د. أمل بورشك تكتب بانوراما اللون في سنابل للكاتب الفلسطيني حسام جميل حمدان
في أحد الأمسيات الثقافية أهديت هذا الكتاب من إحدى الزميلات المثقفات ، و هو متوسط الحجم و سهل القراءة ، وضعته جانبا إلى أن وجدت وقتا مناسبا لقراءته ، لفتت نظري صفاء و نقاء ألوان صفحة الغلاف المتدرجة بلون أزرق سماوي بين الغامق والفاتح ، و تظهر تلبد الغيوم في وسطها ونقاء السماء المحيط في أعلاها ، ونباتات قصب السكر التي يقوم مجموعة من الحصادين الذين يحملون أدوات خاصة بحصاد محصولها، مرتدين ملابس زاهية الألوان و هي الزهري و الأبيض و الأحمر و الأصفر ، لكن جذبتني كلمة نصوص نثرية و بدأت بقراءته عندما توفر لي الوقت المناسب لتأمل محتواه الغني بالعبارت التراثية .
بدأ الكاتب المهندس حسام حمدان بإهداء لوالديه وكل أهله و أصدقائه و إلى قرية كفر راعي و مدينة بوسطن بأمريكا التي أتاحت له الفرصة والمجال للعيش و كسب الخبرة وشكر للسيد مراد سارة على التوثيق و إعداد و طبع و نشر هذا الكتاب مقرنا اسمه بكفر راعي / بوسطن ومؤرخا كل صفحة من صفحاته بدقة تامة .
بدأ بعنوان “لمعة نحاس ” في صفحة رقم خمسة ، خاتما إياه بجملة ” التراث قبس و مقياس “. و من هنا استمريت في القراءة ، لأجد في كل صفحة صورة ملتقطة بعناية لمخطوطة بخط يد المهندس الكاتب حسام حمدان ، و التي طبعت أسفلها ذات النصوص ، و كل مخطوطة مصورة كتبت بخط يده معبرة عن مشاعره الصادقة ، و صورت مدى صبره و سعة صدره و ثقته بنفسه ، فالخط اليدوي واضح جدا و مقروء الحروف مع حرص تام على أن يشكل حروفه بكل ما يلزم من حركات ، تساعد القارئ على أن يألف صورة الكتابة اليدوية بالتكرار اللامعهود ، و نطق صوت الحرف كما ينطقه الكاتب بلهجته العامية ، و عندما خشي الكاتب من أن لا ينطق الحرف كما يجب ، استعان بحروف اللغة الإنجليزية سي و ها ليمكن القاريء من صوت ” شي” بالعربية .
تساءلت مالذي يدع الكاتب المهندس حسام حمدان أن يحرص على نشر هذه المخطوطات اليدوية ذات السطور المتوازية و التي كتب عليها باتزان حروفه دون أن يحيد عن السطر ، تبين لي أنه يرسم لوحة تراثية بكلماته الموجزة ، و يحرص على انتقاء عناوين جاذبة مثل ” تشتري وقت ، تقشير اللوز ، السر ضاع مفتاحه ، كمامة الحياة …. الخ ” ، لأجدها مائة و ثمانين عتبة لنصوصه دون تكرار .
و من هنا جذبني كل عنوان للاستمرار في قراءته لأجد كما هائلا من القيم الإيجابية والوطنية والحياتية والايمان بالله والحرص على صلاة الجمعة وعلى سبيل المثال في صفحة (17) مرسال ، ما أجمل الدنيا عندما تتيسر الأمور ، وصفحة (33) تفضل جيرة الله عليك ، و في صفحة (67) مطبل السحور ، و في صفحة (76) لا تقلي أنت مين .. إنت وين قلي …. مين حواليك ، وفي صفحة (97) ترف ، شاور العقل و القلب قبل الكلامي ، أمر المترف حنث بخمار الدماري ، و في صفحة (112) ريد و ريد ، هناك رجال إذا أرادوا أراد الله و في صفحة (170) أغنى شيء بالعلاقة هي الثقة ، حيث أنها لا تعطي و لكن تكسب ، الثقة درجة من الإيمان تؤدي إلى سكينة و اطمئنان ، فالتوكل على الله ثقة …. ما غنى إلا غنى النفس .و في صفحة ( 136) جدران ….جد اجدودي بعرفني أصلي من هون ، وفي صفحة (137) قهوتي سادة .. السكر يحركني من الواحد أحد ، قهوتي سادة حتى لا أسيد على أو أسيء لأحد “.
و عندما انتهيت من قراءة الكتاب الذي استمتعت به في استرجاع بعض مما عايشته مع الاخرين ، وجدت أن الكاتب حسام حمدان يمتلك قدرة على بناء الحروف هندسيا ، و يطوع الحرف لينبض بالتراث الماضي والمعاش و يحرص على استرجاع هذا الترتيب الزمني و الاستغراق فيه بين هذه المخطوطات ، و تبين لي تمكنه من الإطالة و الإيجاز و التوقف والتواتر و طرح التساؤلات أو كتابة ما اعتاده في الماضي مثل يوم الجمعة عدة مرات ، و و جدت أن الكاتب له زاوية نظر خاصة به ، يركز من خلالها على موقع ثابت من التراث ، متبئرا داخليا في أعماق نفسه ، فهو يقرأ ما خطه بيده ، و يحييه بالأحداث التي عايشها ، فهو يوظف جاهدا الصورة و الكلمة و الصوت ليحاكي و يطور من فكر القارئ التراثي .
فهو يؤكد قول رالف والدو ايمرسون ” يجب أن ترتكز البلاغة على أبسط السرد .” ، فهناك قصة وراء كل صورة و كلمة مختزلة ، يؤكد فيها الكاتب حسام حمدان على إحياء التراث التاريخي المحكي و المعاش ، وينثر مبادءه التي اكتسبها بالكفاح المضني في الحياة و العمل الصادق و التي دثرها بحنكته بالتحدي والاتسام بالصبر و القوة .
فتظهر بصمات الكاتب العميقة و المليئة بأخاديد أرض الفلاح المحروثة للزراعة و نثر بذور الأمل فيها للمستقبل .
فهو يعرض بإيجاز مذهل ماضيه ، مع أنه صعد رأسيا في حياة العلم والعمل بتخصص الهندسة والكمبيوتر و السوق المالي و العقارات في بوسطن ، ولكن بعد نظره الثاقب بدأ الكتابة لنظرته الخاصة في الحفاظ على ماضيه الذي يعتبره مصدر قوته و عطائه و ينادي بديمومته من خلال حرفه الخالد على الورق ، فهو يدخل القاريء إلى عوالم يسهل الوصول إليها عبر العلائقية القوية بين المواضيع التي طرحها بإيجاز ، فهو يختم بما تتحدث به كقاريء ، حتى و لو واجهتك بعض الكلمات التي يصعب فهم معناها لبعدها عن زمننا الحالي و اقترابها من الإندثار ، ولكن حرصه على أن يتحقق من نبرة صوت الماضي و المبنية على حقائق معاشة ، يعينك على تفهم أسلوبه الخاص المقترن بتجربته الحية في العالم ، فهنا يتعامل الكاتب حسام حمدان مع الوقت الذي حوله إلى جهاز عصبي لما فات من وقائع و أحداث عاشها ، مظهرا تفاصيل الطبيعة البشرية في استرجاع زمني لما تعايش معه في الماضي حتى لو ابتعد بالمكان و الزمان عن أحداث الماضي ، مناقضا الحاضر المعاش لأن طبيعة النفس البشرية تستدعي هذه الالية لأهميتها في التكوين الحضاري و الفكري للأمم .
