دراسات ومقالات

أوبرا مصر تنشر الحلقة الثانية عن اللغة العربية والقرآن لأشرف البولاقي

أوبرا مصر تنشر الحلقة الثانية عن اللغة العربية والقرآن لأشرف البولاقي


 


ارتبطت اللغة العربية بالمقدس على أكثر من مستوى، لكننا معنيون هنا بمستوييْن فقط، نظن أنهما شكّلا خطرًا بالغًا على العربية، كما كانا سببًا من أهم أسباب تراجعها وتأخرها، وسنضطر هنا إلى الإيجاز: المستوى الأول: مستوى الارتباط الذهني والنفسي، باعتبارها لغةَ القرآن الكريم الموجود في اللوح المحفوظ، سواءٌ أكان القرآن قديمًا أم مخلوقًا، فليست تلك هي القضية الآن، لكنّ القضيةَ تنحصر في الأذهان التي تتصور أن القرآن في مادته الأولى الخام كان عربيًا، وهو الأمر الذي يوهِم أن اللهَ يتحدث العربيةَ الفصحى!– تعالى سبحانَه عن ذلك علوًا كبيرًا– وهذا التصور لا يريد أن يلتفت إلى إشارة النص القرآني إلى عربية القرآن مستخدِمًا الفعل (جَعَل)، كقولِه تعالى “إنا جعلناه قرآنًا عربيًا لعلكم تعقلون”- الزخرف 3والجعلُ في اللغة تغيّرٌ في الهيئة والصيرورة، كأن تقول “جعلتُ الماءَ طينًا”، إذ كان الماء شيئًا فصار شيئًا آخر، أو كأن تقول “جعلت الدقيق خبزًا”، إذ يتحول الدقيق من هيئةٍ ليصير على هيئةِ أخرى، والقياس هنا أن القرآن كان شيئًا فـ “جَعَله” الله شيئًا آخرَ ليتفق مع عبادِه ومع ألسنتهم. ومِن هنا يتبين لنا أن هذا التصور الخاص بأن القرآن في مادته الأولى كان باللغة العربية تصورٌ خطأ تمامًا، سينسحب لو آمَنا به على الله سبحانه وتعالى الذي سيصير إلهًا عربيًا يتكلم كما يتكلم العرب. المستوى الآخر: مستوى التنظير والتقعيد للغة العربية، الذي تم كله ونصب أعين اللغويين على القرآن، وهو مستوىً زمني وتاريخي شاءت فيه المقادير أن يتم تدوين التفاسير والأحاديث واجتهادات السلف، في الوقت نفسِه الذي تم فيه وضع القواعد النحوية والصرفية وتدوين اللغةِ والأدب، حتى أن كثيرًا من اللغويين العرب القدماء كانوا ينظرون إلى عربية الكلمة، ويكرّسون لها فقط إذا كانت مذكورةً في كتاب الله! ومن ثم فإنّ أي كلمة مذكورة في القرآن عربية، فإنْ كانت غير ذلك وقام الدليل والشاهد على أنها ليست كذلك، فإنها تصير عربية ما دامت قد ذُكرت في القرآن… (هكذا!) ولعل ما عُرف في الثقافة العربية واللغوية بمسائل “نافع بن الأزرق” مع “عبد الله بن عباس”، خيرُ دليلٍ على ما نذهب إليه، فقد كان ابن عباس، رحِمه الله، يرى، “أن الرجوع إلى الشعر الجاهلي ضروري للاستعانة به على فهم غريب القرآن الكريم، يقول: “الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الكريم الذي أنزله الله تعالى بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا ذلك منه . والقصةُ أن نافع بن الأزرق كان يسأل ابن عباس عن كلمةٍ ما في القرآن، وهل عرَفتها العرب؟ فيجيبه ابن عباس بـ نعم، ويستشهد ببيت الشعر ليدلل على عربية القرآن، وعلى أن اللغة العربية التي تم جمعها وتدوينها جَمَعت ووعَت كل شيء! وكانت المأساة الكبرى في عصر تأسيس الفِقه في القرن الثاني الهجري، عندما اعتمد الفقهاء على كل ما سَبقهم إليه النحاةُ واللغويون، واعتبَروه كاملاً غير منقوص، والتزَموا في تأسيسهم لفِقههم كل ما جاء به علماء اللغة، حتى ما ذهبوا إليه من وجود ألفاظٍ أو حروفٍ زائدة في القرآن الكريم، ما دام النحاة قد أشاروا إليها في تقعيدهم.. وليس ببعيدٍ قولُ النحوي القديم: “إني أفيدك فائدة .. ما بعد إذا زائدةرغم أن وضْع قواعد النحو والصرف جاء تاليًا لوجود اللسان العربي، كما جاء تاليًا لنزول القرآن نفسِه، إلا أنهم لم يفطنوا مثلاً إلى أن سيبوَيه والنحاةَ قالوا، على سبيل المثال، بضرورة مماثلة الفعل للفاعل في الإفراد والتثنية والجمع، وأمَامهم قوله تعالى “هذان خصمان اختصموا”… أو قولهم بضرورة مماثلة الفعل للفاعل في التأنيث والتذكير، وأمامَهم قوله تعالى: “إذا جاءك المؤمنات”، وغير ذلك كثيرٌ في كتاب الله، مما يناقض ما وضَعه النحاة واللغويون وظَل رغم ذلك سائدًا ومسيطرًا على اللغة العربية حتى يومنا هذا، الأمر الذي وإنْ أدّى إلى انفجار علوم البلاغة العربية لتبحث عن المعنى والدلالة فيما بدا انحرافاتٍ لغويةً ونحوية عن التقعيدات القديمة، إلا أنه طَرح أسئلة كثيرةً حول النص من ناحية، وحول اللغة من ناحيةٍ أخرى. وهو ما سنعرض له لاحقًا فيما خالف فيه القرآن قواعد العرب أيضًا. ورغم كل ذلك ظلت قطاعات عريضة من المثقفين العرب واللغويين والنحاة ورجال الدين بالتبعية، يعتبِرون أن اللغة لا خطأ فيها ولا نقصان، وأن سيبوَيه وتلاميذه ومريديه لم يتركوا شاردةً ولا واردة مِن كلام العرب إلا وأتَوا بها وعليها، الأمر الذي لم يكُ في صالح العربية ولا في صالح لغتِها. *مقدمة من قراءة بعنوان “ارتباط العربية بالمقدس- أزمة اللغة وغربة محبيها” (يتبع)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى