من أجلّاء النبلاء.. سماحة الشيخ محمد الأمين بن ما يأبى الشنقيطي.. حياته ومقالاته”

عمّان – أوبرا مصر
يجسّدُ كتابُ “من أجلّاء النبلاء.. سماحة الشيخ محمد الأمين بن ما يأبى الشنقيطي.. حياته ومقالاته” جهدًا بحثيًا رصينًا، تأمّل صفحاتٍ مضيئةً ومواقفَ عظيمةً من حياة ومآثر عالِمٍ جليلٍ، اضطلعَ بأعباء ٍكبيرةٍ في سبيل إرساء قواعد المعرفة ونَشْر الدعوة على أُسس إصلاحية مُستمدة من هَدْي الإسلام ومِشكاته.
كما يدرسُ الكتابُ بعضَ ما دبّجه بنانُ الشيخ محمد الأمين بن ما يأبى الشنقيطي، وانشرحَ له جنانُه من المقالاتِ العلميّةِ الإصلاحيّة التي تهمّ المسلمين أجمعين، نشرها في مجلاتٍ عدةٍ، مثل: “الرسالة” المصريّة، و”المعلم” التي أصدرتها وزارةُ التربية والتعليم الأردنية، و”هَدْي الإسلام” التي أُسّست برعايته وافتتحت بكتابته في الدعوةِ إلى الله والتمسّكِ بالدين الحنيف.
الكتاب نفسه، وقد صدر حديثًا عن “الآن ناشرون وموزعون”، في الأردن، من إعداد الكاتب والباحث جعفر العقيلي، والشيخ الأديب يحيى محمد الخضر بن ما يأبى الشنقيطي، وجاء في 306 صفحة من القطع الكبير.
ويتأمّل مُعِدّا الكتاب، في فصله الأول، تاريخ عائلة الشنقيطي وسيرته وآثاره، ويبيّنان، وهما يرصدان سماتِ الحياة العلمية للشيخ، أنّه كان عمل في مطلع شبابه كاتبًا في المحكمة الشـرعية في عمّان سنة (1929م)، ثم عُين قاضيًا في السلط (1938م)، ثم في معان (1941م)، ثم في إربد (1942م)، وظلّ في القضاء حتى سنة 1945م حينما عُين مفتيًا لإمارة شـرق الأردن، ثم تولّى منصبَي قاضي القضاة ووزير المعارف في أول حكومة تشكّلت في عهد المملكة، وأُسند المنصبان أو أحدهما إليه غيرَ مرة في التشكيلات الحكومية اللاحقة حتى مطلع الستينات.
وقد شهدت فترة الخمسـينات تبلور شخصية الشـيخ وتطور خبراته، ما أسهم في اضطلاعه بدورٍ محوريّ في عدد من القضايا الساخنة على المستوى الوطني، إذ بُذلت الجهود لمنع قيام وطن قوميّ لليهود على أرض فلسطين، وتصاعدت وتيرة الدعوة إلى التمسُّك بالقومية العربية والدفاع عنها لمواجهة خطر الاحتلال الذي يتهدّد الوطنَ العربي برمّته. وقد شغل الشـيخ محمد الأمين بن ما يأبى الشنقيطي في تلك الفترة منصب قاضي القضاة ووزير المعارف في حكومة سعيد المفتي التي تشكّلت في 12/5/1950م وقدّمت مشـروع وحدة الضفتين إلى مجلس الأمة. وساهم عبر تولّيه رئاسة الهيئة العلمية الإسلامية في مطلع سنة 1951م، في توضيح سماحة الإسلام ووسطيته، كما ساهم عبر رئاسته اللجنة الخاصة بإعمار المقدسات الإسلامية في الحرم القدسـي الشـريف تحت الرعاية الهاشمية (1954م)، في حماية المقدسات الدينية وصيانتها والحفاظ عليها.
ويستذكر مُعِدّا الكتابِ رفقة الشيخ محمد الأمين بن ما يأبى الشنقيطي للملك المؤسس، ويكتبان: كان الشـيخ محمد الأمين بن ما يأبى الشنقيطي بمثابة اليد اليمنى للملك المؤسس في حلّه وترحاله، وكان الملك يجلّه، ويقدّمه في الصلاة، ويستشـيره في المهمات. لذا ليس من المستغرَب أن يكون الشـيخُ الشاهدَ الوحيد على الحادثة المؤلمة التي اغتيل فيها الملك.
فقد دأبَ الشـيخ على مرافقة الملك لأداء صلاة الجمعة في المسجد الأقصـى، وفي يوم الجمعة 20/7/1951م قام خيّاط من القدس يُدعى مصطفى شكري عِشُّو باغتيال الملك، فقد أطلق ثلاث رصاصات على رأسه وصدره، وسارع الشـيخ محمّد الأمين لحمل الملك ومحاولة إسعافه، لكن الإصابة كانت بالغة، فوافت الملكَ على إثرها المنية.
يستذكر الشنقيطي ما جرى قائلًا: (كنت مع جلالته يوم الجمعة في العشـرين من تموز، حينما اتجهنا في الصباح من القدس إلى نابلس بالسـيارة، كان يجلس إلى يمينه الأمير حسـين (جلالة الملك الحسـين لاحقًا)، وكنت أجلس في المقعد أمامه، وأمام الأمير حسـين كان يجلس هاشم الدباس، وعند السائق كان يجلس كبير المرافقين محمّد السعدي)”.
وحول شخصية الشـيخ محمد الأمين بن ما يأبى الشنقيطي يشير مُعِدّا الكتابِ إلى أنها “تميزت بالقيادية والسمات الإنسانية، وقد أجمع الذين عرفوه وعملوا معه وعايشوه على مدار سنوات عمله داخل الأردن وخارجه على أنه رجل ذو علم وخلق، وكان يتمتع بثقافة واسعة واطلاع كبير، إذ تَفتَّحَ وعيه على مكتبة كان أسسها والده العالِم (أول قاضي قضاة في الأردن ومفتي المالكية في المدينة المنورة الإمام محمد الخضر بن ما يأبى الجكني الشنقيطي) خلال فترة إقامته في المدينة المنورة، وكانت تحوي كتبًا من عيون الأدب والفقه والسـياسة والتاريخ. وقد أضاف إليها محمد الأمين بن ما يأبى الشنقيطي نفائس الكتب قبل أن يوصي بها إلى الحرم النبوي الشـريف ومكتبة الملك عبدالعزيز.
وبذكرُ مُعِدّا الكتابِ أن الشـيخ محمد الأمين بن ما يأبى الشنقيطي يُعَدّ المؤسِّسَ الحقيقي لدائرة القضاء الشـرعي في الأردن، وقد شارك في وضع القوانين والأنظمة فيها، كما شارك في وضع الدستور الأردني وفي اعتماده بوصفه قاضيًا للقضاة في عهد جلاله المغفور له الملك طلال بن عبدالله. وخلال مسـيرته في القضاء، قام الشـيخ محمد الأمين بن ما يأبى الشنقيطي بتسـيير الدوائر الشـرعية والأوقاف والزكاة بشكل حثيث وبحرصٍ على التطوير، وتم تأسـيس محكمة شـرعية في مأدبا، وتعيين قاضٍ شـرعيّ لها، وإحداث وظيفة رئيس في ديوان سماحة قاضي القضاة، وتعيين قضاة وكاتِبين من خرّيجي الأزهر وأهل العلم والاختصاص في المحاكم الشـرعية، وجرى توسـيع أعمال مديرية الأيتام في العاصمة وجعلها تابعة لتدقيق دائرة المراقبة وحفظ أموال الصناديق.
ويتضمن الفصل الثاني من الكتاب ما عثر عليه مُعدّاه من مقالات نشرها الشيخُ محمد الأمين بن ما يأبى الشنقيطي في المجلات والصحف في زمنه، وهي مقالات فاخرة، زاخرة بالعلم والأدب، والاعتزاز بالإسلام، والاستبسال في دفع مناوئيه، وكشف مكائد معاديه، بأسلوب علمي رصين جريء صريح بعيد عن المحاباة والمواربة، مع رشاقة الكلمة وقوة الحجة في الدعوة إلى الإصلاح، والتمسك بالدين، والتحذير من مخاطر الملحدين المحادين لله ولرسوله وآله.
ومن تلك المقالاتِ واحدة حملت عنوان “العلم والعلماء”، وفيها يقول الشيخُ محمد الأمين بن ما يأبى الشنقيطي: “زارني قبل أيام رجلٌ من المسلمين، وطلب مني ساعة يبحث معي فيها في أمورٍ تهم العديد من المسلمين، ولم يسعني إلّا أن أُلبّي طلبه. وما إن جلس حتى بدأ ينحو باللائمةِ على العلماء وما وصلوا إليه من التهاون في أمر الدين، والإفتاء بما يخالف القرآن، والحديث، وإجماع الأمة. وقال لي: “أمَا سمعتَ أو قرأتَ ما قاله شيخ من مصر عن جواز صلاة المرأة عاريةَ الذراعين والصدر والرأس، وتقبيل الخطيب لخطيبته ومعانقته لها؟”. قلت: أما إني قد سمعتُ فنعم، أما القراءة فلا؛ لأني لا أجيز لنفسي أن أشتري وأُدخِل بيتي أمثال هذه المجلة التي ذكرتَ أن هذا البحث فيها، وأزيدك أني سمعتُ الآن من زائري هذا الشامي أن شيخًا بالشام أجاز تجنيد المرأة في الثكنات مع الرجال مع اختلاط في التعليم والجلوس والنوم. وأزيدك أني سمعت أن هنا من يقول بجواز ذلك؛ ولكن ما علاقة هذا بالدين؟
وهل كل مَنْ حمل شهادة ولبس جُبّة صار رجل دين يؤخذ بأقواله، ويُسترشد بأفعاله؟
لا، لا يا أخي، فالعلم قسمان؛ علم تستقبله النفوس الطيبة فينعشها، وتخرج بسببه الأقوال الطيبة والثمر اليانع المفيد (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا) [الأعراف: 58]، وعلم تستقبله النفوس الصلدة المظلمة، فهو الذي يضر ولا ينفع، ومثله ما ترى من لعب الصبيان بالمِرآة إذا عكسوها على الشمس، ألا ترى الشعاع المنعكس منها يعشى ويحرق، وذلك أن وجه المرآة صلد لا ينفذ منه النور، وقلبها أسود لا يقبله، فارتدّ لذلك على الآخرين نارًا ونقمةً، أو كمثل الماء يرتد عن الجلمود لا يرويه ولا ينفذ منه، فينحدر عنه إلى حيث لا يملك الصخر تصريفه، ولذا، كان العالِم بصلاحه وفساده أداة الإصلاح والإفساد في الناس. وما ذكرت -أيها الأخ الكريم- من الشطر الثاني فلا غَضاضةَ على الدين منهم، ولا على أبنائه الأتقياء.
قال محدثي: وكيف ساغ بقاؤهم في مراكز حساسة، يُنظر إليهم فيها أنهم رجال دين، وتُقبل أقوالهم؟
فقلت: ذلك سؤال يجب أن يُوجّه إلى المسؤولين عن توليتهم وإبقائهم في المراكز المذكورة، على أني أجيبك إلى الحديث الشريف الصحيح: “إن الله لا ينزع العلم انتزاعًا من صدور العلماء؛ ولكن ينزعه بموت العلماء، حتى إذا لم يَبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالًا، فسُئِلوا فأفتوا بغير علم، فضلّوا وأضلّوا”، فمن ذكرت أيضًا غلب عليهم الجهل؛ قرروا أن يرضوا الناس من قليلي الدين والتحرريين التقدميين بأكاذيب يفترونها على الدين، وهو بريء منها؛ كيما يقال عنهم إنهم علماء متجددون بعيدون عن الرجعية (والرجعية في نظر التقدميين اليوم التمسك ببعض الدين، وعدم السماح بسبّه وانتقاده). فلم يكن من محدثي إلّا أن أطرق، واستمر يكرر: إنا لله وإنا إليه راجعون!
أيها الأخ الكريم، إن العلماء الحقيقيين سراج العباد، ومنار العباد، وقوام الأمة، وينابيع الحكمة، هم غيظ الشيطان، بهم تحيا قلوب أهل الحق، وتموت قلوب أهل الزيغ، مثلهم كمثل النجوم في السماء يُهتدَى بها في ظلمات البر والبحر، إذا انطمست النجوم تحيّروا، وإذا أسفر عنها الظلام أبصروا…”.