لقد برزت فكرة الكاتب في سعيه الدائم للتطور وحب التغيير ، ليقود القاريء إلى سلوك بشري في البحث عن طريقة ما للتكيف و التقدم وفقا لمتطلبات حاضره ، موازنا بين مصدر معرفته الأصيل ، و الذي استمد منه القوة ، و حرصه على الحفاظ عليه ، لتظهر قدرة الإنسان الفريدة في مواكبة مستجدات الحاضر والعصر الحديث ولكنه في لحظة ما يستدعي ماضيه الرابض في أعماقه ليعينه على إكمال دور معرفي آخر مما تعلمه وينقله للآخرين .
فهنا برزت قدرات خاصة بالكاتب حسام حمدان في حبه للغوص في أعماق نفسه ، و استخراج مازال عالقا بها ، ليربطها بتطلعاته المستقبلية الخاصة بفكره المتقد ، ليحفظها من الاندثار و الضياع .
فهو وظف اكتشاف أسرار القدم لا شعوريا ، لتطور خاص ببعد نظره الثاقب و رؤاه المستقبلية للحفاظ على هذا الماضي البعيد مكانا وزمانا ، ليستمد من معتقداته الأصيلة التي نشأ عليها و ليحولها إلى حروف وضاءة ، حتى و إن عاش من أوائل الستينات بعد إنهائه الثانوية العامة و درس هندسة كهرباء و أكمل دراسة الماجستير و اشتغل في مجالات الكمبيوتر و السوق المالي و العقارات و ألف ثلاث كتب شعر باللغة الإنجليزية ، أبت نفسه إلا الحنين إلى حياة الفلاحة و الزراعة بكفر راعي حيث كان لهما تأثيرا كبيرا على أفكاره و مشاعره و حياته في رفع مستوى القيم الاجتماعية والثقافية لديه ، و ليواكب حس المسؤولية التراثي المتنامي لديه ، والذي يدفعه للكتابة بعد كل هذه الخبرات التي مر بها .
نحن أمام كاتب يوظف سيسيولوجيا الاسترجاع بما ينطقه شفهيا و يمارسه سلوكيا كفرد وكجماعة ، واضعا أمام القارئ مئات من القضايا المرشحة للضياع والنسيان و التجاهل .
فهي قد لا تثير انتباه البعض ، أو قد تعد قراءة روتينية ، أو عادية جدا لآخرين ، و لكني وجدتها حروفا تعيد الحياة للماضي ، و تنظم إعادة قراءة كل ما هو مرشح للضياع و الإهمال ، لأن الكاتب حسام حمدان يمتلك ذاتا أصيلة ، و مقتنع بديمومة بقاء هذا الإرث التراثي للعادات والتقاليد ، ليغرسه كسلوك ممارس بين الأفراد والجماعات .
لقد حاول الكاتب حسام حمدان جاهدا بكل ما أوتي من قوة فكرية وعلمية وخبرات حياتية ونظرة مستقبلية خاصة به ، نقل خبراته وفكره لبناء فكر الأجيال القادمة ، فهو يرى مالا يراه القارئ العادي ، فهو يتطلع إلى حماية خاصة للذاكرة الجماعية من التراث المعرفي من الذوبان و الاندثار ، معيدا تقديم هذا الإرث المكتوب باختزال للمجتمع و لقرائه لغاية التفكر و الاستزادة به و إجراء البحوث المستفيضة ببصمة حقبة زمنية مهددة بالاختفاء ، وهي بصمة الكاتب حسام حمدان .
مبارك الإصدار ، وهنيئا لك بهذا الفكر ، فقلة هم من يعترفون بقيمة ماضيهم ، وشكرا لأنك ساعدتني إعادة النظر في كل ما حولي من تراث .
مع كل الاحترام
الأردن ، عمان
د. أمل علمي بورشك
عضو اتحاد الكتاب والأدباء الأردنيين