ياسر عبد الرحمن يكتب حرائر السيرة الهلالية وعودة المسرح الشعري
حسام عزام وفريق "رحيل" يبدعون في ساقية الصاوي
منذ أقل من عام حضرت مناقشة للكاتبة الشابة إسراء حمودة بقصر ثقافة روض الفرج، وكان المخرج حسام عزام هو المشرف على تنظيم الندوة، والذي قرر عمل ندوة أدبية فنية خارج الشكل النمطي للندوات الأدبية والتي كان يقرأ الكاتب فيها بعض أعماله، ثم يناقشه النقاد. فقرر أن يصنع مساحة دائرية منتصف القاعة وكأنه مسرحٌ افتراضي، ثم يقوم بإلقاء النصوص مجموعة من الشعراء والشاعرات، يتحركون في هذه المساحة الخالية المحاطة بالمقاعد بشكل دائري، ويقدمون مقاطع النصوص بمصاحبة فواصل غنائية من كلمات تتماس مع الموضوع الذي يُناقش، ولا أنسى عازف الإيقاع الذى عزف بمهارة مع المطرب الراقي سامح هريدي، الذى أتى من آخر القاعة وفق رؤية المخرج، واستقر فى المنتصف لإتمام أغنيته، وحين رأيت العرض قلت إنه عرض مسرحي وليس ندوة أدبية، وتنبأت أن هذا الفريق المسرحي لن يتوقف، وسوف يطور نفسه إلى أن يصل لأفضل مستوى.
تذكرت هذه اللحظات التي تعد النواة الأولى لبداية تكوين فريق “رحيل” مع مخرجه حسام عزام صاحب الخبرة المسرحية الكبيرة، وذلك أثناء مشاهدة عرض (حرائر السيرة الهلالية) بساقية الصاوي، والتي تحكى عن الأمير رزق ابن نايل سليل الفرسان، وزواجه من خضرة الشريفة التي يصل نسبها للرسول صلى الله علية وسلم، والتي بعد إنجابها (لأبوزيد الهلالي) أنكره أبوه رزق لسواد بشرته، وطرده وأمه من مضارب القبيلة، والسيرة تدور حول الدفاع عن القيم والشرف، فبعد أن يكبر أبوزيد ينتقم لأمه ويقتل عمه الأمير عسقل، ويهزم فرسان الهلالية، منهم حسن ابن سرحان ودياب ابن غانم، ويحكم على بنى هلال أن تعود أمه إلى القبيلة على بساط من الحرير الأخضر، بعد أن تأكدت براءتها.
وبدأت المسرحية الشعرية بتوزيع جيد في وضعية الشخوص، فكان الرواة في مقدمة المسرح على اليمين وعلى اليسار، وهى المناطق الأكثر قوة على خشبة العرض، وبين الرواة توجد شخصية شيحة شقيقة (أبو زيد الهلالي) الذكية الماكرة، التي تمثلها القاصة سوسن رضوان بإلقائها المميز للأشعار وشخصية سعيدة الخادمة، التي تمثلها الإعلامية فاطمة سعد صاحبة الآداء المدهش، وتظهر شخصية خضرة الشريفة خلف الرواة في منتصف المسرح، وفى الخلف تماماً تظهر المطربة التي تألقت في هذا العرض أمنية طارق، والمطرب عاطف سالم والمطرب عابد عبد العال، الذى صنع وجودهما توازناً في الصوت وتوزيعاً فنياً بين طبقات أصواتهم، أضاف مزيداً من الجمال إلى العرض المسرحي.
أما عن الموسيقى فالشاعر والمطرب والفنان متعدد المواهب سامح هريدي هو المشرف الموسيقى على لعرض، واختار ضمن فريقه مجموعة من عازفي الإيقاع المحترفين، منهم على الدف أحمد المصري والرق يوسف محمود و(الطبلة) أحمد أيمن وفوزي حسين، وكان هناك توافق وتنظيم بين فريق الإيقاع من ناحية وعازف الكمان أمجد سامح وعازف الربابة ناجح عمارة من ناحية أخرى، فظهر الفريق الموسيقي بشكل منسجم مما يؤكد قيمة الجهد المبذول في تدريبات وبروفات” سابقة لهذا العرض، ليقدموا موسيقاهم بهذا الشكل الراقي، ولم أستطع فهم كيف عزف الكمان صوت الربابة، وكيف استحضرت الآلتان روح الموالد والحكايات الشعبية، فكل من أمجد وناجح يملكان أسرار النغم الشعبي الذى يأخذ المستمع في رحلة إلى زمان ومكان آخر، وتجعله في حالة من النشوة السحرية التي ليس لها تفسير.
