المقصود هنا بكلمة (الرب) هل هو الله ؟
– بالنظر إلى استخدام كلمات : (الرب) و (الإله) وتكرارهما على لسان شخوص الرواية، فإن ذلك يستلزم منا رد اللفظ إلى تأويله المعجمي’* لنجد :
١ – رب : (اسم) الجمع : أرباب وربوب، المؤنث : ربة والجمع للمؤنث : ربات ورِباب.
الرَّب : السيد
إله : (اسم) الجمع : آلهة، المؤنث : إلهة وإلاهة ، والجمع للمؤنث : آلهة.
الإله : كل ما اتخذ معبودًا بحق أو بغير حق، وهو ما يؤكده حيدر من خلال المقطع الآتي :
(( بالطغيان وسطوة الآلهة…..
هاي هتلر ، هاي كريم ، هاي عارف. وسائر الهايات التي ستأتي وتصرخ بصوت طاغ )) .
إذن، فإن اللفظ هنا لا يقصد به الله؛ فلفظ الجلالة لا يثنى أو يجمع، كما يتضح من السياق السردي أن المقصود هو رأس السلطة، وليس الخالق سبحانه رب العالمين .
ويتضح ذلك أكثر في المقطع الآتي :
(( والطغاة يتناسلون كالدود في البالوعات ويدق الجنرالات – الآلهة – الأرض بأحذيتهم الإسمنتية قل وداعًا ! إذن للاستقرار والبيوت والسكينة الهابطة على عباد الله الهاجعين )).
فلفظ الآلهة قصد به هنا أرباب الحكم، بينما لفظ الجلالة ذكر بلا تثنية أو جمع في موضعه السليم.
– لكن، وإن كان حيدر وفريقه يعتقدون أنهم يلقون الأحجار في مياه راكدة عبر استخدام حيلة من الإسقاط للدلالة على سطوة الحكم وطغيانه، لكن وعلى جهة مقابلة، قال الواقع كلمته في منع وصول العمل إلى القراء بشكل كان مستحقًا.
إن الفكرة الرئيسة مهما بلغت قدسيتها، ستزول إلى جانب سطحية يمكن أن تُعَامل بها من قبل البعض، في مجتمعات شئنا أم أبينا ما زالت ترزح تحت وطأة الموروث الحسن فيه والسيء سواء بسواء، وتعاني أحيانًا عدم وجود الرحابة في التأويل .
فكان من الأولى في سبيل جلال الفكرة ونبل مقصدها ، أن تتشرب القناعات بالاختلاف رويدًا رويدًا، لا أن تُغمر الرؤوس دفعة واحدة تسمح بالتربص كما حدث – فعليًا – على أرض الواقع.
هذا مع توافر القناعة لدينا حول النص، الذي لا يمكن أن يسمى أو يحدد وفق فرضية مسبقة، بل يتحتم خضوعه أو مثوله لتوجه مزدوج نحو نسق دال ينتج اللسان واللغة، ولزوم سيرورته سيرورة اجتماعية يساهم فيها كخطاب مؤثر، وإلا فقد أهم أدواره في سبيل معارك جانبية لا طائل منها، كذا فإن نقد أى عمل مع التغافل عن تلك الفرضية المسبقة سيكون جائرًا منقوصًا، النقص ذاته الذي يؤخذ على العمل الذي يتغافل عن تلك الفرضية أثناء كتابته.
– وفي جوانب مضيئة من تلك الرواية، سعى حيدر إلى التأكيد على وجوب عودة الهوية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهو على العكس مما أشيع؛ تجده يؤكد على حتمية العودة للفطرة الإنسانية السليمة وإنقاذ الحلم العربي الذي تم إجهاضه، إذ لا سبيل غيره للخروج من أزمتنا الراهنة.
فها هي آسيا بنت سي العربي الأخضر تحاول تعلم العربية حتى تتقنها وتلجأ في ذلك إلى مهدي، وهي تترحم على والدها الذي استشهد على يد الاستعمار الفرنسي، وتترك بإرادتها صديقها الفرنسي، لتخبر مهدي برغبتها في التحدث بالعربية كأبيها.
كما نجد فلة تتذكر كلام وأحلام (سي طاهر) إبان الاستعمار حيث يقول:
(( انظري يا فلة إلى هؤلاء الجياع والحفاة والمقملين كيف يقدمون كل شيء.
كل شيء يا فلة : الطعام واللباس والمأوى والحيوانات والدم. هؤلاء البحر ونحن السمك، الآن نحن بينهم كما كان رسولنا “محمد’ مع المهاجرين بين الأنصار في يثرب. المستقبل لابد وأن يكون لهم بعد تحرير البلاد من طاغوت فرنسا.))
فعن طريق اختيار الأسماء و تصوير الصفات الجسدية لشخوص روايته وبيان تأزمهم النفسي جراء فقد الهوية، استطاع حيدر أن يؤكد فكرته في ترميز دلالي بدا موفقًا إلى حد بعيد.
فها هو ذا “مهيار الباهلي” صديق مهدي مَثَّل بجسده الضئيل وانكساره الدائم، الانهزامية والتخبط والضياع بين أيديولوجيات متعاقبة ومتباينة، حسب أهواء الحكام وأطماعهم وعنه يقول :
(( كان يتحول في الجامعة بعد هزيمة حزيران نحو الماركسية، لقد سقط الرهان على الخط القومي البرجوازي بهزيمة عبد الناصر .
وفي كلية الفلسفة وباحة جامعة بغداد كانوا يستفزون تحوله الجديد : شيخ نجفي بعمامة ماركسية . ويضيفون :
من الحسين إلى عبد الناصر إلى ماركس . ها يا عيني! إلى أين تتوطد الثورة )).