وصياغة الشاعر أشرف الخطيب لهذا الجزء من السيرة الهلالية أضاف خصوصية للعرض فالمخرج حسام عزام بهذه الأشعار قدم لنا محتوى جديدا، فلو كان استعان بأشعار قديمة في نفس الموضوع وما أكثرها؛ لكان الأمر ليس في صالح العرض المسرحي، ونجح الشاعر أشرف الخطيب فى تقديم هذا الجزء من السيرة الهلالي، بأسلوب جيد واستطاع عرض الدراما والشخصيات بما تحمل من أفكار وانفعالات، وتقديم السرد والحوار والتصاعد في الأحداث، استطاع تقديم كل هذا الأدوات الروائية بأسلوب شعرى رفيع المستوى، وبسيط فى طرحة وسهل في مفرداته، وهى المعادلة الأصعب والأهم لنجاح هذا النوع من الأعمال، حيث أن السيرة الهلالية ارتبط حكيها بالموالد والمناسبات العامة ليسمعها الفئات والأعمار المختلفة، ويفهمها الجميع بلا صعوبات، والمؤلف صنع هذا الشيء السهل الممتنع.
ويأت دور الحديث عن الرواة، وقد وضعهم عرض ساقية الصاوي فى اختبار شديد الصعوبة، بسبب حدوث خلل صوتي لانقطاع الاتصال عن بعض أجهزة (المايك) وتكرر هذا الانقطاع أكثرمن مرة، ولأن مجموعة الرواة في الأساس هم شعراء وأدباء، فقد استأنفوا إلقاء الأشعار بلا تردد ولم يتأثروا أو يختل أداءهم بأي صورة، كل ما هنالك أنهم رفعوا مستوى أصواتهم في الإلقاء، واستكملوا العرض بكل براعة وثقة بالنفس، ومنهم مروة تليمة الشاعرة وهانية جمال الفنانة التشكيلية واللتان لهما خبرة كبيرة في إلقاء الشعر ومحمود محمد الشاعر والمسرحي فهو صاحب إلقاء متميز، وهوالراوى الوحيد الذى كان دائم الابتسام، ثم أن تحركاته ورقصاته البسيطة نشرت حالة من البهجة في قلوب المشاهدين، وأيضا الفنانة سوسن رضوان ومريم أحمد تألقتا بأدائهما الراقي والشاعرة إسراء حمودة وفاطمة سعد كانتا أفضل حظا لوجود (مايكات) مستقلة معلقة على أذنيهما ولا ننسى الفنانة هدى محمود وسلمى دخلي بإلقائهم المتميز، الجميع اجتهدوا ورفعوا أصواتهم لأقصى درجة لأن كل فرد يعلم أنه لو ارتبك أو توقف عن التمثيل لحين تشغيل الميكروفون سوف يُفسد العرض، لأن كل جُملة هي مفتاح لجُملة أخرى يقولها ممثل آخر، وأعتقد أن أزمة انقطاع مكبر الصوت هي تجربة لن ينساها الرواة، فهي تعد معركة قاتلوا فيها لينجح العرض، وسيكون المخرج حسام عزام أكثر حرصا على تعيين شخص مهمته مراقبة الصوت ضمن الفريق.
وحيث أن المسرح هو فن ترجمة النص الأدبي إلى عرض تمثيلي بواسطة الممثلين، وإن كان الممثل مبدئيا لا ينتمى للنص، وإنما ينتمى في الأصل إلى خشبة المسرح، فهو يقدم نصوصا متعددة على مسرح واحد وفى النهاية هو يضيف المتعة والمعرفة إلى المُشاهد. ونتساءل من هذا المُنطلق عن مدى علاقة الفريق بالمسرح؟ عن الآداء؟ عن الحركة؟ عن الأزياء والديكور والموسيقى ؟ وعن مدى التفاعل والانسجام بين أبطال العرض؟ فمن حيث الآداء فجميع أعضاء الفريق أهل شعر وأدب، واعتادوا إلقاء أعمالهم سواء أكانت شعرا أو سردا بأداء مسرحي متميز فهم جميعا محترفون في الآداء.
وحيث أن المسرح هو فن ترجمة النص الأدبي إلى عرض تمثيلي من خلال الممثلين، وإن كان الممثل مبدئيا لا ينتمى للنص، وإنما ينتمى في الأصل إلى خشبة المسرح، فهو يقدم نصوصاً متعددة على مسرح واحد وفى النهاية هو يضيف المتعة والمعرفة إلى المُشاهد . ونتساءل من هذا المنطلق عن مدى علاقة الفريق بالمسرح؟ عن الأداء؟ عن الحركة؟ عن الأزياء والديكور والموسيقى؟ وعن مدى التفاعل والانسجام بين أبطال العرض؟ فمن حيث الآداء فجميع أعضاء الفريق أهل شعر وأدب، واعتادوا إلقاء أعمالهم سواء شعر أو سرد بأداء مسرحي متميز فهم جميعا محترفون في الأداء ..
أما الأزياء كانت لافته للأنظار، بألوانها الصاخبة وطريقة تفصيلها، والتي تستحضر بهيئتها أزمنة قديمة مثل التي نراها في الأفلام التاريخية، واللون الأسود بدلالة الحزن ظهرت به فاطمة سعد، بينما الأخضر لشخصية خضرة الشريفة بدلالته المتعددة، الروحانية والإيمانية، فهي سليلة الأشراف، والألوان الزاهية للرواة جذبت الأنظار وشدت الانتباه لبطلات العرض، أما الشاعر محمود محمد بصفته الراوي الوحيد بين الحرائر، لم يكن ثيابه الفضفاضة وعمامته تحمل ملامح تاريخية، فملابسه هي (جلباب صعيدي) عادى جدا، ولكن كان هذا الثوب الفضفاض يحمل بطولة مستقلة، فقد تفاعل مع حركاته الراقصة التي كان يقوم، بها فعندما كان يدور مع ايقاع الموسيقى رافعا يده كان الثوب يتراقص معه ويتطاير، فيبدُ البطل كأنه يتحرك فى رقصة “التحطيب” ، أو كأنه يقدم فقرة فنون شعبية لأهل الصعيد، إضافة أنه كان الأجرأ فى الحركة والأكثر تفاعلاً مع الموسيقى، فجميع البطلات كن يتحركن على استحياء في دورات بسيطة للتفاعل مع الإيقاع، أما الفنان محمود محمد كان يتحرك مع الإيقاع بسعادة وحب، وكأنه معتاد الوقوف والارتجال على خشبة المسرح، إضافة إلى أنه استطاع ملء الفراغ الحركي لمنتصف المسرح، لدرجة انه كان يأخذ (المايك) من المطربة ليضعه أمام الراويات عند انقطاع الصوت، ثم يعيده للمطربة عند بدء فقرة الغناء دون ان يلفت الأنظار إليه، فهو منسجم وهائم مع الإيقاع كأنه أحد الصوفيين في الموالد الشعبية، وكان للفنانة أسراء حمودة حركة واضحة أثناء إلقاء أشعارها في حيز المنتصف الخلفي، وأيضا الفنانة فاطمة سعد كانت تتحرك في منتصف المسرح ثم تعود للجلوس مع الراويات، والحقيقة على الرغم من محدودية الحركة للأبطال إلا أنه يتلاءم مع فكرة العرض، فأنت كمُشاهد لسيرة محكية تُعتبر نصف مُشاهد ونصف مُستمع، فالحكي مع الإيقاع والغناء والموسيقى أعطى المشاهدين حضورا جيدا داخل الحدوتة ، فأنت يهمك الأداء الجيد وهو ما قدمه الرواة بكل مهارة، ولكن إسراء وفاطمة ومحمود أضافوا بحركاتهم البسيطة جمالاً وجاذبيةً للعرض .
أما عن الشاعر سامح هريدي فهو فنان حتى النخاع، وهو الجندي المجهول الذى شارك في نجاح العرض على الرغم من عدم ظهوره على خشبة المسرح، وأعتقد أن المخرج حسام عزام هو الأكثر حظاً بوجود صديق له مثل سامح هريدي فهو فنان متميز وإنسان مخلص و(صاحب صاحبه)، والصداقة هي كلمة السر فى نجاح هذا الفريق، لأنهم في الأساس مجموعة من الأصدقاء المؤمنين بالفن الراقي الساعين إلى تطوير أنفسهم بالعمل الجاد، ويجمعهم حالة من الود والحب والتفاهم؛ فحسام عزام لا يمثل لفريقه شخصية (المخرج) فقط وإنما هو أب روحي لكل أبطال المسرحية، ونجاح العرض هو نتيجة لنجاح العلاقة الإنسانية بينهم.
ومثلما قلت لأعضاء الفريق سابقاً انهم يملكون موهبة التمثيل وأدوات المسرح، وتوقعت لهم الوقوف على خشبة المسرح، فمرت الأيام وجاء عرضهم الراقي (حرائر السيرة الهلالية) وأتوقع لهم الآن الدخول الى حيز نجاح أكبر وآفاق أوسع في العمل المسرحي، مع التذكير أن النجاح ليس سهلا ولكنهم أهل له باجتهادهم وإصرارهم، كما أنه حان الوقت لحسام عزام وهو مخرج قديم وموهوب وأيضا هو ناشر وكاتب، حان الوقت له لينفصل عن جمهوره من عالم الأدباء ليلتقي بجمهور آخر يبحث عنه، وهم محبي المسرح والمهتمين به، وقد عرفت أخباراً عن العرض القادم لهم، وسعدت بذلك، وكل ما أتمناه أن أرى عرضاً قادماً يليق بمستوى هذا الفريق المبدع وهذا المخرج الفنان.