وكما مثلت آسيا ابنة سي العربي المقاومة للقبح ومحاولة استرداد الحلم المستلب، جاءت فلة امرأة مُستهلكة، أريقت إنسانيتها بشكل تام عقب إجهاض حلمها؛ فبدت سكرى أغلب الوقت، ضعيفة زائغة، يمر الرجال على اختلاف جنسياتهم ومشاربهم فوق جسدها المنهك، وظل مهدي يبحث عن ضالته أو أمنيته وهي الحق في الحياة بلا خوف أو ملاحقة من مستعمر أو مستبد .
لذا يمكننا تلخيص القضية كلها في :
أزمة الارتكاس عقب الانتصار، وهي الأزمة التي حدثت بالفعل لكثير من المجتمعات العربية عقب الاستقلال أو الانتصار في حروب كبرى،
ليقر حيدر أنه لا سبيل للمقاومة والنهوض من جديد إلا عن طريق الرجوع إلى آخر نقطة أرادوا لنا ألا نغادرها.
(( فلة : ألا ترين أنك تبالغين؟!
وترد المرأة الخائبة : أنت لا تعرف هؤلاء الناس . البشر هنا أشرار ووسخون أكثر مما تتصور.
– لا . لا أعتقد . لكل شعب أشراره . هذا الذي يطفو الآن ليس عمق الشعب الذي قاتل .
– ولكن إلى أين رحلت تلك الروح؟ تسأل وعيناها محروقتان .
ولكنهم …. سرقوا الثورة واغتالوها )).
هوامش:
– *تأسس اتحاد الكتاب العرب عام 1969، بناءً على المرسوم التشريعي رقم (72) من مجلس الوزراء بتاريخ 28 كانون الثاني (يناير) 1969، ويقع مركزه في دمشق.
-** في عام ١٩٩٩ قامت سلسلة ” آفاق الكتابة ” التابعة للهيئة العامة لقصور الثقافة، تحت رئاسة الأديب الراحل إبراهيم أصلان (١٩٣٥ : ٢٠١٢) بإصدار طبعة من رواية وليمة لأعشاب البحر، كتب أحد الصحفيين مقالًا يعترض فيه على النشر، فرد وقتها الروائي القدير خيري شلبي بمقال مضاد في شهر مارس من العام ذاته، قبل تدخل صحيفة الشعب والمعروف توجهها، عقب ذلك اشتعلت الأزمة التي أدت إلى حدوث بعض المواجهات انتهت بمنع الرواية وسحب النسخ.
– ‘*معجم المعاني الجامع.
– تزفيتان تودوروف Tzvetan Todorov . المسارب الحكائية، (القراءة كبناء) – مقال – ترجمة : عبد الرحمن بوعلي، نظريات القراءة من البنيوية إلى جمالية التلقي / دار الحوار للنشر والتوزيع ط . ثانية ٢٠١٩.
– جوليا كريستيڤا Julia Kristeva . علم النص، ترجمة فريد الزاهي، دار توبقال للنشر ط . أ . ١٩٩١
– سعيد يقطين . انفتاح النص الروائي ( النص والسياق) الناشر/ المركز الثقافي العربي . الدار البيضاء – المغرب طبعة ثانية ٢٠٠١
– شعبان عبد الحكيم . حركة النقد الجديد وتحليل النص الروائي، المجلس الأعلى للثقافة ط. أ. ٢٠٢٢

رابط تحميل الملف كاملًا

أوبرا مصر /ملفات وحوارات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى